أربعة نصوص من «قبل أن يرتد إليك طرفك»

حفيدات القمر

يمر القطار في تلافيف رأسي بينما أجلس في مكاني أتفقَّد القضبان. تمنيت أن ينزل الركاب في محطة أخرى غير التي يرغبونها، ويتجولون على المائدة أمامي بانتظار أوامري.

السيدة التي تراقبني في إجازاتها الأسبوعية كانت تجلس على المحطة لتشرب قهوتها السوداء. ثم همست فجأةً أن الشِّعْر لن يأتي من الفراغ، بعد أن لمحت لعبة القطار الأصفر في يدي.

من شكل أظفارها نستطيع أن نخمن أنها تقرضها في الليل لو لم تجد ما تفعله.

في كل يوم تنظر في مرآتها كعمياء، وحين انهمر النور من سماء مربعة في سقف حجرتها. قالت إنها ستكتب قصيدة عن اللمبات الصغيرة في السقف سيكون اسمها “حفيدات القمر”.

هذه الأشياء تسعدني جدًّا.. قالت.

أخذتُ قطاري الأصفر من يدها ومشيت..

لم أشرح لها ما معنى الثبات مطمئنةً بينما عوالم تنهار حولي.. السكون يعني أن أكون هنا ولا يُعثر عليَّ..

حذاء أسامة

في الليلة التي تُوفي فيها أسامة، كنا بمنطقة وسط البلد حين جاءنا خبر موته، فتحركنا إلى مركز الكُلى القريب.. بمجرد وصولنا تجمدنا بجوار الحائط أنا وريم مثل تمثالين.

في غرفته، بعض القريبين الذين يحاولون إبعاد الأم إلى الخارج، خوفًا عليها رغم حاجتها الشديدة لهذا الوداع الأخير.

استسلمت في النهاية لرغبتهم وخرجت من الغرفة شاردة، لكن خطوتها وهي تعبر العتبة، لم تكن خطوةً عادية، كأن قدميها تتفاديان جمرًا لا يراه أحد.

لم تكن تبكي بل تتنفس باضطراب شديد. ربما نزع أسامة قلبها بالفعل ولم تَعُد تملك أداة ضخ الدم في جسدها. استندتْ إلى الجدار أثناء عبورها لكن عيونها الزائغة لمحت حذاء أسامة الجلدي؛ حذاء مطوي من الخلف بعد أن داس على نهاياته من شدة الإرهاق.

امتدت يدها وسحبت الحذاء من فوق الأرض بسرعة خاطفة.

ربما خافت أن يمنعها أحدهم أيضًا من حذاء أسامة، التقطته، نفضت عنه الغبار، رَبَّتت عليه، قبَّلته بحنان ثم احتضنته أخيرًا في ما يشبه الارتياح.

فخرجتُ إلى الشارع لأتفقَّد الأحذية، لأتأكد أنها لا تزال ملكا لأصحابها. كانت الأقدام تمر أمام عيني مسرعة، تدوس بقسوة لا مبالية على الأرض.

كل ما أراده هرمان هِسَّه

عانى هرمان هِسَّه في بداية فترة المراهقة مشكلاتٍ نفسيةً كعدم التكيف مع الأسرة والمدرسة، لم يُفْلح معه العلاج النفسي ولا حتى إلحاقه بمدرسة لضعاف العقل.

ثم جرب الأب أن يلحقه بعمل في محل للساعات، كما لو أن حياته توقفت مثل ساعة معطلة، لا تريد المزيد من السير الرتيب.

تعلم هرمان هناك الفك والتركيب ولحم الأجزاء المفكوكة وتعديل العقارب المُعوجَّة. انهمك في هذا العمل الدقيق والشاق لمدة عام كامل.

فوجئ الأب، كما فوجئ هرمان نفسه، أن أغلب مشاكله قد اختفت تمامًا بنهاية هذا العام. وكأن مراقبة التروس الصغيرة شغلته عن مراقبة تلافيف عقله، أو أن توجيه البصر إلى معضلة خارجية ومرئية تلهينا عن المعضلة الرئيسية هناك بالداخل. تتركها لتجف وتذبل مثل ثمرة ضمرت وسقطت من تلقاء نفسها.

ربما الانهماك في البحث عن قطعة ضئيلة من المعدن أشعرته بأنه قد وجد ضالته، التحديق في بطن الساعة المعقدة أنساه أسئلة الشعر الأولى التي بدأت للتوِّ بوادر قلقها.

حتى المجهود الشاق الذي بذله في إصلاح ساعة الكنيسة الضخمة أسهم في الشفاء..

حين تشبث بالزمن وهم يربطون وسطه بالحبال، أدرك وقتها خطورة الوقت المعلق هناك كوحش يتوعدنا، ربما اعتقد حين تشبث بعقارب الساعة العملاقة أنه يستطيع التحكم بالزمن..

يستطيع أن يجعله يتوقف عند الثالثة وخمس دقائق، أو أن يمر يومٌ كاملٌ بحركة سريعة من يده النحيلة.

ثم تنفس بعمق حين أزال الأتربة عنها، كأنه نظف مجرى الهواء في رئتيه، تحايل على العقارب الصدئة، فتأكد أنه يستطيع أن يزيل صدأ الروح، عرف أنه سيكتب كل ما مر على هذا الكون من انكسارات بشرية مشت على العقارب كدود صغير.

ربما حدث الشفاء تلقائيًا حين قارن دقات قلبه بتكات تلك الساعة الرتيبة التي تزعج الليل.

شُفي هرمان هسه من تصليح الساعات إذن. تصالح مع الزمن القادم من خلال رمزه، وبينما يغلق محل الساعات بعد انتهاء ساعات عمله، كان قد أدرك أن الوقت مر.. وأن الوقت يمر وأنه سيمر.

الذهب المنسي

أول ما أحسست به هو الظمأ. لم أشعر بأي ألم كأن كمية ضخَمة من الأندروفينات قد ضُخّت في جسدي لتسكين الألم.

كل من ينظر إلى السيارة المهشمة يسألني في خوف: “هل تستطعين المشي”! فأجيبهم بخطوات داخل الصحراء.. يبحثون عن بقعة آمنة يتركونني بها، مشيت بصحبتهم حتى توقفوا، الرمال باردة كأن ثلجًا نائمًا عليها، استلقيت وعيوني تحدق في النجوم فوقي، أمسك أحدهم يدي المرتجفة فطلبتُ منه ماءً.

لا أدري ما الهاجس الذي سيطر على مشاعري حتى اختصرها في ما يخفف الظمأ، “ستصل الإسعاف بعد دقائق”، قال ليطمئنني.

في عربة الإسعاف طلبتُ الماء فلم يجبني أحد، يبدو أنهم لا يجيبون مُصابًا.. أحد المسعفين كان مشغولا بإجراء محادثة عن أوصافي، وكنت لأول مرة أستمع لغريب يصفني لكنه أخطأ الوصف حين حذف من عمري عشر سنوات كاملة، لم يعجبني الأمر.

مددت حبل الصبر قليلا حتى وصلت إلى المستشفى، وفي الاستقبال طلبت الماء ثانيةً فكانوا ينظرون ويصمتون، حتى شَككْتُ في سهولة جلبه، أمسكت يد ممرضة تمر بجوار فراشي لتبقى لحظة.. سألتها عن سر هذا الرفض. قالت وهي تميل على رأسي في حنان: “لا أستطيع أن أعطيك ماء.. سيرفضه جسدك على الفور من أثر الصدمة لذلك يجب أن ننتظر قليلا”.

وافقتها لأنني أكره شعور القيء وتحملت الظمأ.. فيما بعد علمت سببًا علميًّا أكثر تعقيدًا وخطورةً لمنع الماء عن المُصاب، فأحببت رقتها حين خففت عني.

مر وقت طويل حتى وجدت الصباح أمامي فاخترعوا لي حجة أخرى، بعد ساعات غير محددة ستُجرى لي جراحة دقيقة في جفني لذلك لن أستطيع تناول أي شيء استعدادًا لجرعة البنج القادمة.

***

لكنني كلما مر طبيب أسأله عن الماء كأنني أطلبه للمرة الأولى، اخترع عقلي هذه اللعبة ليمرر الوقت.. يرد كل طبيب بلا مبالاة: “ليس الآن”.

توقعت العملية في العاشرة صباحًا وأجريتها في العاشرة مساءً. لم تكن تعنيني هذه الجراحة التي ستنقذ جفني من هذا الجرح، كل ما كان يعنيني فقط أن أشرب، أن أذهب إلى بيتي.. أفتح صنابير المياه كلها دون أن أسأل أحدًا أن أرتوي، دون أن أخبر أحدًا أنني أتألم وكأن حقلا من شوك قد نبت في حلقي فجأة.

في اليوم التالي، أفقتُ من البنج وأنا أفكر في اقتراب الحلم من التحقق، حلم الماء، وسعادة الارتواء، ثم زهدته فجأة كما أزهد كل الأشياء التي لا تأتيني في وقتها.

طلبت من الطبيب بصيغة الأمر مشروبي المفضل: أريد شايًا، فابتسم في لطف قائلا – فلنؤجل الشاي قليلا ساعات طويلة الآن ومعدتك فارغة، ما رأيك في اليانسون! غضبتُ من اسم هذا المشروب الباهت الذي لم أتناوله في الصباح أبدًا.

لكنني وجدته بجانبي في ثوانٍ، أعطتني الممرضة رشفةً واحدةً فابتلت عروقي على الفور. فوجئت بطعمه الدافئ، بطاقة الحنان المخبأة في حَبَّاته الضئيلة.. هذا الينسون المنسي صار المشروب الذهبي صافيًا وثمينًا، صارت له محبة أكثر من فنجان قهوة بالحليب. صار غاليًا لأنه رَبَّت على ألمي بعد يومين من العطش، أو لأنه صار بطعم الشفاء ربما.

نصوص للشاعرة جيهان عمر من المجموعة القصصية «قبل أن يرتد إليك طرفك» الصادرة مؤخرا عن دار العين.

اقرأ أيضا:

التراث بين الهوية والعولمة والإصلاح(2)

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر