رحيل الكاهن الماركسي: وليم سيدهم.. الثورة تسير على قدمين!

في يناير 2003 دعيت للمشاركة في ندوة بمدرسة العائلة المقدسة التابعة لطائفة الجيزويت، والقائمة بشارع رمسيس. وذلك ضمن فعاليات مهرجان صغير مخصص لـ”السينما المستقلة”. كانت تنظمه الصديقة هناء ارنست بالتعاون مع القس الراهب والمدرس وليم سيدهم.

في ذلك الوقت كانت “السينما المستقلة” في بداية عهدها. حيث انطلق عشرات من الشباب، متأثرين بالثورة الرقمية التي تبدت في ظهور الكاميرات الصغيرة الخفيفة وانتشار أجهزة الكمبيوتر ودخول الإنترنت إلى مصر. وراحوا يصنعون أفلاما “منزلية” قليلة أو عديمة التكلفة.

قبل عام من هذا التاريخ قام راهب “جيزويتي” آخر محب للفنون هو الأب فايز اليسوعي بإنشاء مدرسة لتعليم السينما المستقلة في مدرسة الجيزويت بالإسكندرية. وذلك بالتعاون مع شركة “سمات” التي أسسها عدد من السينمائيين الشباب. وكنت أتولى تحرير مجلة “نظرة” التي تصدر عنها. وشهدت مدرسة الجيزويت بالإسكندرية عرضا لمشاريع تخرج الدفعة الأولى. والتي ضمت عددا من المواهب أصبح لمعظمهم اسم وشأن في حركة السينما المستقلة. وقد استمرت هذه المدرسة لعدة سنوات حتى وفاة الأب فايز، ثم توقفت قبل أن تعود مجددا منذ ثلاث سنوات.

مثل الأب فايز، كان الأب وليم سيدهم مثقفا مؤمنا بدور الفنون في تهذيب النفوس والتقريب بين البشر. ولكنه جذب انتباهي وإعجابي لسبب آخر هو اهتمامه بالسياسة وانتماءه للاشتراكية الماركسية. إذا جاز لرجل دين أن يكون ماركسيا. كان الأب وليم ينتمي لما يعرف بحركة “لاهوت التحرير” التي أسسها عدد من رجال الدين الكاثوليك في أمريكا اللاتينية. للدفاع عن الفقراء والمقهورين ضد أنظمة الحكم الرأسمالية والعسكرية الخاضعة للهيمنة الأمريكية، والتي وصلت أحيانا إلى حد الكفاح المسلح!

أهداني الأب وليم نسخة من كتابه “لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية” الذي يعد الأول من نوعه حول هذا الموضوع باللغة العربية. وقد قام خلال السنوات التالية بتأليف عدد من الكتب حول حركة “لاهوت التحرير” في آسيا وإفريقيا وفلسطين وبقية أنحاء العالم.

**

كان الأب وليم ولقاءه من ذلك النوع من الناس واللقاءات التي لا تنسى. وعلى مدار العقدين التاليين، كنا نلتقي، كل بضعة سنوات أحيانا، وكل بضعة أشهر أحيانا. وفي كل مرة تقريبا نتذكر اللقاء الأول الذي جمعنا، خلال ذلك اليوم البعيد. عندما رحنا نتحدث عن السينما والفن ودور الثقافة في نمو المجتمع والماركسية والثورة!

الناقد عصام زكريا والأب وليم
الناقد عصام زكريا والأب وليم

خلال هذين العقدين شهدت مدرسة الجيزويت عددا كبيرا من النشاطات الفنية. قبل أن يقوم الأب وليم بتأسيس جمعية أهلية هي “جمعية النهضة العلمية والثقافية”، داخل مبنى صغير قريب من مدرسة العائلة المقدسة. استطاع من خلالها أن يصبح أكثر تحررا من نظام وقواعد الدير والمدرسة. وأكثر انفتاحا على العالم الخارجي. واحتضنت الجمعية عددا لا يحصى من النشاطات الفنية من سينما ومسرح وفن تشكيلي بين مدارس وورش وعروض. بالإضافة إلى إصدار مجلة “الفيلم” المتخصصة في السينما. ومنذ حوالي عام احترق جزء كبير من مبنى الجمعية، بما فيه قاعة المسرح والسينما بأجهزتها ومعداتها الثمينة. وقام الكثيرون، ومنهم وزيرة الثقافة السابقة د.إيناس عبدالدايم، بزيارة المكان وأعربوا عن تضامنهم ورغبتهم في جمع التبرعات والمساهمة لإعادة تأهيل المكان. ولكن شيئا لم يحدث. ولعلي أكون مخطئا لقلة لقاءاتي بالرجل، ولكن أعتقد أن الأمر ترك غصة في قلبه. أعرب عنها ذات مرة أمامي، موجها لومه إلى المثقفين المصريين، كثيري الكلام، قليلي الفعل، كعادتهم.

في هدوء رحل الأب ويليام سيدهم يوم الجمعة الماضية، بعد شهور قليلة من احتفاله بمرور خمسين عاما على التحاقه بالرهبنة. وكانت المرة الأخيرة التي التقينا خلالها منذ حوالي أسبوعين، خلال اجتماع لمجلة “الفيلم” حرص على أن يحضر جزءا منه، للتشجيع والدعم، ويومها تذكرنا أيضا لقاءنا الأول الذي مر عليه عشرون عاما.

**

رحل الأب وليم سيدهم بعد ستة وسبعين عاما قضى معظمها في الدفاع عن المبادئ، والعمل من أجل الناس، خاصة الفقراء والمهمشين. وفي الوقت الذي نأى فيه معظم رجال الدين، خاصة المسيحيين، عن التورط في موقف سياسي. كان الأب وليم من أوائل الذين تضامنوا مع ثورة يناير في 2011. وكان دائم الحضور إلى ميدان التحرير، ودائم الدفاع عنها على الـ”فيسبوك”، حتى أنه حول “بوستاته” عنها إلى كتاب بعنوان “يوميات كاهن في زمن الثورة”.

كان الأب وليم ثورة في حد ذاته، حتى قبل أن تقوم، كان يعيش أفكارها ويتنفس أحلامها، ويطبقها على حياته في كل يوم وساعة، زاهد، محبا للجميع، مع عين فاحصة وناقدة لكل أشكال الفساد والسلبيات، ورغبة مستعرة في التغيير للأفضل، وضحكة تفاؤل بالمستقبل حتى في أحلك الظروف. ولعل هذا هو سبب التأثير الهائل الذي كان يتركه على كل من يقترب منه.

عندما كنت أزور جمعية النهضة العلمية خلال السنوات الماضية لإلقاء بعض المحاضرات في مدرسة السينما، أو لحضور اجتماع للمجلة، أو عرض مسرحي أو سينمائي، أو إفطار رمضاني جماعي كان يحرص على تنظيمه سنويا، في كل مرة كنت أرى فيها الأب وليم، محاطا بمعاونيه وتلاميذه ومحبيه من الشباب، كنت أدرك أن الأثر الذي تركه لقاءي الأول به لم يكن شيئا استثنائيا، فالرجل ترك تأثيره على كل من عرفه واقترب منه. جيل تلو الجيل كانوا في وداعه وعزاءه، يلفهم شعور بالخسارة الفادحة.. صدمة تفوق الحزن والبكاء.. كأن العالم لم يعد كما هو.

اقرا أيضا:

«تحت الوصاية».. سر العظمة!

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر