حوار| الدكتور باسم جهاد: العثور على مقبرة حجرية وبورتريهات للفيوم في منطقة فيلادلفيا

أعلنت البعثة المصرية بمنطقة جرزا بالفيوم، منذ أيام، عن كشف أثري هام يعود للعصرين البطلمي والروماني، وذلك بمدينة فيلادلفيا القديمة. جاء هذا الكشف في موسم البعثة العاشر، حيث عثرت على نماذج لبورتريهات الفيوم بعد 114 عام منذ آخر اكتشاف لها. كما عثرت على أحد التماثيل النادرة بجانب اكتشاف مبنى جنائزي ضخم.. «باب مصر» أجرى حوارا مع الدكتور باسم جهاد، رئيس البعثة المصرية للحفائر بجبانة جرزا.

في البداية حدثنا عن فيلادلفيا المدينة الرومانية التي تم الكشف الأثري بها؟

تقع مدينة فيلادلفيا شرقي بحر وهبي في أول الطريق الموصل إلى جرزا شمال شرق الفيوم المعروف بـ”درب جرزا”. وقد سميت فيلادلفيا نسبة إلى بطلميوس الثاني “فيلادلفوس”، ومعنى فيلادلفيا هو “الحب الأخوي”.

استصلح بطلميوس الثانى “فيلادلفوس” جزءا كبيرا من إقليم الفيوم حتى أصبح صالحًا للزراعة. مما جعل الفيوم أغنى ولاية تحت حكم البطالمة. كما أنشأ ضمن مشرع استصلاح الأراضي العديد من القرى بالفيوم. ومن المعروف أن الفيوم تعرضت لمشروع آخر كبير في عهد الدولة الوسطى في منطقة اللاهون، لاستصلاح الأراضي أيضًا. وكانت تلك المشاريع تتضمن شق الترع واستصلاح الأراضي، وهو ما تكرر في مشروع بطليموس الثاني في فيلادلفيا. حيث إن الترعة البطلمية التي شقها بطليموس لا تزال آثارها باقية إلى الآن، وهي موازية تمامًا لترعة بحر وهبي وعلى نفس الخط وتبعد حوالي 20م ناحية الشرق.

بورتريهات وتابوت أثري معثور عليهم في الفيوم
بورتريهات وتابوت أثري معثور عليهم في الفيوم
لماذا قام بطليموس الثاني ببناء تلك القرى بالفيوم؟

الهدف الأساسي هو توسيع الرقعة الزراعية. حيث استجلب بطليموس العديد من الموظفين والجنود الأجانب إلى مصر، من اليونان وروما وآسيا وغيرها، لكي ينضموا إلى الجيش. ولكي يضمن وجودهم واستقرارهم في مصر لفترات طويلة دون مغادرتها، ولإعطائهم مستحقاتهم، وضمان نفقات إعاشتهم. قام ببناء قرى جديدة لتسكينهم فيها بعيدًا عن العاصمة الإسكندرية، وقام بإعطائهم قطع من الأرض الزراعية المستصلحة. حتى يضمن اهتمامهم بزراعتها، بالإضافة لتأمين مصادر الغذاء لهم، ودفع رواتبهم وأجورهم. ومن خلال توريدهم للمحاصيل وتجارتهم يدفعون أيضًا الضرائب اللازمة، وبذلك تستفيد الدولة من أكثر من اتجاه.

ومتى بدأ إنشاء فيلادلفيا وهل كان السكن بها قاصرًا على الأجانب فقط؟

تم بناء قرية فيلادلفيا قبل القرن الخامس الميلادي. واختلط السكان الأصليين في القرية بهؤلاء الأجانب. وتم بناء القرية على غرار المدن الرومانية، من حيث تقسيم الشوارع وشكلها الذي يشبه لوحة الشطرنج. فقد كانت عبارة عن شوارع متقاطعة يتخللها بلوكات سكنية تضم من 9 إلى 10 منازل، وتعرف المنازل في تلك الفترة بالمنازل البرجية. حيث يكون مدخل المنزل ليس من الشارع لأن ما يفتح على الشارع هو البدروم، ويكون الدور الأول هو مدخل المنزل من خلال السلالم.

كيف كان شكل فيلادلفيا؟ وهل كان تخطيطها يشبه الإسكندرية القديمة؟

بالفعل كانت فيلادلفيا صورة مصغرة من الإسكندرية، وكانت تحت إدارة شخص يدعى زينون، الذي كان يدير أملاك وزير المالية أبولونيوس في فيلادلفيا، والتي كانت تقدر بـ10 آلاف أرورة أي ما يعادل الـ5 آلاف فدان زراعي في المنطقة نيابة عنه. وجلب زينون معه من الإسكندرية أمهر الفنانين، الذين أتوا بأفكارهم من العاصمة، ونقلوا كل ما كان في الإسكندرية من فنون وعمارة ورسم إلى المدينة الجديدة.

نستطيع القول أنا ما اندثر واختفى من ملامح الإسكندرية القديمة، بسبب الزحف العمراني والمديني هناك. نراه الآن في مدينة فيلادلفيا بالفيوم. ويمكن من خلال الموقع الآن وضع تصور بشكل كبير عن مدينة الإسكندرية القديمة كون فيلادلفيا نسخة منها.

لماذا لم تستمر تلك المدينة في البقاء؟ وماذا حدث كي يهجرها السكان بالرغم من الازدهار الذي حظيت به؟

ازدهرت المدينة في القرن الأول والثاني قبل الميلاد، والقرن الأول الميلادي، لكن مع بداية القرن الثالث الميلادي وإلى القرن الرابع الميلادي، تم إهمال تطهير الترع ومد المياه. ثم انخفض منسوب المياه، ولم تعد هناك مياه للري وحدث تصحر للأراضي، وأصبحت غير صالحة للزراعة. لذا ترك السكان القرية وهجروها، ومع بداية القرن الخامس الميلادي أصبحت المدينة خاوية تمامًا.

وقد أخبرتنا البرديات التي عُثر عليها بالمكان عن تاريخ القرية وما حدث لها، فهناك برديات تحمل نداءات إغاثة وشكاوى ومراسلات أرسلها سكان القرية إلى الحكام في الإسكندرية كي يقوموا بتطهير الترع، لأن هناك نقص في المياه.

الدكتور باسم جهاد رئيس البعثة المصرية للحفائر
الدكتور باسم جهاد رئيس البعثة المصرية للحفائر
أعلنتم أنه تم العثور على بعض البورتريهات.. هل ما تم اكتشافه من بورتريهات سابقة يعود لهذا المكان أيضًا؟ ومتى بدأ الاهتمام بالبحث والتنقيب في المنطقة؟

كانت المنطقة منسية بشكل تام إلى عام 1868، حتى أتى إلى المنطقة جامع أنتيكات من النمسا يدعى “جراف”. وقام بجمع عدد كبير من البورتريهات، والتي تم توزيعها بعد مماته عام 1930 على العديد من المتاحف حول العالم. وحصل متحف فيينا على نصيب الأسد من تلك البورتريهات. لكنه أخفى حتى وفاته المكان الذي عثر فيه على تلك البورتريهات التي جمعها من الفيوم.

بعد وفاة جراف كان هناك تساؤل كبير في العالم، من أين جاءت تلك البورتريهات، لكن تم تحديد مكان يطلق عليه الروبيات بالفيوم على أنه مصدر البورتريهات. إلى أن أتى المهندس المعماري “اشتبلر” الذي ذهب إلى نفس المكان وعثر هو الآخر على العديد من البورتريهات. وقام برسم خريطة وحدد فيها المكان وكتب عليها “هذا هو المكان الذي أتي منه جراف بالبورتريهات”. وعندما نطابق تلك الخريطة القديمة بمنطقة جرزا التي تقع فيها قرية فيلادلفيا يتضح أنه هو نفس المكان.

في عام 1898 جاء عالم المصريات والآثار الشهير “وليام ماثيو فلندرز بتري” والذي كان يعمل بمنطقة هوارة واللاهون بالفيوم. وقام بعمل مسح شامل للفيوم، لكنه لم يكتشف أن هذا الموقع هو فيلادلفيا، وأشار إليه أنه “كوم رقم 3”.

وفي عام 1900 جاء اثنين من علماء الآثار والبرديات الشهيرين إلى المنطقة وهما “برنارد جرينفل، وآرثر هانت”. وعثرا أيضًا على بعض البورتريهات المعروضة الآن بالمتحف البريطاني. كما عثرا على بعض البرديات، ولأنهما علماء برديات عرفوا أن هذا الموقع يسمى مدينة فيلادلفيا.

وفي عام 1908 أتي إلى المدينة عالمين من متحف برلين. نقبا في المدينة، وتمكنا من معرفة التخطيط الخاص بها لكنهما لم يتمكنا من التنقيب في منطقة الجبانة. حيث قامت الحرب العالمية الأولى، وسافرا ولم يعودا مرة أخرى، وحتى عام 2016 لم يأت أحد من العلماء إلى تلك المنطقة. فقمنا نحن كمصريين بتقديم طلب إلى اللجنة الدائمة للتنقيب للعمل في المدينة.

بدأتم كبعثة مصرية في العمل بالمدينة منذ عام 2016.. فكيف صار العمل هناك وهل أنتم البعثة الوحيدة التي تعمل هناك حاليًا؟

هذا هو الموسم العاشر للبعثة المصرية بالموقع. فقد قمنا في عام 2016 بالتقديم للجنة الدائمة، وبعد أن أخذنا الموافقة كان لدينا الإصرار على القيام بالعمل بشكل محترف وبجودة عالية. في البداية قمنا برسم خريطة للموقع لأول مرة. وقمنا بعمل مسح أثري لأكثر من موسم حتى نضع أيدينا على طبيعة الوضع والتاريخ والتتابع لمنطقة الجبانة على وجه الخصوص شرق الموقع.

وجوارنا تعمل في الموقع بعثة فرنسية، لكنها تعمل بمنطقة المساكن بالقرية غرب الموقع. وقمنا بتحديد التتابع للتعرف على استخدامات الجبانة خلال القرون المختلفة، إضافة إلى معرفة التطور المعماري للمكان.

وماذا كانت نتيجة العمل وما تم الكشف عنه الآن بالمدينة ومدى أهميته؟

النتائج عظيمة ومبهرة، فقد عثرنا لأول مرة على مقبرة حجرية دائرية الشكل تعود للعصر البطلمي، وهي مصممة على عدة أدوار بها أماكن أو عيون للدفن يطلق عليها “اللوكاليات”. وقد تم العثور على مقبرة من هذا النوع في الإسكندرية ولكن في فترة لاحقة من العصر الروماني. لكن نتيجة الزحف العمراني بمدينة الإسكندرية لم يتم العثور على مقابر أخرى قديمة مثل مقبرة فيلادلفيا.

عثرنا أيضًا على أكثر من عشرة مقابر من مقابر الكتاكومب، وهي عبارة عن مقابر جماعية، وبداخلها بورتريهات جديدة من بورتريهات الفيوم بعد ما يزيد عن 120 عام من آخر بورتريهات تم العثور عليها. والرائع في الموضوع أننا جميعا شاهدنا البرورتريهات بالمتاحف، لكن هذه هي المرة الأولى التي نشاهدها في مكانها الأصلي، وكيف كان شكلها بالموقع وشكل المقابر التي كانت موجودة بها. وتعد هذه المرة الأولى التي يعثر فيها فريق من العلماء المصريين على بورتريهات للفيوم بعد مرور 114 عاما من انقطاع البحث عنها، وحدث هذا أيضُا في سياق كشف أثري.

عثرنا أيضًا على مجموعة كبيرة من أوراق البردي، تعكس العديد من نواحي الحياة المختلفة بالمدينة، من مراسلات وعقود ومعاملات مادية. من أول القرن الثالث قبل الميلاد وحتى القرن الثالث الميلادي. كذلك عثرنا على مجموعة متنوعة من التوابيت المختلفة يعود بعضها للنظام المصري القديم، الذي يحمل نصوص كتاب الموتى، ومنها ما هو على الطراز اليوناني، وفي أحد التوابيت اليونانية عثرنا على كنز هام للغاية. وهو تمثال تراكوتا أي من الفخار طوله 55سم للملكة “أزيس أفروديت” ولا يوجد منه سوى قطعتين على مستوى العالم. حيث يوجد تمثال بمتحف اللوفر والآخر بمتحف اﻟﻤﺘﺮوﺑﻮﻟﻴﺘﺎن. وهذا هو الثالث لهم، المدهش أن التمثالين الآخرين لا توجد معلومة حول أين وجدا، عكس ما عثرنا عليه نحن. بالإضافة إلى اكتشاف مبنى جنائزي بأرضية ملونة تحاكي الفسيفساء أو الموزايك، وكان عبارة عن مزار ديني.

هل تعتقد أن المكان لم يكشف عن أسراره بعد وأنه به الكثير من البورتريهات وغيرها؟

بالطبع قد يكون هناك المزيد والمزيد من الاكتشافات في الفترة القادمة، ليس بموقع مدينة فيلادلفيا فقط بالفيوم. بل هناك مناطق أخرى تعمل بها العديد من البعثات الأثرية، مثل البعثة التي تعمل بمنطقة فج الجاموس. وهناك البعثتان المصرية والفرنسية بجرزا، والبعثة الإيطالية بدمية السباع. والبعثة الألمانية بمدينة ثيلادلفيا أو بطن أهريد، والبعثة الروسية في دير البنات، البعثة الأمريكية في كوم أوشيم كرانيس وغيرها من بعثات تنتشر في المدن الرومانية القديمة والمناطق الأثرية بالفيوم.

في وسط تلك البعثات الأجنبية المتعددة والمختلفة التي تنتشر في المواقع المختلفة كيف تصنف البعثة المصرية؟

أرى أن البعثة المصرية من أهم البعثات التي تعمل بالفيوم، وتتكون البعثة من 8 أفراد، منهم متخصصين في الفخار، والمساحة والمتخصصين في العظام الآدمية  والحفائر والرسامين وغيرها. والصور توضح أن العمل تم بجودة واحترافية عالية، وقد يكون مستوى البعثة المصرية أعلى بكثير من بعثات أجنبية أخرى، وهذا الكشف الأخير قدم للعالم معلومات حول شكل النظام المعماري والإنساني بداية من القرن الثالث قبل الميلاد. ونشرنا العديد من المقالات العلمية حول هذا الموقع، ونحن بصدد نشر كتاب يضم عمل البعثة في الـ6 مواسم الأولى ونتائجها.

نحن لا نحفر فقط، بل نحفر ونبحث ونستكشف ونوثق أيضًا ما قمنا به، حتى يرى العالم أجمع أن العلماء المصريين لا يقلون شيئًا عن علماء العالم، وأن بمصر والفيوم على وجه الخصوص به الكثير سيتم الكشف عنه في الفترات المقبلة.

اقرأ أيضا

«ثمار الحب»: أعمال فنية من النحت والجرافيك للفنانين عماد عزت وإنجي عبدالمنعم

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر