قاهرة «نعمات أحمد فؤاد»: روح الدفاع عن المدينة (1-2)

في ظل الهجمة الحكومية على تراث القاهرة، التي تدمر فيها الجبانات وتغير معالم الأحياء القديمة وتمحي ذكرها التاريخي بتغيير المسميات، بات من الضروري استعادة تجربة للدفاع عن تراث المدينة. قدمت تجربة في مواجهة رأس السلطة دفاعا عن حق المصريين في تراثهم وتاريخهم. هنا، نتذكر الكاتبة نعمات أحمد فؤاد (توفيت 2016م)، التي قدمت شهادة معمقة عن القاهرة، ففي كتبها وفي مقدمتها كتابها (القاهرة في حياتي). كما قدمت تجربة مدنية في قيادة حملة للدفاع عن هضبة الأهرامات من محاولات خصخصتها أيام الرئيس السابق أنور السادات.
هنا نستعيد «قاهرة نعمات فؤاد»، التي عاشت فيها على مدار عقود العشرين ووثقت معالمها، وذابت في عشقها، وأفنت عمرها في الدفاع عن تراثها، فشكلت روح الدفاع عن المدينة وجوهرها.
***
نعمات فؤاد التي ولدت العام 1924، وعاشت طفولتها في قرية مغاغة بمحافظة المنيا. تلقت تعليمها الابتدائي هناك، لكن والدها أصر على أن تستكمل تعليمها الثانوي، في وقت لم يكن تعليم الفتيات شائعًا في مصر. وقع الاختيار على أن تدرس في مدرسة حلوان الثانوية للبنات، فسافرت إلى القاهرة لأول مرة على ما يبدو في نهاية ثلاثينيات القرن العشرين، لتلتحق بالمدرسة الداخلية التي مكثت فيها ست سنوات، حتى حصلت على شهادة التوجيهية (الثانوية).
واختارت أن تلتحق بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا). حيث حصلت على الشهادة الجامعية العام 1948، ثم الدكتوراه عن نهر النيل في الأدب العام 1959. لذا، تركت لنا شهادة مهمة عن الضاحية الجنوبية للقاهرة وكيف كانت في ثلاثينيات القرن العشرين.
تلخص الكاتبة الكبيرة علاقتها بالمدينة قائلة في مقدمة كتابها (القاهرة في حياتي): “من طول ما عشت في القاهرة، وعاشت القاهرة فيّ، أصبحت مجاليها ومآسيها هي الشاغل أردده في الحديث، وأجدده في الكتابة حتى أنه لا يكاد كتاب من كتبي يخلو منها: وقفة مع فنونها، أو إطلالة على ربوعها، أو تأريخًا لرجالها، أو إعلاء لتراثها، أو وفاء لعطائها، أو ولاء لنيلها مقصورًا عليه، أو انتفاضة من أجلها“.
***
وهي هنا تشير إلى مجموعة من كتبها التي اهتمت بالقاهرة ومعالمها ورموزها، منها كتابها الأشهر (شخصية مصر) الذي جاء غداة هزيمة 1967، وكتبها عن أم كلثوم وأحمد رامي وإبراهيم ناجي وإبراهيم المازني.
لم يتوقف عطاء نعمات فؤاد عند حد تأليف الكتب التي جمعت بين الدقة التاريخية ونصاعة الأسلوب الأدبي، بل نراها تقتحم عش الدبابير، فدشنت حملة بمفردها دفاعًا عن هضبة الأهرامات من خطة لبناء منشآت تجارية عليها. تصدت في ذلك لرغبة الرئيس أنور السادات لتنفيذ المشروع، الذي أعلن عن إنشاء ملاعب جولف فوق هضبة الهرم، فتقدمت بدعوى قضائية ضد رئيس الجمهورية، الأمر الذي أثار ضجة كبرى داخل مصر وخارجها، ما أدى لإجهاض المشروع وانتصرت نعمات في النهاية، وقد سجلت هذه المعركة في كتابها الشهير (مشروع هضبة الأهرام أخطر اعتداء على مصر)، والذي تقدم فيه درسًا عظيمًا في الدفاع عن التراث المصري.
***
الكاتبة نعمات أحمد فؤاد وقعت في حب القاهرة، لذا خصتها بكتاب فريد يحكي عن علاقتها بالمدينة، وكانت حلوان البوابة التي دخلت منها المدينة لذا أعطتها مساحة من حكيها الذي يرتقي لمرحلة التوثيق للتحولات التي مرت بها العاصمة المصرية على مدار خمسين سنة، أي الفترة بين وصولها إلى القاهرة وتأريخ صدور كتاب (القاهرة في حياتي).
تقول عن رؤيتها لحلوان: “تمتعت عيني بضاحية هادئة تحيط بها الصحراء. الشارع الرئيسي فيها هو الذي يصل بين المحطة ومدرسة حلوان الثانوية للبنات… تكاد تعد المارة به… كانت حلوان واضحة المعالم يقصدها الناس للعين المعدنية، والحديقة اليابانية، والجو الصحي للاستشفاء وللشتاء. كانت حلوان مشتى من مشاتي مصر كأسوان والأقصر، وبها مثلهما فنادق كبيرة جميلة، أحدها خلف مدرستي“.
***
هنا تتكلم عن المدينة في النصف الأول من القرن العشرين، عندما كانت ضاحية هادئة، لا يربطها بالقاهرة إلا خط سكك حديدية، واعتبرت واحة للاسترخاء والهدوء بالنسبة لكثير من علية القوم في القاهرة. وهي الحالة التي توقفت عندها الكاتبة في أول معرفتها بالقاهرة، لكن بقاء الحال من المحال، فحلوان جرت عليه الكثير من التحولات بفعل السلطة في النصف الثاني من القرن العشرين. إذ اختارتها الدولة في عصر جمال عبد الناصر لتركيز بعض الصناعات الثقيلة فيها، الأمر الذي غير من طبيعتها الهادئة وفتح أبوابها لاستقبال هجرة من الأقاليم للعمل في المصانع التي تأسست فيها.
هذه التحولات شكلت صدمة لنعمات فؤاد، التي زارت المدينة بعد عقود (قبل سنة 1986 تاريخ صدور كتابها عن القاهرة)، فالتحول كان كبيرًا، دفعها للكتابة بألم: “ويناديني الحنين إليها، بعد ان بعد عهدي بها، فأزورها، ولكن ماذا أرى؟ صورة غير الصورة، ومدينة غير المدينة، لا أصدق عيني أن الجميلة الهادئة الناعمة تعج بكل هذا الخلق، وتضج بكل هذا الصخب، لقد غدت معقلًا من معاقل الصناعة“. ثم تبدي اعتراضها على تحويل حلوان لمنطقة صناعية ما أدى إلى تدمير خصوصيتها.
***
تنتقل نعمات أحمد فؤاد من حلوان إلى القاهرة ذاتها، فعلاقتها بها بدأت مبكرة أيضًا، إذ قضت الإجازة الصيفية من المدرسة عند جدتها بالقاهرة. وهي لا تخفي وقوعها في غرام المدينة ما تعبر عنه صراحة بوصف أدبي رائع ينقل صورة لنمط حياة في المدينة يبدو غريب الوقع على سمع ساكن المدينة في يومنا هذا، تقول:”في كل مرة أتملى القاهرة كمن يراها لأول مرة، وكانت القاهرة في مطلع حياتي [في ثلاثينيات القرن العشرين) لا تشبع العين منها، كل شيء فيها يرف من الجمال ويشف من النظافة، كان ركوب الترام متعة، وركوب الأتوبيس متعة، كان نهارها مشرقًا وليلها متألقًا، كان الناس -أعني أهلنا الطيبين- لا يحجب سماحتهم زحام أو رغام أو إرهاق أو إملاق… كان الإنسان المصري حتى الخمسينيات ابن بلد يحب الزينة والمتعة والجمال“.
تتحمس صاحبة (شخصية مصر) للمدينة فتقول: “إن القاهرة أجل وأعظم العواصم، ليس من باب زهو الوطني، فإني أتكلم عنها بمقياس القيمة لا الوسائل الحديثة، أعرف أن الغرب يرفع ناطحات السحاب فإذا بالكم فيها وله تأثيره، لا يحظى بسحر الدقة الدقيقة في الترصيع المصري وحساسية الاتجاه في الهرم وأبي الهول، وأنس العمارة في معابد إمحوتب ومساجد مصر الإسلامية بقدر محسوب“.
***
الغريب أن دفاع نعمات فؤاد عن الروح المصرية أمام النمط الاستهلاكي الرأسمالي جاء مبكرًا جدًا، واستبق ما نراه الآن من اعتناق الحكومة لهذا النمط على حساب الاعتداء على التراث التاريخي للمدينة، وإزالته كما هو حاصل في جبانات القاهرة والأحياء التاريخية فيها.
وتحكي عن جولتها وهي طفلة مع جدتها في أحياء القاهرة، لتنقل بعض مفردات الحياة الاجتماعية، فتقول: “كانت الإجازة المدرسية أربعة أشهر، نصفها كنت أقضيها في القاهرة… وتحرص جدتي على إمتاعي بجديد كل يوم، وفي مقدمة هذا؛ الزيارات والشراء والاحتفالات القاهرية بوفاء النيل، وسفر المحمل، ورؤية رمضان“.
وتضيف في موضع آخر: “وكم طافت بي جدتي مشهد الإمام الشافعي والإمام الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة وسائر أهل البيت“، كانت جدتها تأخذها في جولة كل يوم جمعة لزيارة آل البيت والأولياء، وكذلك الأحياء التاريخية في المدينة. فتتذكر علاقتها بخان الخليلي وتحكي تفاصيل الحياة في حي الجمالية وعوالمه المدهشة بدقة واستفاضة، كما تبدي حرصا على تسجيل الحرف السائدة في هذه المنطقة الشهيرة.
***
وترصد الحياة الدينية وبعضها صوفي، في القاهرة، فتقول إن الجميع “يسعون إلى القاهرة حيث آل البيت يضيفون إليها، ويضفون عليها، وتعرف هي أقدارهم وتحفظ تراثهم وتعلي دينهم وتحمل علمهم… والقاهرة مدينة الفضل والعلم والتاريخ والقيمة، مدينة الأزهر الذي يضم 36 رواقًا تحمل أسماء البلاد الإسلامية، ويتلقى أبناؤهم العلم، ويلقى غريبهم المأوى والملاذ“.
وتشيد بالأزهر الذي تقول عنه: “يعيش داخلي بالرؤية والسماع والقراءة والتأمل، والاستشفاف وحين أتحدث عن حياتي في القاهرة فأن أحد خيوط نسيجي حي الأزهر، والذي طالما ترددت عليه، والجامع الأزهر الذي طالما تطلعت إليه عمارة وحضارة، ومسجدًا ومعلمًا من معالم القاهرة“.
***
وتحكي نعمات فؤاد علاقتها بجبانات القاهرة، فنرى هنا العشق الذي تكنه للمدينة كلها، وتطلق على الجبانات (حي الراحلين)، وتقول: “كانت جدتي في المواسم كسائر المصريين تتذكر الأعزاء الغائبين وتترحم عليهم، أما أنا فكنت أرى في القرافة أشياء أخرى، لاحظت صغيرة أن الزحام يعرف حتى القرافة فهي لا تظفر بالهدوء أو الصمت. أن الزحام فيها ألوان، في الأشخاص والأصوات والحركات والمعاني والعبر“.
ثم تعطي تفصيلًا لمقرئي القرافة، تكشف فيه عن جانب مهم من حياة جبانات القاهرة، التي تتعرض الآن لهجمة حكومية شرسة تغير معالمها، وتفكك نسيجها وتطرد من فيها وتهد قبابها وشواهدها.
***
استعادة سيرة نعمات أحمد فؤاد، كواحدة من كبار محبي القاهرة، في اللحظة الراهنة ضرورة. فهي، فضلًا عن توثيقها للمدينة من خلال ما عرفته وشاهدته في لحظات تحول على مدار القرن العشرين، شكلت واحدة من أهم الأصوات المدافعة عن تراث المدينة، وحفرت اسمها باعتبارها مدشنة حراك مجتمعي للدفاع عن أهرامات الجيزة من عبث الحكومة في سبعينيات القرن الماضي.
كذلك، نكشف في المقال المقبل عن وجه توثيقي مهم من عملها في تسجيل الحياة الثقافية والاجتماعية وتحولاتها، ومعالم الاحتفال برمضان، والمهن والحرف التي انقرضت بين العصرين الملكي والجمهوري في القاهرة، وهو جانب قلما يلتفت إليه أحد في مشروعها الفكري.
اقرأ أيضا:
الجريمة مستمرة: نقل رفات أمير الشعراء أحمد شوقي تمهيدا لهدم مقبرته