عود على بدء: الولع بمصر مستمر.. والإساءة أيضا!

كنت أسير في وسط البلد عندما مررت ببائع تحف قديمة، من بينها تماثيل فرعونية مستعملة من التي تباع في البازارات وبالقرب من المناطق السياحية، حين مر بجواري شابين أجنبيين أسيويين لمحا تمثال إله القمر الفرعوني خونسو، أو خونشو، أو كونشو، حسب النطق المختلف للحروف اللاتينية المنقولة عن الهيروغليفية. والإله خونسو هو الشخصية الأسطورية التي تعتمد عليها قصص “فارس القمر” أو “موون نايت”، إحدى شخصيات الكوميكس (المجلات المرسومة) التي أنتجتها دار النشر الشهيرة “مارفل”، والتي أصبحت الآن، بعد اندماجها بشركة “ديزني”، أكبر وأنجح شركة أفلام في العالم.

وقد تحولت سلسلة “موون نايت”، كما هو معروف، إلى مسلسل ضخم من إخراج المصري محمد دياب، حقق نجاحا عالميا هائلا، وكان من ثمار هذا النجاح اثارة الاهتمام بثقافة وفنون مصر القديمة والمعاصرة، فيما أطلقت عليه في مقالين سابقين “الولع بمصر”. وقد أكد لي هذا الولع وأشعرني بالسعادة رد فعل الشابين عند رؤيتهما لتمثال خونسو بين المعروضات القديمة، حيث راحا يضحكان ويشيران إليه بحماس ويتحدثان عن مسلسل “مارفل“.

مجلات وكتب وبرامج بالجملة

في اليوم التالي وأثناء تصفحي لبعض المجلات والجرائد الأوروبية رأيت العدد الجديد من مجلة “هيستوري ريفيلد” History Revealed البريطانية التي تصدرها محطة تليفزيون وراديو الـ”بي بي سي”، وقد حمل غلافه مجموعة صور حول مصر الفرعونية وعنوان الغلاف الرئيسي يقول: “دليلك الأساسي إلى: فراعنة مصر العظام. اكتشف أسرار ملوك مصر العتيقة”. وداخل العدد ملف في 30 صفحة يتناول عدة موضوعات عن مصر منها عرض مختصر لتاريخ ثلاثة آلاف سنة من خلال أهم ملوك مصر، وموضوع آخر بعنوان “كل ما تريد معرفته عن تاريخ الفراعنة” وآخر عن “أقوى نساء مصر” ورابع عن الحياة اليومية للمصريين، وموضوعين عن توت عنخ أمون (الذي يحتفل العالم هذا العام بمرور مئة عام على اكتشاف مقبرته) بجانب عدد آخر من الموضوعات المزودة بالصور الملونة والبيانات الاحصائية (الانفوجراف).

ويختم الملف صفحاته باشارة إلى أحدث الكتب والبرامج التليفزيونية والاذاعية و”البودكاست” (الراديو عبر الانترنت) التي تدور عن مصر القديمة. ومن هذه الكتب واحد بعنوان”الفراعنة” (2019- دار نشر كويركاس) يتناول تاريخ 30 سلالة من حكام مصر، ومؤلفة الكتاب جويس تيلديسلي متخصصة في علم المصريات، وهي المحررة الرئيسية لملف المجلة. هناك أيضا عرض لعدة كتب عن توت عنخ أمون وعن نفرتيتي وملكات مصر، وعدد من البرامج التليفزيونية والاذاعية منها برنامج على القناة الرابعة بعنوان “أنت ميت بالنسبة لي” عن الأهرامات يقدمه جريج جينير بمشاركة البروفيسورة سارة باراك والكوميديانة ماريا شحاتة، وبرنامج آخر عن توت عنخ أمون، وندوة على “خدمة بي بي سي” الرقمية حول نفرتيتي، وبرنامج يحتوي على تشريح علمي لجثمان توت عنخ أمون للبروفيسورة بيتاني هيوز على تليفزيون MY5 وبرنامج آخر بعنوان “أساطير الفراعنة” على قناة “سكاي هيستوري”. ومن يرغب في الاطلاع على المزيد يمكنه الاطلاع على صفحة المجلة على الانترنت 

ممنوع في مصر

يحدث ذلك في الوقت الذي تمنع فيه الأفلام الأجنبية من التصوير في مصر، ويلاحق السياح بالتحرش والتنمر والاحتيال والنصب، بدلا من أن نستغل هذا الولع لفتح الأبواب أمام ملايين السائحين، وجلب مليارات الدولارات لمصر.

ويحدث ذلك في الوقت الذي يعرض فيه مهرجان “كان”، أكبر مهرجانات السينما في العالم، فيلما عن مصر بعنوان «صبي من السماء» للمخرج السويدى من أصل مصري طارق صالح.  لم يتم تصويره في مصر ويقوم بتمثيل أدوار المصريين فيه عرب من فلسطين ولبنان وسوريا، وهو المخرج الثاني لمخرجه (بعد فيلم “حادث فندق الهيلتون”) الذي يدور في مصر دون أن يصور في مصر. وفي مهرجان البحر الأحمر في جدة في نهاية العام الماضي عرض فيلم بعنوان “شرف” للمخرج الألماني من اصل مصري سمير نصر، قام أيضا بتصويره خارج مصر بممثلين غير مصريين بعد أن رفض تصوير الفيلم في مصر..والقائمة طويلة

وبدلا من الجدل حول مضامين هذه الأفلام والشجار حولها أرغب فقط في تأكيد بديهة معروفة وهي أن المنع والهجوم يؤدي لمزيد من الاهتمام بالأعمال والاقبال على مشاهدتها ( كما حدث مع فيلم “ريش” مثلا)، كما أن الهجوم، وأعني به الهجوم على المضمون وليس النقد والانتقاد كعمل فني)، غالبا ما يجعل المشاهد الخارجي يصدق هذا المضمون، مهما كان حجم المبالغات أو الأخطاء التي يحملها. وفي الوقت نفسه فإن رفض تصوير كل فيلم من هذه الأفلام تسبب في مزيد من الاساءة للبلد، لإن الفيلم الذي يسمح له بالتصوير وسط المصريين وتحت عيونهم يصعب بأية حال أن يكون مسيئا بقدر اساءة الفيلم الذي يصور في الخارج. وبالمنطق أول شئ يجب صنعه لتحسين صورة مصر في السينما هو فتح الأبواب والسماح للجميع بالتصوير في مصر، مع توفير الدعم والتشجيع والمشاركة في صنع هذه الأفلام، ومراجعة مضمونها (ليس من منطلق رقابي بل علمي وفني) مع أصحابها، مما يؤدي إلى ايقاف أو تخفيف أي اساءة محتملة.

..ولكن من يسمع ومن يعقل؟

اقرأ أيضا:

أوبرا وتاريخ وأغاني مهرجانات: ولع عالمي بمصر..من بعيد

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر