دروس في الفن من أزمة فيلم «ريش»

للمرة التالثة بعد مرور نصف قرن على فوز يوسف شاهين بالجائزة عن فيلم «الاختيار» 1970، وفوز أحمد عبد الله بها عن فيلم «ميكروفون» في 2010، تفوز مصر بجائزة التانيت الذهبي لمهرجان قرطاج، أقدم المهرجانات السينمائية العربية عن فيلم «ريش» للمخرج عمر الزهيري. بجانب ثلاث جوائز كبرى أخرى لأفضل عمل أول وأفضل سيناريو وأفضل ممثلة للسيدة الصعيدية البسيطة دميانة نصار.

نقاش بعقلانية

لا بد أن فوز الفيلم بجائزة جديدة، بعد جائزتي “كان” وجائزة “الجونة”، سيتسبب في صدمة وانزعاج الكثيرين ممن يهاجمون الفيلم نهارا وليلا على صفحاتهم وفي جلساتهم.

مبدئيا الجوائز في حد ذاتها لا تعطي لأي عمل قيمة إذا لم يكن يستحقها. تاريخ الأوسكار مثلا يعج بأسماء الأفلام التي فازت عن غير وجه حق، والأفلام التي كانت تستحق ولم تفز. فيلم “تايتانيك” مثلا حصل على إحدى عشر جائزة أوسكار، ولكن الزمن بين أنه مجرد عمل تجاري متوسط القيمة. “سائق التاكسي” لسكورسيزي و”طريق مولهولاند” لديفيد لينش لم يحصلا على أوسكار واحدة، ومعهما أفلام كثيرة أثبت الزمن أنها من روائع السينما على مر العصور.

لكن الأفلام التي تفوز بالجوائز وتقابل باشادات النقاد تستحق أن تناقش بعقلانية، بعيدا عن الانفعالات العصبية، غير الطبيعية، التي يقع فيها بعضنا تحت تأثير حماسه أو كراهيته الشديدة لفيلم ما.

هيستريا حادة

“ريش” ليس على رأسه ريشة، وليس أول ولا آخر فيلم يثير ما أثاره من انقسام حاد في الآراء. مهرجان “كان” الماضي شهد أيضا فوز الفيلم الفرنسي “تيتان”  Titane للمخرجة جوليا دوكرنو بالسعفة الذهبية لأفضل فيلم، وهو مثل “ريش” قسم العالم ما بين معجبين متيمين وكارهين ساخطين، يكيلون الاتهامات لـ”كان” وكل من يقول عنه كلمة مديح.

الأمر نفسه حدث من قبل مع أفلام مثل “وحشة في القلب” لديفيد لينش، “راقصة في الظلام” للارس فون ترير، “الأزرق أدفأ الألوان” لعبد اللطيف كشيش، وغيرها. أنا شخصيا تعرضت لموقف مشابه في “كان” عام 2014  عندما دهشت من الهوس المحيط بفيلم “الأم” للمخرج الكندي زافيه دولان، وقبل الحفل بساعات سألتني مراسلة تليفزيون فرنسي عن توقعاتي للجائزة فقلت لها أخشى أن ترتكب لجنة التحكيم جريمة وتمنح فيلم “الأم” جائزة. وبالفعل فاز الفيلم في تلك الليلة بالجائزة الثانية (لجنة التحكيم) مناصفة مع أسطورة السينما العالمية جان لوك جودار. ومن العجب أن السيد دولان، النابغة الذي لم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين وقتها، بدلا من أن يفتخر بهذا الشرف، غضب وثار لإنه كان ينتظر الجائزة الأولى. وهو في نظري لا يستحق، لا هو ولا أفلامه، جائزة مهرجان ساقية الصاوي، أما غضبه الصبياني فقد أكد انطباعي بأنه، وأفلامه، يعانيان من هيستريا حادة.

إعادة اختراع الفن من الصفر

مع ذلك فهذا الإنفعال خطأ، ولا يليق بنقاد وسينمائيين مهمتهم أن يفهموا ما هو الفن وما هي وظيفته وكيف يعمل. وبدلا من العصبية الأفضل أن نتناقش بهدوء، ليس لنحب فيلما ما أو نكرهه، ولكن لنفهم كيف تعمل عقولنا وما الذي يحدد ويتحكم في أذواقنا.

المربك في فيلم “ريش” أن مفهومه عن الفن والواقع مختلف. ليس فقط ضد السينما التقليدية، التي تعتمد على الحرفية والقواعد في الكتابة والتصوير والتمثيل ومحاكاة الواقع. ولكن مختلف أيضا عن التيارات التجديدية التي صارت تقليدية بمرور الزمن، مثل “الواقعية الجديدة” في إيطاليا، أو “الموجة الجديدة” في فرنسا، أو “الواقعية السحرية” في أمريكا اللاتينية.

اللحظة التي ولد فيها فيلم “ريش” تشبه اللحظة التي ولدت فيها هذه التيارات. كما تشبه اللحظة التي ولدت فيها السينما الإيرانية الجديدة بعد ثورة الخميني: انهيار نظام قوي ثابت، وإعادة اختراع الفن من الصفر. في إيطاليا ولدت الواقعية الجديدة من انهيار صناعة السينما والاستديوهات والخراب العام الشامل عقب الحرب العالمية الثانية. “الموجة الجديدة” كانت رفضا إيديولوجيا للنظام الاجتماعي والسياسي في فرنسا يتماشى مع الفلسفة الوجودية، ومسرح العبث ورفض الحرب الباردة وصولا إلى ثورة الطلبة في 1968.

في إيران قضى حكم الخميني على صناعة السينما في إيران، فاختفت الاستديوهات وانهار نظام النجوم، وعندما قرر بعض الشباب مثل عباس كياروستامي ومحسن مخملباف أن يصنعوا أفلاما، لم يكن هناك شئ، واضطروا إلى الاستعانة بمعدات بسيطة والتصوير في الشوارع والأماكن الطبيعية واستعانوا بإناس عاديين في التمثيل. وتحايلا على الرقابة لجأوا إلى موضوعات بسيطة تشبه قصص الأطفال محملة بالايحاءات والشعر البصري، وهكذا ولدت المدرسة الايرانية، التي لا يعترف بها البعض إلى الآن، ويرون أن الغرب أعطاها أكبر مما تستحق من اهتمام وتقدير!

سلوك طبيعي

الفكرة مرة أخرى هي أن هناك أعمال تحدث تغييرا في مفهوم الفن. وبمناسبة فوز “ريش” في مهرجان قرطاج المخصص للسينما الإفريقية والعربية، يمكن أن نشير إلى أن رواد السينما الإفريقية الكبار مثل عثمان سيمبين وهالي جريما وعبد الرحمن سيساكو صنعوا لهذه السينما اسلوبا وايقاعا في السرد والصورة يختلفان عن السينمات التقليدية، وبالمناسبة أيضا ينتمي فيلم “ريش” لهذا الميراث الإفريقي أيضا، وهو يشبه من بعض النواحي روائع هذه السينما، خاصة في استخدامه لانتشار السحر والممارسات السحرية وألوانه وعالمه الفقير الملفوف بالتراب مثل كثير من المدن الإفريقية، وأيضا في أداء ممثليه “الطبيعي” المفتقد لأصول الحرفة المتعارف عليها.

سمعت عددا من الآراء السلبية التي تتعلق باسلوب التمثيل في “ريش”، كان أولها قول أحد المخرجين الكبار بأنه “انفصل” عن الفيلم بسبب طريقة أدائهم الفاترة المتلعثمة، وكانت إجابتي بأنني أنفصل عن معظم الأفلام والمسلسلات المصرية بسبب نمط التمثيل التقليدي والبالي حد الابتذال الذي تجمدت وتخشبت داخله السينما والدراما التقليديين، وأن ممثلي “ريش” مهما بلغت درجة عدم احترافيتهم فهم يتكلمون ويسيرون مثل الناس العاديين الذين نراهم حولنا. وقد قرأت تعليقا للزميلة ناهد نصر تقارن فيه بين ردود فعل وكلام أسرة ضحية جريمة الاسماعيلية الأخيرة وبين طرق التمثيل في السينما والدراما التقليدية ومفهوم الطبقة الوسطى السائد عن مفهوم التمثيل الجيد، ورأت أن هناك فارقا شاسعا بين  الأداء “المصطنع” للممثلين المحترفين والسلوك “الطبيعي” للناس العاديين.

هذا الاسلوب “الطبيعي” في التمثيل يلقى اهتماما متزايدا في الدوائر التي تهتم بتطوير الفن وفتح حدوده لدرجة أن حرفة التمثيل نفسها يعاد فيها النظر، وقد تركت هذه الأفكار تأثيرها حتى على نظام النجوم في هوليوود، وأي متابع للسينما والدراما التليفزيونية الأمريكية يمكنه أن يلاحظ الاتجاه نحو “الطبيعية” في الأداء.

مشهد من فيلم ريش
لقطة من فيلم ريش

تكثيف الواقع

الأمر نفسه ينطبق على عناصر أخرى مثل السيناريو والتصوير. تقول مدارس الفن التقليدية أن الدراما هي تكثيف للواقع واستخلاص اللحظات المهمة المثيرة من هذا الواقع. ولكن من ناحية أخرى يعتبر البعض أن هذا تحريف وتزييف للواقع، لإن الحياة لا تسير وفقا لمواجهات درامية كما نرى في المسرح والسينما التقليديين، وأن التغيير يحدث عادة بطريقة بطيئة غير محسوسة عبر مواقف صغيرة عابرة، عن طريق التراكم. ولو تأملت فيلم “ريش” فسوف ترى أن الدراما تسير بشكل فاتر بطئ يشبه فتور الواقع نفسه.

فيما يتعلق بالتصوير، تلقى مدرسة الجماليات التقليدية انتقادات ومراجعات متتالية منذ ظهور “الموجة الجديدة”. أتذكر مناقشاتي مع المخرج الكبير كمال الشيخ عندما كان رئيسا للجنة مشاهدة أفلام مهرجان القاهرة منذ ربع قرن تقريبا. كان الرجل يصاب بالانزعاج الشديد لدرجة الاعياء من “موضة” الكاميرا المحمولة على الكتف التي سادت السينما المستقلة الأمريكية منذ بداية التسعينيات. وكان ينتقد هذا الاسلوب بضراوة لإنه يجرد فن التصوير من جمالياته ومعناه.

من هنا أستطيع أن أفهم انزعاج مدير التصوير الكبير سعيد شيمي من اسلوب التصوير في “ريش”، بالرغم من أنني أختلف معه، كما اختلفت منذ ربع قرن مع العظيم كمال الشيخ، ليس لإنهما على خطأ وأنا على صواب، ولكن لإنني مؤمن أن الجماليات ليست قواعد صارمة، وأن الفنان الحقيقي هو من يصنع جمالياته الخاصة.

في “ريش”، مثلما في كل فيلم عظيم، ليس هناك “كادر” مجاني أو بلا معنى، حتى تلك الكادرات التي تظهر فيها فقط أيدي وأقدام الشخصيات على أطراف الكادر، أو تلك الكادرات التي تركز بشكل “فتشي” على أوراق النقد البالية أو أحذية الزوج المهترئة.

نهاية هوليوودية

أخيرا، علق زميل أحترمه على الجوائز التي يفوز بها الفيلم بذكر فيلم “نهاية هوليوودية” لوودي ألين الذي يدور حول مخرج يصاب بالعمى أثناء تصوير أحد أفلامه، ولكنه يكمل التصوير. ويخرج العمل مشوشا ومفككا ليس به كادر واحد سليم، وتنهال عليه الصحافة الهوليوودية بوابل من الهجوم والانتقادات التي تكاد أن تقضي على اسمه للأبد، ولكن النقاد الفرنسيون يكيلون المديح للفيلم ويعتبرونه فتحا سينمائيا جديدا ويدعونه لصنع مزيد من الأفلام المماثلة في فرنسا!

يبدو أن الصديق لم يفهم السخرية المزدوجة التي يتضمنها الفيلم ( أو أنه تجاهلها عمدا). إن بطل الفيلم يشبه وودي ألين نفسه (وهو يلعب الدور بنفسه)، فأمام عدم التقدير الذي تواجه به أفلامه في أمريكا اضطر إلى الذهاب لفرنسا وإسبانيا وانجلترا لصنع أفلامه الأخيرة (بعد فيلم “نهاية هوليوودية” تحديدا!) حيث يلقى تقديرا أوروبيا متزايدا على عكس أمريكا التي تخشبت فيها صناعة السينما داخل الأنماط الهوليوودية.

السخرية المزدوجة في “نهاية هوليوودية” تمتد إلى فكرة العمى نفسه: المخرج يصاب بعمى نفسي، والمعنى أنه لكي تكون فنانا حقيقيا عليك أن تتعامى وتنسى الحرفة والقواعد والواقع الخارجي كله وأن تبحث داخلك عن الصور التي تشغل أحلامك، مهما كانت مختلفة أو قبيحة أو تتناقض مع منطق وقواعد الفن والواقع.

“ريش” بالتأكيد ليس “طبق أي أحد”، كما يقول المثل الانجليزي، ومن الطبيعي أن تحبه أو تكرهه، مثل أي فيلم، ولكن هذه العصبية المثارة حوله بين محبيه وكارهيه تستحق مناقشة أهدأ..وأعمق.

اقرا أيضا:

فيلم «ريش»..فخر السينما المصرية

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر