«أرشيف بيكيا»: فصل العُهد

في دولة يوليو، تكمُن الصراعات الكبرى في الخلافات الصغرى.ورغم ذلك، يصر الإعلاميون والمثقفون والمسؤولون الحكوميون على تصوير صراعات الدولة عبر خلافات كبار رجالها. مثل الصراع بين جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر، أو الصراع بين ثروت عكاشة وعبدالقادر حاتم في وزارة الثقافة والإرشاد القومي.

لقد تناوب الرجلان على الوزارة في خلال السنوات الـ12 بين إضافة مهام الثقافة إلى الإرشاد عام 1958 ووفاة عبدالناصر عام 1970. تولى عكاشة الوزارة بين 1958 و1962، ثم بين 1966 و1970، وتولاها حاتم في فترة انتقالية بين 1962 و1965.

وعندما عاد ثروت عكاشة إلى الوزارة في عام 1966، تبنى الخطاب الصحافي الذي انتقد سياسات عبدالقادر حاتم الدعائية في مجال الثقافة أثناء ماسُمي بـ”صراع الكَم والكيف”. بينما تعزز مدرسة “الكيف”إنتاج المادة الثقافية الرفيعة مهما كان ضعف انتشارها (وهي سياسة عكاشة). تعزز مدرسة “الكَم” الإنتاج الثقافي الغزير مهما كان المُنتج رديئا (وهي سياسة حاتم).

**

تلفت وثيقة اليوم نظرنا إلى إحدى تجليات هذا الصراع السياسي. فهي تنبع من حدث قد نساه الزمن، وهو فصل مؤسسة الثقافة الجماهيرية (هيئة قصور الثقافة حالياً) عن هيئة الاستعلامات. يعد إدماج المؤسستين حدثا محوريا في حياة وزارة الثقافة والإرشاد القومي في الستينيات. عندما تولى عبدالقادر حاتم زمام الوزارة بعد استقالة ثروت عكاشة في يونيو 1962. قرر أن يجمع بين مصلحة الاستعلامات وما كان يُسمى بـ”جامعة الثقافة” آنذاك (والتي تحولت لاحقا إلى مؤسسة الثقافة الجماهيرية) في مؤسسة واحدة اسمها “مؤسسة الثقافة والاستعلامات”.

رأى الوزير توافقا كاملا بين رسالة الاستعلامات في إشعاع الدعاية الحكومية بالأقاليم ورسالة جامعة الثقافة في تثقيف الفلاحين والعمال. وعبّر حاتم عن هذا الرأي في العديد من الكتب التي كانت تصدر “كل ست ساعات” حسب الشعار الذي أشاعته المؤسسات الثقافية في عهده.

قرر الوزير بالتالي أن يوحد المجهودات المبذولة في الهيئتين، ودمج المؤسستين بعضا في بعض. لم يستمر الإدماج أكثر من عامين، ولكن كان أثره الإداري عميقا. مما أدى إلى خلافات كثيرة بين قصور الثقافة ومراكز الاستعلامات في الأقاليم حول ممتلكات كلٌ منهما. وفي سنة 1967، طالبت هيئة الاستعلامات بفصل ممتلكات الإدارتين رسميا. نظراً للخلاف الدائم حول معداتهما وأدواتهما.

**

يستوقفني التعبير الذي يستخدمه الموظف المنوط بفصل ممتلكات إدارتي الثقافة الجماهيرية والاستعلامات للحديث عما يجب فصله، فهو يتحدث عن فصل “العُهَد”. في الكلام اليومي، تبدو كلمة “العهدة” كالقيم الإنسانية المُثلى، فهي الشيء الهام الثمين الذي يتعهد المرء بالحفاظ عليه. أما في أعماق الدولة المصرية، تكتسب “العهدة” معانٍ شديدة الدقة رغم الميتافيزيقا الكامنة في لُب المفهوم. فالعهدة هي جميع الأشياء المادية التي تقع تحت مسؤولية الموظف بحكم منصبه الإداري.

في وثيقة اليوم، تتعدد أشكال وأطوار تلك الأشياء المادية: آلة كاتبة بالعربي، بيانو، قطع أثاث، أدوات فنية، ميكروفون، أجهزة سينمائية وإذاعية، إلخ. تقع كل هذه الأشياء، من الكرسي إلى الميكروفون إلى البيانو، تحت رعاية موظف بعينه في إدارة بعينها– في قصر ثقافة بنها أو شبين الكوم أو كفر الشيخ أو طنطا أو غيرها من الإدارات.

لا يحق للموظف أن يتصرف في شأن العهدة بدافع ذاته، إلا في إطار ما تنص عليه اللوائح والقوانين، فالعهدة ملكٌ للدولة في نهاية المطاف. طالما وقعت تحت سيطرة الشخص الواحد في الوظيفة الواحدة، تبقى أسيرته قانونا. ولكن يزداد الأمر تعقيدا عندما ينتقل الموظف إلى وظيفة أخرى – وبالتالي يجب عليه أن “يسلم العهدة” – أو عندما يتبدل حال الإدارة التي يعمل بها الموظف عبر الانفصال أو الإدماج أو الإلغاء –. وبالتالي يجب “فصل العهدة” أو دمجها أو جردها حسب الوضع القائم.

**

في الظرف الطبيعي، يكتفي الموظف بمعرفة الأشياء التي تقع تحت مسؤوليته ويدافع عنها دفاعا مستميتا. كما يحاول دائما أن يحافظ على “عهدته” دون إضافة أي مسؤوليات أخرى ولا التنقيص منها. لا تظهر محتويات العُهد في التقارير الرسمية عادةً، إلا في الكشوف التي يحرسها الموظف كالعهدة نفسها باعتبارها مفتاح الكنز. ولكنها تظهر في وثيقة اليوم بناءً على الظرف الاستثنائي الذي اندلع فيها لخلاف بين الثقافة الجماهيرية والاستعلامات حول الممتلكات الخاصة بكل منهما. ما هي الإدارة المسؤولة عن الكرسي؟ وما هي الإدارة المسؤولة عن الميكروفون؟ ربما تبدو هذه الأسئلة بسيطة وساذجة للغاية. ولكنها شديدة الأهمية في ظرف التقشف والفقر المادي الذي أصاب الإدارات المصرية عقب النكسة. حيث تعطشت جميع الإدارات إلى المعدات والأدوات اللازمة لأداء رسالتها.

تشبه العهدة صندوقا للأشياء الثمينة، ولكنه ليس بمثابة صناديق القراصنة الخيالية الرائعة. بل إنه بمثابة علبة الذهب التي تكتنزها النساء في مصر تاريخيا. ليست العهدة كنزا استثنائيا في مخابئ الجزر المهجورة. وإنما هي الكنز الخاص بكل موظف على حداه، مثل الكنز الخاص بكل سيدة مصرية بالضبط. يولي الموظف لهذا الكنز نفس قدر الاعتناء والإهمال الذي ربما توليه السيدة لعلبة الذهب. فربما تتدهور حالة الذهب مثلما تتدهور حالة العهدة في بعض الإدارات. ولكن يبقى الحفاظ على الذهب مهما كانت حالته أهم شيء على الإطلاق.

**

في الصراع بين الكم والكيف، استقر رأي الغالبية العظمى من المثقفين على دعم سياسات ثروت عكاشة، باعتبارها السياسات الأقرب للثقافة الإنسانية الرفيعة، بعيدا عن الثقافة السوقية التي كان يتاجر بها عبدالقادر حاتم. ولكن تتجاهل تلك الصورة النمطية عن الصراع بين الوزيرين نقطتين أساسيتين.

أولاً، لم يكن عكاشة نفسه ضد منطق الكَم بحسب مذكراته وخطابه المنشور عن “السياسة الثقافية” عام 1969. فقد كان يدعم التوازن بين غايات الكم والكيف على حد السواء (وهي سياسة يتفق عليها عبدالقادر حاتم نفسه. رغم رداءة بعض المنتجات الثقافية التي صدرت في عهده).

ثانياً، لم يقع الصراع بين شخصين فقط – عكاشة وحاتم – بل وقع بين أجهزة إدارية تعوم في تفاصيل بيروقراطية أعقد بكثير من أي اختلاف شخصي. لذلك فلابد أن ننظر في صناديق الثقافة الجماهيرية والاستعلامات مثلاً حتى نستوعب تناقضات السياسة الثقافية في الستينيات. لا تشكل الخلافات الصغرى حول فصل العُهد نموذجا مُصغَّرا من الصراع الأكبر بين الكَم والكيف. وإنما تؤكد لنا أنه للصراعات الكبرى تداعيات إدارية يومية لا يأخذها كبار رجال الدولة في الحسبان. ولذلك علينا أن نهتم بعُهدة الموظف حتى نفهم عَهد دولة يوليو.

اقرأ أيضا:

«أرشيف بيكيا»: تُدرج في الميزانية

للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي:

Babmsr Newsletter

النشرة الإخبارية الشهرية
مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر