لوسي ريزوفا في «عصر الأفندية»: أداء الحداثة في الممارسة اليوميّة(2)

ترجمة: محمد الدخاخني

من النّاحية النّظريّة، احتكرت الدّولة خاصّيّة جعْل المرء حديثًا وجعلتها جزءًا لا يتجزّأ من مؤسّسة التّعليم. بيد أنّه في الممارسة الاجتماعيّة كان مقدار التّعليم الّذي يحتاجه المرء بالفعل للتّأهّل باعتباره أفنديًّا قابلًا للتّفاوض. فأيّ شخص التحق بالمدرسة حتّى ولو لفترةٍ قصيرةٍ يُطلَق عليه اتّفاقًا لقب أفنديّ. حتّى الطّفل الصّغير الّذي كان يُنظَر إليه على أنّه قد اتّخذ خطوةً على طّريق الأفنديّة سيُطلق عليه أفنديّ. وغالبًا ما يتمتّع بمكانةٍ كبيرةٍ في عائلته ومجتمعه المحلّيّ بسبب علاقته الضّمنيّة بمجال العالم الحديث، وبشكلٍ ملموسٍ تمامًا، وصوله المتوقّع في المستقبل إلى الموارد، لا سيّما وظائف الدّولة.

في الاستخدام الاجتماعيّ – على الضّدّ من الاستخدام الرّسميّ في صورة رتبة إداريّة – سيتمّ تطبيق مصطلح أفنديّ على كافّة الأشخاص الّذين يرتدون الملابس الغربيّة الحديثة. ويزعمون ويؤدّون حداثتهم من خلال علامات التّشكيل المرتبطة بالزّيّ. ويمكن أن يعكس الاستخدام الاجتماعيّ للقب أفنديّ ببساطةٍ الاحترام والتّوقير تجاه حامله. بناءً على سعة اطّلاعه المتصوّرة اجتماعيًّا، وربما لا تكون للّقب أيّ علاقة على الإطلاق بالمؤهّلات التّعليميّة الرّسميّة لحامله، أو عدم وجودها. يصف المثقّف الماركسيّ السّيّد يوسف والده بأنّه أفنديّ. حتّى لو لم يرتد البدلة الغربيّة ولم يلتحق بمدرسةٍ حديثة. فهذا الوالد، وهو ابن عائلةٍ فلاحيّةٍ تمتلك 3.5 فدان (أي من صغار الملّاك)، حفظ القرآن وذهب إلى المعهد الدّينيّ العالي في دمياط لمدّة عام واحد. ومع ذلك، فإنّ والد السّيّد يوسف أصبح من وجهاء القرية ومستنيريها الّذين يقرؤون الصّحف ويناقشون السّياسة الدّاخليّة ويتابعون تطوّر المعارك في الخطوط الأماميّة خلال الحرب العالميّة الثّانية. وفي القرية لم يكن هناك سوى عدد قليل من الأشخاص ممّن هم على شاكلته، ويمكن عدّهم على أصابع اليد الواحدة.

***

من الواضح أن ‘كون’ والد السّيّد يوسف ‘أفنديًّا’ جاء كتعبير عن التّقدير العالي الّذي يُكنّه أهل القرية لـ’ثقافته’، والّتي تألّفت من مزيجٍ من سعة الاطّلاع (هنا، تتكوّن بالكامل من التّعليم الدّينيّ). وخبرته في الشّؤون الحالية والّتي راكمها من خلال قراءته للصّحافة. ويرجع أيضًا جزء كبير من رأس المال الثّقافيّ هذا وما تلاه من تقديرٍ كبيرٍ أيضًا إلى تعلّم الأب في دمياط، والّتي، باعتبارها بندرًا، مثّلت مدينةً كبيرةً من وجهة نظر سكّان قريته.

من وجهة نظرهم، رأى والد السّيّد يوسف العالمَ الكبير. وكان والد كاتب آخر للسّيرة الذّاتيّة، عبد الله عنان، قد التحق بمدرسةٍ حديثة (مدرسة إلزاميّة) في قريته. لكنّه لم يُطلق على نفسه لقب أفنديّ إلّا بعد أعوامٍ عديدة، عندما انتقل إلى القاهرة وحصل على وظيفةٍ مكتبيّةٍ كمحاسب. وبالمثل، أصبح جدّ أحد زملائي في القاهرة أفنديًّا فور انتقاله إلى ضاحية شبرا القاهريّة. حيث حصل على وظيفة منظّف شوارع في البلديّة، الأمر الّذي منحه امتياز ارتداء زيٍّ رسميّ. كان هذا الزّيّ الرّسميّ، كما أخبرني زميلي. وهو مؤرّخ مصريّ بارز، هو ما جعل جدّه أفنديًّا في أعين جيرانه، لأنّ هذا الزّيّ الرّسميّ ربطه بشكلٍ واضحٍ بطبقة الموظّفين، و، بالتّالي، بالدّولة المُحدِّثة. فبالرّغم من أنّه كان عامل نظافة، مثّل جدّه يد الحكومة.

***

وهكذا، من الممكن أن يتمّ اجتراح كون المرء أفنديًّا في مراحل محدّدة من حياته، بناءً على وظيفته وسعة اطّلاعه والقرب المحسوس من الدّولة و/أو طبقة الموظّفين، أو، ببساطة، على سبيل التّفضيل. وعادةً، وإن لم يكن بشكلٍ حصريٍّ أو ضروريّ، كان ذلك مصحوبًا بارتداء البدلة الغربيّة، البدلة والطّربوش (أو ارتداء زيّ رسميّ). في الواقع، في بعض الأحيان، كان هذا المظهر هو كلّ ما هو مطلوب ليصبح المرء أفنديًّا. لكن بما أن الزّيّ يتمتّع بهذه القوّة الدّلاليّة، فقد كان يعني أيضًا أنّه قد يُثني عن اعتبار المرء ضمن فئةٍ معيّنة. يقدّم النّصّ الشّهير لطه حسين مجدّدًا تلميحات على كيفيّة التّلاعب بهذه الهويّات الّتي تبدو حصريّة (أو ‘مراقَبة’) في الممارسة اليوميّة. يتذكّر، عندما كان لا يزال طفلًا في قريته. كيف تمّ تعيين مفتّش زراعيّ جديد هناك. أفنديّ، بطبيعة الحال، يرتدي الطّربوش ويتحدّث الفرنسيّة. وليكن معلومًا أنّه تخرّج في كلية الفنون والحرف في القاهرة.

***

ومع ذلك، اتّضح في مرحلةٍ ما أنّ هذا المفتّش كان يعرف كلّ القراءات المُقرّة والمختلفة لتلاوة القرآن. وهو موضوع يُدرس عادةً في المعاهد الدّينيّة العليا. وكما يكتب طه حسين. بدأ النّاس يقولون: ‘كيف يمكن لمن يرتدي الطّربوش ويتحدّث الفرنسيّة أن يعرف القرآن وقراءاته المختلفة؟’ فأجاب المفتّش ‘أنا أزهريّ!’. ثمّ أوضح أنّه تحوّل إلى مدارس علمانيّة بعد أعوامٍ عديدةٍ في الأزهر. وكأنّه بحاجةٍ إلى دليلٍ آخر. خلع حذائه وعقد ساقيه وتلا سورة هود، ‘بطريقةٍ لم يسمعها بها [النّاس] قطّ’. وهكذا قام المفتّش الأفنديّ بتحويل نفسه ‘مرّةً أخرى’ إلى شيخٍ بسبب أدائه.

إنّ المهمّ في هذه الحكاية ليس أنّ المفتّش، وهو أفنديّ رسميّ لا جدال فيه، كان قد التحق سابقًا أيضًا بتعليمٍ دينيٍّ أعلى. فالتّبديل بين المنهج الدّينيّ والعلمانيّ لم يكن بالشّيء غير الشّائع. كما يتضّح من الأمثلة السّابقة لكلٍّ من أحمد هيكل وأحمد أمين. المهم هو السّياق الّذي كشف فيه المفتّش عن هويّته الأزهريّة (في القرية). إضافة إلى ردّ الفعل الإيجابيّ الّذي أثاره الجمهور (القرويّون).

في هذه القصّة، تمّت الإشادة والتّقدير بعودة المفتّش إلى هيئة الشّيخ. وبالمقابل، في القصص السّابقة لكلٍّ من أمين وهيكل، مثّل كون المرء شيخًا عبئًا. لماذا؟ لقد عبّر كون المرء شيخًا أو أفنديًّا عن سجلّين ثقافيّين مختلفين. لقد عملا كـ (وفي الواقع ارتبطا بـ) شيفرات لغويّة. يمكن أن تتجلّى هذه الشّيفرات من خلال التّشكيل المرئيّ للزّيّ. ولكنّها قد تشمل أيضًا الّلغة والتّعليم ورأس المال الثّقافيّ بأكثر المصطلحات عموميّة. وحتّى لغة الجسد، وهي الطّريقة الّتي صدّق بها المفتّش المذكور أعلاه على أوراق اعتماده أزهريًّا: بخلع حذائه وعقد ساقيه. بيد أنّه من المهمّ أن ندرك أنّ رأس المال الاجتماعيّ الأقوى لا يكمن في التّخلّي عن أحد هذين السّجلين لصالح الآخر، ولكن في إتقان كليهما.

***

ففقط من خلال إظهار الكفاءة في كلتا الشّيفرتين يمكن للفرد أن يستحضر الإحساس الحاسم بالحركة الّذي يتّضح بقوّة في الأفلام والرّوايات والسّير الذّاتيّة. تنقل كلّ هذه الأمثلة السّرديّة لهذا النّوع من تبديل الشّيفرات أداءً للهويّة وفقًا لحالات السّياق الطّارئة – بعبارةٍ أخرى، اختيار أداء لمحاور أو جمهور معيّن. أن يُنظَر إلى المرء على أنّه سيّد شيفرة واحدة فقط من شأنه أن يجعل السّارد أقلّ قوّة من النّاحية الاجتماعيّة. في الواقع، في بعض المواقف يمكن أن يجعله غير ذي صلةٍ اجتماعيًّا. في قصّة طه حسين، كان لاستدعاء المفتّش هويّته الأزهريّة أمام القرويّين سياقه الخاصّ وهدفه. فمن خلال إظهار قدرته على تلاوة القرآن، فرض احترامه بين القرويّين من خلال حشد أصالته.

وعلى المنوال نفسه، أقرّ باحترام الشيفرة الثّقافيّة (التّعليم الدّينيّ) الّتي تحظى بتقديرٍ كبيرٍ بينهم. وفي هذا السّياق بالذّات. كان تصرّفه بمثابة إعلان مفاده ‘أنا واحد منكم’. ما كان مهمًّا أيضًا أنّه، بصفته مفتّشًا أرسلته السّلطات المركزيّة، كان يخاطب من هم دون المستوى الاجتماعيّ من حيث كيفيّة توزيع السّلطة على المستوى الوطنيّ. بينما كان في الوقت نفسه يتواصل مع شيوخ القرية ووجهائها (وكان أحدهم والد طه حسين) الّذين يمكن أن يكونوا آبائه أو أعمامه – ومن ثمّ قَيّميه الاجتماعيّين. كما يُفهَم ذلك من منظورٍ اجتماعيٍّ محلّيٍّ وجيليّ، أو وفقًا لكيفيّة فهم السّلطة الاجتماعيّة في السّياق المحلّيّ.

***

على النّقيض من ذلك، هيمنت على المساحات الحضريّة (لا سيّما المناطق المتمدينة فيها، باستثناء المجتمعات الحضريّة التّقليديّة) بشكلٍ متزايدٍ ثقافةً مفتونةً بعلامات الحداثة. وغالبًا ما تُثبّط العلامات العامّة للدّين. ومع ذلك، فإنّ ارتداء زيّ الشّيخ لم يكن عائقًا ببساطةٍ من النّاحية الجغرافيّة – في المدينة. أو في الأجزاء الحديثة من المدينة، على عكس المساحات الحضريّة غير الحديثة أو الرّيف. بالأحرى، في بعض المواقف أو لجماهير معيّنة.

كانت الحداثة دائمًا ميزة، والعكس صحيح. حاول أحمد أمين إنكار هذه الحقيقة عندما ذهب لخطبة العرائس المأمولات وهو يرتدي عمامته. على أمل أن تتجلّى سعة اطّلاعه في حمله كتابًا بالّلغة الإنجليزية (والّذي كان بمثابة علامة على الحداثة، بما يؤكّد أنّه يقرأ الكتب الحديثة، ويقرأها بالإنجليزيّة) من شأنه أن يوازن مظهره كشيخ. وقد نجح الأمر مع الوالدين، ولكن ليس مع العروس المأمولة. بالرّغم من كلّ سعة الاطّلاع في العالم، من وجهة نظرها، كان أمين يُعتبر شيخًا مادام لم يغيّر ملابسه أيضًا.

أحمد أمين
أحمد أمين
***

من المهمّ التّأكيد على أنّ النّقطة لم تكن الدّين بحدّ ذاته. فقد اعتبر كافّة الأشخاص الّذين انخرطوا في هذه القصص أنفسهم مسلمين تمامًا وبلا إشكال. بما في ذلك العروس الّتي رفضت الزّواج من أمين مادام (وفقًا لمظهره) شيخًا. كانت القضيّة، بالأحرى، أيّ دين. يعني كون المرء علمانيًّا (ما أطلق عليه طه حسين ‘الطّربوش’ في اقتباسي الافتتاحيّ) إبعاد الدّين عن مجال الثّقافة العامّة، ممّا يجعله مسألةً خاصّة. وأيضًا تفكيك الدّين إلى دينٍ جيّد وآخر سيئ. في العديد من السّياقات الحضريّة، كان ارتداء ملابس الشّيخ عبئًا اجتماعيًّا لأنّه يُشير إلى الدّين السّيئ. أي ‘التّقليد المغالى فيه’، بشكلٍ أساسيّ. كان هذا دين غير قادرٍ على تحديث نفسه ومرتبط بالأزهريّين والصّوفيّين والأشكال الشّعبيّة (‘المتخلّفة’) من الإسلام. عوضًا عن ذلك، كان ‘الدّين الجيّد’ مخفيًّا تحت العلامات الخارجيّة للحداثة.

يمكن بعد ذلك تعبئة مثل هذا الدّين لاستحضار الأصالة (بما هي ‘التّقليد الجيّد والملائم’) في سياقٍ محدّد. تمامًا مثلما فعل المفتّش في قصّة طه حسين عند التّواصل مع شيوخ القرية. وقد ناسبَ مثل هذا التّفكيك للدّين احتياجات ثقافة وطنيّة علمانيّة وحديثة بشكلٍ علنيّ. وبينما كان تشويه سمعة الشّيوخ والاستهزاء بهم منتشرًا في كلّ موضعٍ في نصوص الأفنديّة في هذه الفترة. فقد بذل الكثير من الجهد أيضًا لإنقاذ الدّين من عالم التّقليد، من خلال بناء ثقافة أصلانيّة للطّبقة الوسطى حول فئة الأفنديّ، ثقافة تكون حديثة وتَقويّة بعمق، في الآن نفسه. توجَّب إنقاذ الدّين من الشّيوخ والمؤسّسة الأزهريّة ووضعه في أيدي الأفنديّ. وسأعود إلى هذا المفهوم الجديد للدّين – الإسلام الأفنديّ – أدناه.

***

وهكذا كانت الملابس علامةً عامّةً قويّةً للغاية على الهويّة الثّقافيّة. وفي الوقت نفسه. من حيث هي ‘مجرّد ملابس’، فقد سمحت بقدرٍ كبيرٍ من الفعاليّة الفرديّة. وفي الممارسة اليوميّة، يمكن للنّاس إثبات حداثتهم أو أصالتهم من خلال تغييرٍ يخصّ الاختيارات المتعلّقة بخزانة ملابسهم، كما أوضح زكريا أحمد في بداية هذا الفصل. وتُظهر الصّور التّالية أمثلةً على كيفيّة قيام الأشخاص بتعبئة شيفرة أو أخرى وفقًا لحوادث السّياق الطّارئة.

أوّلًا، نرى وثيقةً رسميّةً  تعود إلى عام 1925، تخصّ معلّم المدرسة محمّد عبد البديع. والصّورة تحدّده بصريًّا باعتباره أفنديًّا. ومع ذلك، تذكر الوثيقة اسمه مرارًا وتكرارًا باسم الشّيخ محمّد عبد البديع – وليس محمّد أفندي عبد البديع، كما هي الحال لو كان أفنديًّا ‘رسميًّا’. بمعنى آخر، الرّجل هو شيخ ‘رسميًّا’ (أو من النّاحية النّصيّة). ولكنّه أفنديّ بمظهره. كان عبد البديع على الأرجح مدرّسًا للّغة العربيّة، لأن مدرّسي الّلغة العربيّة في المدارس الحديثة جرى تعيينهم من خريجي الأزهر أو دار العلوم.

وفي كلتا الحالتين، حمل الخرّيجون الّلقبَ الرّسميّ للشّيخ حتّى عام 1926. وهكذا بينما كان هذا الرّجل كلا الأمرين – شيخًا وأفنديًّا – كان لكلّ هويّةٍ سياقها الخاصّ. لقد أعلن عن أفندنته في الأماكن العامّة من خلال زيّه، في حين أنّ مشيخته عكست أوراق اعتماده التّعليميّة الرّسميّة وكان لها الفضل في وظيفته كمدرّسٍ للّغة العربيّة.

***

يقوم الجنتلمان الّذي يظهر في الصّورة التّالية بفعل الشّيء نفسه، ولكن على النّحو المضادّ: فهو يدّعي أنّه أفنديّ بالّلقب المرتبط باسمه، ولكن ليس من خلال مظهره. ويُظهِر الشّكل الغلافَ الأماميّ لكتيبٍ وما ينطوي عليه من كلمات، ويرجع تاريخه إلى حوالي عام 1930. تحتوي مثل هذه الكتيّبات الرّخيصة عادةً على نحو اثنتي عشرة صفحة بها أغانٍ أو مسرحيّات مشهورة. مثل مسرحيّات كشكش بيه الهزليّة، أو الأغاني المعروفة باسم المونولوجات (اسكتشات من ممثل واحد) أو أغاني غزليّة (الطّقاطيق) أو أغاني على الطّراز الرّيفيّ (المواويل).

كانت هذه أنواعًا موسيقيّة تنتمي إلى ثقافةٍ فرعيّةٍ حضريّةٍ انطلقت خلال العقود الثّلاثة الأولى من القرن العشرين، ولكن مع ظهور الرّاديو والسّينما في الثّلاثينيّات، أفسحت المجال لأشكال أكثر تجانسًا، موسيقيّة ونصيّة، ممثّلةً في مجموعات فناني الأداء مثل أمّ كلثوم ومحمّد عبد الوهاب. المثال المذكور هنا بعنوان ‘أغاني وطقاطيق ومنولوجات ومواويل جديدة للمطرب البلدي محمّد أفندي العربي’. محمّد أفندي العربي، بالطّبع، لا يرتدي زيّ الأفنديّ. والأهم من ذلك أنّه يُطلق على نفسه لقب ‘المغني البلدي’.

تعني كلمة ‘بلدي’ هنا ‘ما هو متعلّق بأولاد البلد’، وتمثّل بنيةً ثقافيّةً بديلةً أو حتّى (في بعض الحالات) نقيضةً للأفنديّ، مثلما فعلت كلمة ‘شيخ’ سابقًا. ومع ذلك، من الواضح أنّ هذا الجنتلمان لم ير أيّ تناقض؛ عوضًا عن ذلك، كان يستخدم كلا السّجلين في تسويق نفسه لجمهوره الحضريّ. وبشكلٍ ملحوظ، استدعى كلا الشّيفرتين في آنٍ واحد. لقد زعم نفسه أفنديًّا بشكلٍ نصيٍّ، لأنّ كونه أفنديًّا مثّل ميزةً مهمّة. لكنّه شدّد أيضًا على أنّ هويته البلديّة تتلاءم مع ذخيرته الفنيّة، وأنّها على الأرجح تعكس التّعريف الذّاتيّ لغالبيّة جمهوره. تأتي كلمة بلدي هنا بشكلٍ إيجابيّ، بمعنى الأصيل أو الشّعبيّ أو المحلّيّ أو حتّى ‘الجماهيريّ’. ويمكننا أيضًا أن نلاحظ أنّ هويّته الأفنديّة يتمّ زعمها بشكلٍ نصيٍّ، وبالتّالي ربما تكون جذّابةً لجمهورٍ متعلّمٍ ولكن هويّته البلدية يتمّ التّعبير عنها بصريًّا، ممّا قد يعكس انخفاض مستويات معرفة القراءة والكتابة بين أولئك المعرّضين لمثل هذه الرّسائل.

***

أخيرًا، يظهر الشّكل  شابا مجهولا تم تصويره في مظهرين مختلفتين. تُظهِره الصورة الموجودة على اليمين في زيه التقليدي، على أساس الجلابية الذكرية، بينما في الصورة الأخرى يرتدي زيا موحدا، والذي، اتفاقا، يعتبر زيا عصريا ويميز من يرتديه على أنّه أفنديّ لأنّه يبرز علاقته بالدّولة، بطبقة الموظّفين. ويعكس كلا نوعي الزّيّ كما ينبغي المكانة الاجتماعيّة المحترمة للرّجل، ويفعلان ذلك من خلال تسخير سجلّي الأصالة والحداثة على التّوالي. وهذا ليس مفاجئًا بالنّظر إلى حقيقة أنّ الشّكل الأكثر فعاليّة لرأس المال الاجتماعيّ يكمن، كما حاججت سابقًا، في القدرة على أداء كلا الشّيفرتين. ولكن الّلافت في هذا المثال هو أنّه عوضًا عن تفعيل الهويّة وفقًا للسّياق والمحاور المفترض، يقدّم الرّجل هنا كلا الزّعمين جنبًا إلى جنب.

تمّ التقاط هاتين الصّورتين في الفترة نفسها من حياته، وربما خلال جلسة التّصوير نفسها. وبشكلٍ ملحوظ، تمّ استهلاكهما معًا على الأرجح، من خلال تعليقهما جنبًا إلى جنب (لقد دخلتا سوق الأنتيكات معًا في عام 2003، وفي إطارات متطابقة). بعبارة أخرى، فعل هذا الرجل صورته الخاصة على الحائط ثم استهلكها مستخدمًا كلا السجلين لزيادة التأكيد على محترميته الاجتماعية بطرقٍ كانت مكملة، وعلى الأرجح، أكثر إرضاءً لنفسه وعائلته وجيرانه.

***

أوضحت الأمثلة المذكورة أعلاه حالات على الحداثة والأصالة (أو التّقليد) كما زعمها فاعلون فرديّون وكما تمّ تفعيلها بشكلٍ أدائيٍّ في سياقاتٍ محدّدة. ويمكننا العودة إلى المقالات القصيرة للقرّاء الّلامعين في صفحات الّلطائف المصوّرة  – أو في الواقع العودة إلى أعداد كبيرة من التّمثيلات الأخرى الّتي تبدو برجوازيّة على نحوٍ غير إشكاليّ للأفنديّة في الصّحافة المصريّة في تلك الفترة – وإضفاء مزيد من الأشكلة على قراءتنا أو وضع سياق لها. عوضًا عن عكس الذّات البرجوازيّة الأُحاديّة الحديثة، تُفهَم مثل هذه الصّور بشكلٍ أفضل على أنها مواقف أدائية يتم اختيارها لتُناسب سياقًا معينًا، مثل المجلة.

كان بناء الحدود – المكانيّة والمفاهيميّة – بالطّبع أمرًا حاسمًا للمجتمع المصريّ في فترة الاستعمار، تمامًا كما هو مهمّ لأيّ مجتمعٍ أو فترةٍ زمنيّة. لكن، بينما كانت الممارسة اليومية تدور حول بناء الحدود، فإنها لم تكن فقط أو ببساطة مكبلة (أو، مفروضة من خارج المجتمع الأصلاني) كما يلمح أحيانا منظرو ما بعد الاستعمار، مع إمكانية التجاوز فقط في المواقف الهامشية. عوضًا عن ذلك، تمّ عبور هذه الحدود بشكلٍ روتينيٍّ في وضح النّهار. ومن حيث هي جزء من نسيج الحياة اليوميّة، كانت هذه الحدود أيضًا مُمَكِّنة.

***

من المؤكّد أنّ زعمًا عامًّا للحداثة – سواء تمّ إضفاء الطّابع المؤسّسي عليها من خلال المدارس أو تمّ تفعيلها من خلال العامّيّ – غالبًا ما أشار إلى قضايا أوسع للسّلطة. فمن ناحية، حافظت الدّولة، الّتي تمثّل النّخب المحدِّثة والمصالح الاستعماريّة على حدٍّ سواء. على حقوق النَّسخ الفكريّة للحداثة وسيطرت عليها من خلال مؤسّسة التّعليم. ومن ناحية أخرى، كان كون المرء حديثًا جائزةً مشبّعةً بزعمٍ ثقافيٍّ مضادّ. بالرّغم من ادّعاءاتها بشأن النّظام والعقلانيّة، فإنّ الحداثة عنت أشياء كثيرة لكثيرٍ من النّاس وتمّت تأديتها من خلال علامات تشكيلٍ مرنة. وغالبًا ما تمثّلت وظيفة زعم الحداثة في زيادة رأس المال الاجتماعيّ للفرد في المواقف اليوميّة. وفي أوقات أخرى كان زعم الحداثة مرتبطًا بتطلّعات التّنقّل الاجتماعيّ أو الوصول إلى الموارد أو الأجندات الأيديولوجيّة. يمكن أن يكون هناك دافع واحد أو كلّ هذه الدّوافع. وفي كثير من الأحيان، لا يمكن إدراك الأمر أو مفصلته بوضوحٍ باعتباره حصريًّا أحد هذه الدّوافع.

***

بالنّسبة إلى أولئك الّذين ‘لديهم تقليد’ على نحوٍ رضائيّ، كان الشّاغل الأساس هو إثبات أنّ لديهم أيضًا ‘حداثة’. والعكس صحيح. على المدى الطّويل، كان الفائزون هم فقط أولئك الّذين يستطيعون التّخلّص من التّقليد المفرط والتّظاهر بكونهم رجالًا عصريّين (أو نساء عصريّات)، مع قدرتهم على إثبات أصالتهم.

وعادةً ما يتمّ استحضار هذه الأصالة من خلال كون المرء ابنًا أصليًّا للبلد. أو حصوله على تعليمٍ كُتّابيٍّ يسبق دخول المدارس الحديثة. أو تحصّله على تمرّسٍ دينيٍّ في الموسيقى، على سبيل المثال. فقط أولئك الّذين استطاعوا إثبات امتلاك رأس مال الأصالة هذا كانوا حديثين بشكلٍ صحيح. وقد تمثّل الاتّجاه الضّمنيّ في معظم الكتابات التّاريخيّة حول هذه الفترة عوضًا عن ذلك. في رؤية التقليد على أنه متخلّف ومنضمر وقصد له أن يطمس في المستقبل القريب.

توضّح مهنة المطربة الكبيرة أمّ كلثوم أنّ النّجاح التّجاريّ لم يكن بالكامل مسألة ذخيرةٍ فنّيّةٍ وموهبة. ولكن أيضًا مسألة مظهر – مسألة حداثة معبّر عنها علنًا، والّتي بدونها كانت المواهب والابتكارات في العالم كافّة لتمرّ مرور الكرام. كان على المؤدّي أن يتوافق مع صورة شخصٍ حديثٍ وعلمانيٍّ ومتمدينٍ دون أن يفقد، مع ذلك، الاتّصال بجذوره. أو جذورها، حسب مقتضى الحال.

قَدِمت أمّ كلثوم إلى القاهرة من الأقاليم، وبعد عامين مثمرين، بدأ التّأثّر الّذي أثارته لأوّل مرّةٍ بصوتها الرّائع يتلاشى. وهكذا، كان عليها، في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، أن تعيد اختراع نفسها حرفيا. استلزم تغيير صورتها خطوتين: غيّرت مظهرها الخارجيّ إلى فتاةٍ متمدينةٍ ساحرة. واستبدلت فرقتها المكوّنة من الشّيوخ (وتحيل الكلمة هنا إلى الموسيقيّين المتمرّسين دينيًّا، والّذين تكوّنوا من جزءٍ من عائلتها) بأوركسترا حديثة.

***

وهكذا، حوّلت أمّ كلثوم نفسها من حالةٍ غريبةٍ إلى حدٍّ ما وإن كانت مذهلة إلى أيقونة دائمة – أنجح مطربة على مدار الأربعين عامًا القادمة. ويعود نجاحها العامّ إلى حدٍّ كبيرٍ إلى شيئين لم تغيّرهما: ذخيرتها الفنّيّة والميثولوجيا المرتبطة بأصلها. لقد قامت عن وعي ببناء ذخيرتها الفنّيّة ضمن الموسيقى العربيّة التّقليديّة، وهو مفهوم اخترعته إلى حدٍّ كبير. وبينما كانت ترتدي زيّ مغنّيةٍ متمدينةٍ ساحرة، فإنّها، من النّاحية الشّفهيّة. في المقابلات والتّصريحات العامّة، حافظت – و، مع مرور الوقت، أكّدت بشكلٍ متزايد – على صورةٍ عامّةٍ لفتاةٍ ريفيّةٍ تمرّست على تلاوة القرآن والأسلوب الموسيقيّ للمشايخ ( الموسيقى التّعبديّة).

لقد تمّ حشد ماضيها كفتاةٍ ريفيّة، والّذي صار بحلول هذا الوقت خلفها بأمان. باعتباره رأسمالها من الأصالة من خلال أسلوبها الموسيقيّ وسيرتها العامّة. يظهِر مثال أم كلثوم أن الطريق إلى النجاح يشق من خلال إشهارٍ عام للحداثة (التي هي، بالنسبة إلى الرجال، الأفندياتية). وأنّه يجب أيضًا أن يكون الرّجل العصريّ المثاليّ (أو المرأة العصريّة المثاليّة) قادرًا على الجمع بين الحداثة والأصالة. في الحالة المصريّة الخاصّة، يكون هذا البناء الخطابيّ للأصالة – أو بشكلٍ أكثر دقّة التّبديل الأدائيّ للشّيفرة بين علامات التّشكيل الخاصّة بالأصالة وتلك الخاصّة بالأفنديّاتيّة – هو الحداثة.

***

مقطع من كتاب «عصر الأفندية: ممرات الحداثة في مصر خلال فترة الهيمنة الاستعمارية وبناء الأمة الحديثة» للمؤرخة التشيكية لوسي ريزوفا، وترجمة محمد الدخاخني. الترجمة العربية للكتاب تصدر خلال أيام في معرض القاهرة الدولي للكتاب عن دار الكتب خان.

اقرأ أيضا:

لوسي ريزوفا في «عصر الأفندية»: التّعرّف على الأفنديّ(1)

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر