يا وجعك يا توفيق .. قصة قصيرة  لـ أحمد الشريف

 
عم توفيق مات أمس. يا وجعك يا توفيق.يقولها سريعا عندما يُطلب منه  عمل شئ ثم يكررها ببطء بعد انتهاء المهمة . وفى كلتا الحالتين يكون صوته عاليا مرحا. بعد صلاة الفجر جنح بنا القارب فى المنطقة التى يتجنبها الصيادون لكثرة كتل الطين ونباتات الحلفاوالبوص. انغرز بقوة فى الطين،لا يمكن أن يتحرك إلا إذا ربط بحبل قوى وشد من أعلى الصخرة.كنا ننتظر.تبه أحدنا إلى قرب بيت عم توفيقمن البحيرة. لم يطل انتظارنا، ظهر من بعيد، رأىما نحن فيه خلع هدومه وتوغل فى مياه البحيرةالباردة متجها صوبنا، طوحنا الحبل له، فعاد صاعدا الصخرة الكبيرة وشرع فى شد المركب بقوة.
“اجمد يا وله يا وجـ عـ ك يا توفيق”.
تكاتفنا مع قوتهلدفع المركب للخروج من بركة الطين.
بعد اطمئنانه على خروجنا، جلس بهدوء، ” هات سيجارة يا وله”
الشيخ عارف آت من الحقول البعيدة، لمحنا، ورأى عم توفيق عاريا فى البرد المميت. ” والله يا ابن الكلب لو وقعت لتنزف زى النسوان”.
يرد عليه بضحكته المجلجلة ، تملآنا بالسرور والحب للناس وللدنيا.. أراه فى الصباح الباكر واقفا كالطود، فاتحا ذراعيه، يتمنى احتضان الحقول ومياه الجداول والسماء وكل نبة وإنسان على وجه الأرض. فى طقسه هذا، يعطى ظهره للعابرين، تلك اللحظات من التأمل والغبطة بالطبيعة هى زاده اليومى لاستقبال أيام الدنيا.. هناك أيام سوداء مرت عليه، وقتها، كان يرفع بصره للسماء، فيرى الظلام وقد طغى على الدنيا. حدث هذا عند وفاة زوجته.
رأيتهوهو الرجل القوىالذى لا يكف عن الضحك ومشاكسة طوب الأرض، يضع رأسه فى حجر أمه العجوز ويبكى بتشنج. يا الله !هذا الطفل الكبير من انتزع منه حبيبته؟
ـ ليه عم توفيق بيبكى يا به؟
ـ غالتك غالية ماتت.
لن أرى هذه المرأة الجميلة مرة أخرى ، كانت تملأ جيوبى بكل ما أحبه، لم أرى امرأة فى رقتها وروحها الحلوة، ابنسامتها السماوية، لاتقاوم، كنت ألتصق بها مثل قط صغير.
ـ والله يا غاليه أنا بغير عليكى من الواد ده.
ترجوه أن يتركنى معها قليلاً.
ـ مونسنى يا توفيق بدل القعدة لوحدى.
هى لم تنجب وهو لم يتزوج عليها . فى تلك الليلة المشئومة خرج وحيدا متجها ناحية البحيرة ، رمى شبكته بلا مبالاة ، وغرق فى حزنه ثم انحدرت دموعه.
“يا وجعك يا توفيق حتى المره الوحيدة اللى خطفت قلبك ماتت “.
طالت جلسته حتى الصباح . رجع للبيت وأفرغ رزقه من السمك فى طشت كبير، تعجبت العجوز فهو لم يصطد كل هذا من قبل.
فى طريقه، التقى بعبد الحفيظ جمعه وعبد الحفيظ عندما يتشاجر مع أحد فى فيلكسيا يذهب إليه فى الليل وهو رابط رأسه بقطعة قماش وفى يده نبوت. سأل عم توفيق عن رأيه فى الموتوسيكل المضاد للألغام ، اخترعه ليجنب أهل القرية الدوس فى الجلة. لم يرد . سأله عن رأيه فى سيمافوره الإلكترونى، محملا إياه مسئولية وضعه مكان سيمافور المحطة القديم. أخيرا فاض كيله واحتد:
ـ يجب أن تبدى رأيك فى اختراعى جهاز مضاد لتلوث بيئة القرية من دخان الكوانين.
تنهد عم توفيق وأشار له على رقبته التى أصبحت أرفع مما ينبغى.
فى يوم السوق وهو يوم عمله سائقا لجلب نساء القرى المجاورة يعود إليه حبوره ويصيح بنشوة: “يا وجعك يا توفيق”  يقولها وهو يطبطب على أرداف النساء، يستجبن لمداعباته ولو فعلها غيره لأصبح الدم للركب.
يوم وداعه الدنيا تعطلت السيارات على الطريق،أمتنع زملاؤه عن العمل، قال أحدهم: “الجنازة لم تخرج بعد، لامن البيت ولا من الشارع ولا من البلد ولا من قلوبنا” وبكى بمرارة.
كان يفتح ذراعيه وهو يستقبلنى أنا وأبى ونحن نعبر الجسر إلى حقله، يتلقفنى فى حضنه فأشعر بخدر لذيذ وهو يربت على بيديه الخشنتين،أشم فيهما رائحة الطين مختلطة بمياه الأرض والحشائش الخضراء وبقايا الفاكهة المعطوبة ، يقذف بها فى مياه الترعة فتسير مع التيار حتى بحر الطاحونة.
ـ ابن الكلب ده عشيق مراتى
يضحك أبى ويجذب بعض أشواك الأرض العالقة بجوربى.
عندما كبرت قلت له مداعبا إن هناك بلدا بعيدا، يعشق فيه الرجال النساءوتعشق نساؤه الرجال. خطف يدى ووضعها فى فمه: ” أبوس أيدك سلفنى فلوس التذكرة”.
فى مرضه الأخير صرخ فى الدكتور: “إيه كل حاجة ممنوع ، ممنوع تاكل لحمة ، ممنوع تعمل مجهود، ممنوع تدخن، ممنوع تسكر، ممنوع تسهر، ممنوع تفكر، ممنوع تصطاد، ممنوع تضحك، نسيت تقول ممنوع تعيش”.
قبل وفاته بأيام طلب أن يدخلوه غرفة قصية فى البيت ويتركوه وحده، دخلت عليه، فوجدته ممسكا بعود قش، يرسم به خطوطا على الأرض وهو يبصق قطع دموية صغيرة من كبده المهنرئ. نافذة الغرفة مفتوحة، يرى عبرها مياه البحيرة. لمحت شيئا أبيض يتحرك، تصورت أنه حمامة، لم تكن. مرت بجواره فرفعها بيده، نورس ! نورس؟ أفلته من يده وألقى له بفتات خبز ..  النورس لا يأكل إلا السمك يا عم توفيق.. اعتاد هنا على أكل الخبز.. من أين جئت به؟ .. شخص رمى به من النافذة ، وربما جاء من نفسه، منذ متى .. لا أدرى .. كان متضايقا من أسئلتى الغبية وعصبيا بدرجة كبيرة، فشعرت أننى أسأل وأجيب.
ـ ياعم توفيق اطلع من المكان ده وارجع لسريرك.
ـ اطلع أنت بره.
كنت أجرى فى شوارع فيلكسيا، لأحضر له الدواء من أقرب أجزخانة، أدرك أنه لاجدوى من تجديد العلاج، كان يومه الأخير.
انقطع التيار الكهربائى. أبطأت الخطو، اقتحمتنى رائحة زهور الياسمين، رائحتها تتكاثف فى الليل.. امتلأ المكان بالناس،  ركعت بجوار سريره ، أخذنى فى حضنه وربت علىّ ، حملونى بعيدا. فبل احتضاره تمتم بكلمات خافتة ” أنا حبيتكم كلكم”.
تركت البيت لأقرب مكان أستطيع أن انفجر فيه . كان نورس عم توفيق يطير من النافذة ويحلق على مياه البحيرة  ثم اختفى.

أحمد الشريف من مواليد محافظة الفيوم، عام 1970، يعيش بالدنمارك،  كاتب متميز يراوح الكتابة بين القصة القصيرة  والرواية  بجانب الترجمة الأدبية، بدأ مسيرته الإبداعية فكتب مجموعة “مسك الليل” التى صدرت عن دار ميريت ، وبعدها أصدر رواية ” ليل لأطراف الدنيا”.وصدرت عن دار ميريت أيضا، ثم مجموعة قصصية بعنوان ” كأنه نهار” عن دار الدار للنشر، ثم رواية “شتاء أخضردافئ” التى صدرت فى العام الماضى، عن دار ألف ليلة وليلة. وله قيد النشر رواية قصيرة مترجمة عن النرويجية بعنوان”المرة الأولى”  للكاتبة النرويجية فيجديس يورت .

 

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر