«أرشيف بيكيا»: فتح الاعتماد.. ممنوع الإفراج عن معدات الصوت والضوء بأمر الجمارك

في يوم 4 مايو عام 1960، أرسل وزير الثقافة والإرشاد القومي ثروت عكاشة خطابا إلى رئيس المجلس التنفيذي بوزارة الخزانة من أجل ضمان إعفاء الآلات المستوردة لاستعراضات “الصوت والضوء” من الرسوم الجمركية التي فُرضت عليها. أراد عكاشة أن تُعفى وزارته من الجمارك المعتادة نظرا لاستخدام الآلات في مشروع قومي كبير، مما قد يحفز دعم الخزانة في سبيل خدمة الوطن. وقد وافق الرئيس جمال عبدالناصر بالفعل على ميزانية المشاريع الثقافية الكبرى التي عرضها عليه ثروت عكاشة في إطار الخطة الخمسية الأولى (1960-1965). وتضمنت الخطة إنشاء عروض سمعية بصرية مستديمة بمنطقتي الهرم والقلعة تحديدا، نظرا لأهميتهما في جذب السياحة الخارجية. وتقرر الشروع في هذه العروض أثناء العيد الثامن للثورة في يوليو عام 1960.

**

أثناء الجلسة التي انعقدت في 20 إبريل 1960، أجل المجلس التنفيذي للخزانة قراره بشأن طلب وزارة الثقافة والإرشاد القومي بإعفاء الآلات من الجمارك. وتقرر أن يتقدم وزير الخزانة بمشروع بديل لدفع القيمة المطلوبة للجمارك في جلسة أخرى تنعقد في 4 مايو 1960. بدلاً من إعفاء الآلات من الجمارك مباشرةً، طلب المجلس التنفيذي من وزير الخزانة أن يقدم مشروعا جديدا بـ”فتح اعتماد إضافي” كما ورد في خطاب ثروت عكاشة. ويستدعي الأمر قرارا جديدا بتغيير الميزانية الموضوعة حتى تتوفر الأموال اللازمة لسداد الرسوم الجمركية. إذن فأرفق ثروت عكاشة مع خطابه كشفا بقيمة الأجهزة والأدوات التي أتت من شركة “فيلبس” (Philips) المنوطة بتنفيذ مشروع “الصوت والضوء”. تذكيرا لوزير الخزانة بضرورة فتح الاعتماد حتى تتمكن الوزارة من تجهيز الآلات قبل العيد الثامن للثورة.

يستوقفني في هذه الوثيقة مصطلح “الاعتماد”، فهو مصطلح بيروقراطي رصين يعني الأموال المخصصة لأغراض بعينها في ميزانية الدولة. تتكون الميزانية العامة للدولة من عدة أبواب يحمل كل باب منهم عددا من الاعتمادات الخاصة. وتُخصص كل منها لدفع أجور الموظفين أو تمويل النشاطات أو صيانة المباني الإدارية مثلا. تعتمد إدارة الدولة على تلك الاعتمادات، ولا يمكن استكمال النشاط المُعتمد دون فتح اعتماد خاص لغرض خاص. إلا إذا كان النشاط مجانيا – وليس هناك شيء مجاني في حسابات الدولة. إذن فيمثل الاعتماد شريان من شرايين الدولة، التي تمر فيها الأموال العامة كالدماء التي تروي خدمات حكومية متعددة في شتى المجالات.

**

يراودني سؤال بعد قراءة هذه الوثيقة: لماذا لم يستطع المجلس التنفيذي للخزانة أن يعفي الآلات مباشرةً دون فتح اعتماد إضافي؟ هل كان هناك مانع قانوني؟ وإذا أرسل ثروت عكاشة السياسي والإداري المرموق خطابا بهذا الطلب. فما هي الضغوط السياسية أو الاقتصادية التي دفعت المجلس إلى اختيار هذا الحل؟ هل تصمم إدارة الجمارك على تقاضي مستحقاتها المالية مهما كان أهمية المشروع القومي الذي تخدمه الآلات المستوردة؟ أم هل خشي المجلس التنفيذي لوزارة الخزانة أن يتخذ قرارا دون أن ينظر الوزير فيه بتمعُن؟ هل يصعب على المجلس أن يتحمل المسؤولية المالية للإعفاء، بدلا من فتح اعتماد إضافي ليصرف من مخازن الدولة مباشرةً؟

لا تجيب الوثائق المتاحة على تلك التساؤلات، ولكنها توحي بالمجهود الدؤوب الذي بذله ثروت عكاشة في متابعة مشوار آلات “الصوت والضوء” في الجمارك. في نهاية الأمر، لم يتخط الوزير الأعطال البيروقراطية التي وقعت أمامه قبل العيد الثامن للثورة. ولم يتسن له افتتاح أول عرض لـ”الصوت والضوء” إلا في يوم 13 إبريل عام 1961. حضر حفل الافتتاح الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر وولي عهد اليونان مع نخبة من رجال الدولة. ومنهم كمال الدين حسين وثروت عكاشة نفسه.كما ورد في تقرير جريدة الأهرام عن العرض. قال عكاشة في خطبته الافتتاحية إن المشروع ينبع من توجيهات الرئيس عن ضرورة النهضة بالبلاد. ولكن لم يتحدث الوزير عن العواقب الإدارية التي وقفت في طريق المشروع ولا عن دهاليز الإدارة المالية للدولة. ربما كان الرئيس يوجه السياسات العامة لدولة يوليو. ولكن دون معاونة الجمارك وفتح الاعتمادات اللازمة ومتابعة الوزير المستمرة، لن تتحقق المشاريع الثقافية الكبرى إطلاقا.

اقرأ أيضا:

«أرشيف بيكيا»: تذكارات أعمال حكومة الثورة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر