البشر والحجر| 3 مواقع تراث عالمي في غزة.. هل تُدمر في قصف الاحتلال؟

في قطاع غزة المُحاصر، لا تقتصر أهمية الآثار على مكانتها التاريخية فقط، بل هي جزء من القضية السياسية المستمرة بين فلسطين والاحتلال الإسرائيلي. إذ يُستخدم كل موقع أثري قديم والاكتشافات الحديثة كوثيقة لتأكيد حقوق أهل غزة.

غزة.. تاريخ لا يموت

غزة، المدينة الساحلية التي تربط البحر الأبيض المتوسط ​​بالقوافل التجارية التي تجتاز صحاري سيناء والنقب، كانت دائما مكانا على مفترق طرق الحضارات والثقافات. تعتبر الأراضي، وخاصة المساحة المخصصة للبناء، ذات أسعار مرتفعة. ولكن هناك العديد من الاكتشافات الأثرية التي تنتظر العثور عليها.

المصريون والفرس واليونانيون والرومان والبيزنطيون والعرب والفاطميون والمماليك والصليبيون والعثمانيون سيطروا جميعًا على غزة في وقت أو آخر.

في عام 1799، تراجع نابليون بعد حملته الفاشلة للاستيلاء على فلسطين. وخلال الحرب العالمية الأولى، تعرضت المدينة التي كانت تحت سيطرة العثمانيين للقصف بلا رحمة من قبل الحلفاء. ويوجد بها مكان استراحة عبارة عن مقبرة أكثر من 3000 من جنود الكومنولث.

انتبهت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” إلى أهمية توثيق تراث فلسطين. وأدرجت أربعت عشر موقعا فلسطينيا للتراث العالمي، من بينهم ثلاثة أماكن في قطاع غزة، وكان آخرها إدراج مدينة أريحا القديمة كموقع تراث عالمي.

تُعرف مدينة أريحا القديمة أيضا بـ”تل السلطان”. وجاء تسجيلها ضمن مواقع التراث العالمي في سبتمبر الماضي، بعد التصويت على القرار خلال الاجتماع الخامس والأربعين للجنة التراث العالمي لـ”اليونسكو”، ولاقى تسجيلها غضب من جانب الاحتلال الإسرائيلي.

حماية الآثار أثناء الحروب

يتمتع الدكتور يوسف كانجو، الذي يعمل كباحث في معهد آثار الشرق الأوسط في جامعة توبنجن، ألمانيا، وكان سابقًا مديرًا لمتحف حلب الوطني، بخبرة واسعة في حماية الآثار خلال فترات الحروب.

ومن خلال هذه التجربة، كشف لـ“باب مصر” بعض الإجراءات التي يستوجب اتخاذها على الفور عند بدء النزاعات المسلحة، لحماية مواقع أثرية أو آثار موجودة في محيطها.

ويقول لـ”باب مصر”: “في المقام الأول، حال وجود آثار يجب إجراء إخلاء سريع للمجموعات الأثرية من أماكن عرضها إلى المستودعات. وينبغي تحصين المستودعات بشكل جيد، على سبيل المثال، من خلال إنشاء جدران من الأسمنت المسلح ووضع أكياس الرمل. وإغلاق جميع الأبواب والنوافذ التي تؤدي إلى المتحف والمستودعات بأبواب حديدية”.

ويتابع: “مع البحث عن موقع آمن خارج المتحف لنقل المجموعات الأثرية إليه. شرط توفر شروط الأمان والحفاظ على الآثار. وفي حال وافقت السلطات المسؤولة، يمكن نقل القطع الأثرية خارج البلاد”.

وعن حماية مواقع تراث عالمي، يوضح أنه أثناء النزاع المسلح يجب على الدول الأطراف الامتناع عن أي استخدام لممتلكات التراث العالمي والمناطق المحيطة بها مباشرة لأغراض من المحتمل أن تعرضها للتدمير أو الضرر. ويجب أيضًا الامتناع عن أي عمل عدائي موجه ضد هذه المواقع.

ميناء أنثيدون
ميناء أنثيدون
 ميناء أنثيدون 

في عام 2012، صنفت منظمة اليونسكو ميناء أنثيدون القديم في شمال غزة كموقع للتراث العالمي. وبعدها بعام تم تجريف جزء من الميناء القديم الذي يعود تاريخه إلى العصر الميسيني أكثر من 3000 عام. ويعتبر من أهم المواقع في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى كونه أقدم ميناء في غزة.

“أنثيدون” أو “تيدا” هو أول ميناء بحري معروف في غزة. وقد ورد ذكره في الأدب الإسلامي، وكانت المدينة مأهولة بالسكان من 800 قبل الميلاد إلى 1100 بعد الميلاد. وشهدت سلسلة من الثقافات المختلفة من بينها الآشورية الجديدة والبابلية والفارسية واليونانية والرومانية والبيزنطية والقواعد الإسلامية المبكرة (الأموية والعباسية والطولونية والفاطمية).

على بعد كيلومتر واحد إلى الجنوب من ميناء أنثيدون، يقع ميناء مايوماس القديم، الذي كان آنذاك مرتبطًا بميناء غزة. الذي كان أيضًا مأهولًا بالسكان باستمرار، وأصبح في العصر الروماني مدينة ساحلية مزدهرة ومتطورة.

يعود تاريخ مايوماس، الذي تم ذكره فقط في المصادر الكلاسيكية المتأخرة، إلى فترة سابقة. على الأقل عندما بدأت التجارة مع اليونان. و”مايوماس” مشتقة من كلمة مصرية تعني “مكان بحري”، بحسب الموقع الرسمي لليونسكو.

ويتكون الموقع من مجموعة متنوعة من العناصر التي تنتشر في المنطقة من شاطئ البحر، بما في ذلك الآثار المغمورة بالمياه. من بينها أطلال معبد روماني وقسم من الجدار. بالإضافة إلى الحرفيين والأحياء الرومانية. وسلسلة من الفيلات، تشهد على مدينة أنثيدون. وتوجد في المنطقة أرضيات فسيفسائية ومستودعات.

ويُظهر في أنثيدون بقايا أثرية تعود إلى أواخر العصر الحديدي الثاني والفترات الفارسية والهلنستية والرومانية والبيزنطية. والعثور على آثار جدران حجرية من العصر الروماني، ويقع الموقع الأثري لمدينة الميناء القديمة أنثيدون على طول البحر الأبيض المتوسط. في الركن الشمالي الغربي من قطاع غزة.

عن الأهمية التاريخية له، يمثل أنثيدون مثالا واضحا بين الموانئ البحرية الممتدة على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي. حيث يرسم خط التجارة القديم الذي كان يربط أوروبا ببلاد الشام خلال العصور الفينيقية والرومانية والهلنستية. بالإضافة إلى التراث غير المُكتشف تحت الماء.

تل أم عامر
تل أم عامر
تل أم عامر.. طريق الحجاج من مصر

في العام نفسه، تم تسجيل موقع “تل أم عامر” كموقع تراث عالمي. ويقع في قرية النصيرات على الضفة الجنوبية لوادي غزة. ويعد تل أم عامر هو مسقط رأس القديس هيلاريون الذي تلقى تعليمه في الإسكندرية. وذهب إلى أنطونيوس في الصحراء لمزيد من التعليم. أسس ديره الذي يحمل اسمه في القرن الثالث، ويعتبر مؤسس الحياة الرهبانية في فلسطين.

تم إنشاء أول مستوطنة خلال العصر الروماني في وادي غزة بالقرب من شاطئ البحر. وفقًا لخريطة مادبا، يظهر اسم طباثا على الخريطة، وهو يرجع تاريخه إلى العصر البيزنطي والعصر الإسلامي المبكر (400-670م). يحتوي الموقع على آثار دير القديس هيلاريون، الذي ولد في عام 291م.

يتكون الدير من كنيستين، ومقبرة، وقاعة المعمودية، ومكان للدفن، وقاعة جمهور، وغرف طعام. وقد تم تجهيز الدير ببنية تحتية متطورة. بما في ذلك صهاريج للمياه وأفران طينية ونظام صرف صحي.

كانت أرضيات الدير مرصوفة جزئياً بالحجر الجيري والبلاط الرخامي والفسيفساء الملونة. وزُيِّنت برسومات النباتات والحيوانات. قد تكون فسيفساء رائعة من القرن الخامس موضوعة على أرضية الكنيسة.

تحتوي الأرضيات أيضًا على نقشات يونانية مزخرفة بزخارف دائرية. وتم تدمير الدير عام  614 ميلاديا، ويعد دير القديس هيلاريون من المواقع النادرة في عناصره المعمارية والتي تحمل شهادة تاريخية ودينية وثقافية استثنائية. وكان بمثابة محطة مهمة على مفترق الطرق بين مصر وفلسطين وسوريا وبلاد ما بين النهرين.

مدينة القديسة هيلاريون في غزة. تصوير أحمد النبرس
مدينة القديسة هيلاريون في غزة. تصوير أحمد النبرس
وادي غزة

يعتبر وادي غزة أيضا منطقة فريدة تتميز بدرجة عالية من التنوع البيولوجي. بما في ذلك الأنواع المهددة عالميًا والمستوطنة والنادرة. وهذا ما لفت منظمة اليونسكو لتسجيل “الأراضي الرطبة الساحلية في وادي غزة” موقع للتراث العالمي في عام 2012.

ترجع أهمية هذه المنطقة باعتبارها الأراضي الرطبة الوحيدة في فلسطين. وتم إعلان وادي غزة كمحمية طبيعية في يونيو 2000. وطلبت وزارة شؤون البيئة مراجعة خطط استخدام الأراضي الخاصة بها.

وبحسب اشتراطات تسجيل المنطقة تراث عالمي والمقارنة مع مناطق مماثلة. فإنها تتشابه بمنطقة الزرانيق المحمية في مصر المعروفة بأنها نقطة محطة للطيور المهاجرة. إلا أن وادي غزة يتميز بنظامه المائي الفريد حيث يمكن العثور على المياه العذبة والمالحة بالإضافة إلى الطيور البرية والمائية.

يتميز وادي غزة بالعديد من التعرجات والمنعطفات. حيث ينحني ثماني مرات أثناء مروره في قطاع غزة. وتحتوي ضفاف الوادي على عدد من المدرجات. يختلف عرض الوادي من منطقة إلى أخرى، ويتسع تدريجيًا بالقرب من مصبه ليصل إلى حوالي 100 متر.

تل السلطان
تل السلطان
تدمير تراث غزة 

الأماكن الثلاثة تم تصنيفها ذات أولوية عالية للحماية والمحافظة عليها. بحسب تشريعات التراث الثقافي الوطني الفلسطيني. لكن هناك أماكن أثرية أخرى في غزة، لا تقل أهمية عنها ورغم ذلك خضعت للتدمير على مدار السنوات الماضية.

من بينها “تل السكن”، أحد أقدم المواقع في غزة التي اكتشفها علماء الآثار الفلسطينيون والفرنسيون والسويديون الموقع في عام 1998. ويعتقدون أنه مستوطنة نادرة من العصر البرونزي عمرها 4500 عام. ولاحقًا مدينة كنعانية توثق العلاقة بين مصر القديمة ومنطقة الشام.

وعلى الرغم من احتجاجات النشطاء وعلماء الآثار والمؤرخون المستمرة دفاعا عن آثار قطاع غزة. إلا أنه يفقد تراثه بمرور الوقت، في عام 2017 تم تدمير موقع “تل السكن” وموقع “تل العجول” في مدينة غزة القديمة.

وعن تاريخهما، فكل موقع عمره 4200 سنة. وكانت مواقع امتدادًا للميناء التجاري الممتد بين آسيا وإفريقيا خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد. ويقال إنها ثاني أقدم مدينة كنعانية بعد تل السكن. واكتسب اسمه تل العجول من العجل الذهبي، بحسب وكالة “فرانس برس”.

هدم الموقع

وفي عام 1933، اكتشف عالم الآثار البريطاني ويليام ماثيو فليندرز بيتري المجوهرات الذهبية وأدوات الزينة والقصور والإسطبلات. لكن قامت عائلة من غزة بهدم الموقع من أجل بناء منزل بعد أن طلب عالم الآثار السويدي بيتر فيشر من العائلة الإذن بالتنقيب في الموقع. فخوفهم من أن الحكومة في غزة ستأخذ الأرض منهم دفعهم إلى تدمير موقع قديم.

موقع آخر يعاني من الإهمال هو تل أم عامر أو سانت هيلاريون. ويتميز الموقع بخمس كنائس متتالية، ومجمعات للحمامات والمعابد، وفسيفساء هندسية، وسرداب ممتد.

كان هذا الدير المسيحي من أكبر الدير في الشرق الأوسط. أحيانًا يستخدم السكان المحليون المنطقة كمكب نفايات. بالإضافة إلى تجريف الأراضي الخاصة المحيطة بالموقع بالكامل. وتم تشييد منازل ومباني خاصة جديدة. وهذا يعني أن المعالم التاريخية والقديمة الأخرى لابد أن تكون قد دمرت.

وفي عام 2016، تم اكتشاف كنيسة بيزنطية أثناء عمل بنائي في الموقع. وتضمنت الاكتشافات قطعًا من أعمدة رخامية ذات تيجان كورنثية مزخرفة وحجر أساس يحمل رمزًا يونانيًا للمسيح، وعثروا حينها على 15 قطعة. ومع ذلك لم يتم إجراء المزيد من الحفريات ولم يشارك أي علماء آثار في هذه العملية. وتم التخلص من الكنيسة وتاريخها.

اقرأ أيضا:

الدرس انتهى لموا الكراريس

فلسطين.. قضية تفضح بشاعة النظام الدولي وإفلاسه

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر