«قبة» قناة السويس.. من مقر التحركات إلى متحف قومي يحفظ ذاكرة الوطن

في قلب حي الشرق العريق، حيث يعانق الماء الأرض من ثلاث جهات، ويقف الزمن شاهدا على أمجاد مضت، ينتصب مبنى «القبة» شامخًا على ضفاف قناة السويس، كأنه حارسٌ على بوابة التاريخ. هنا، لا تُروى فقط حكايات السفن والموانئ، بل تنبض الجدران بذكريات الزعماء، وتروى على نوافذه قصص المقاومة والكرامة الوطنية.

لقد كان المبنى، منذ تأسيسه في أواخر القرن التاسع عشر، أكثر من مجرد مقر إداري، بل أيقونة معمارية وثقافية، تحمل ملامح الطراز الإسلامي وروح مدينة بورسعيد الباسلة.

قبة قناة السويس متحف قومي

بعد عقود من النضال الشعبي والجهود المجتمعية، يتحقق الحلم القديم بتحويل “القبة” إلى متحف قومي يسرد ملحمة قناة السويس، ويصون ذاكرة مدينة صنعت التاريخ وواجهت الغزاة. إنها ليست قبة من حجر، بل قبة من مجد.

ويقع مبنى “القبة” في حي الشرق، أرقى وأقدم أحياء محافظة بورسعيد. ويحاط المبنى بالماء من ثلاث جهات: الواجهة الشرقية تطل على المجرى الملاحي للقناة. ومن الجهة الشمالية حوض التجارة، أما الجنوبية فتطل على حوض الترسانة. ويتمتع الموقع بمميزات عمرانية وسياحية وثقافية مهمة، لما يحيط به من مبان أثرية وتراثية.

كتب المهندس محمد إبراهيم، مدير الآثار في بورسعيد، في أحد مقالاته، أن الشروِع في تشييد هذا الصرح بداية من عام 1890م. حين اتخذت الشركة العالمية لقناة السويس للملاحة البحرية قرارا ببناء مقر إداري جديد لها في بورسعيد. عوضا عن المبنى الخشبي القديم. وذلك في الموقع نفسه، على الناصية الفاصلة بين حوض التجارة وحوض الترسانة، في الجهة الغربية من القناة.

وقد وقع اختيار الشركة على المعماري الباريسي شارل مارتن لوضع التصاميم الخاصة بالمبنى الجديد. وبناء على قرار الشركة، توجه المعماري إلى مصر لدراسة وتصميم بعض المشروعات الإنشائية الخاصة بها.

تصميم قبة قناة السويس

أضاف “إبراهيم” أن المعماري شارل مارتن قدم، في 15 ديسمبر عام 1891، ملفا كاملا بمشروعه الذي سيقام على مساحة 2.230 متر مربع. والذي سيتكون من ثلاثة طوابق يعلوه ثلاث قباب: القبة المركزية وهي الكبرى، وقبتان جانبيتان قائمتان على هياكل معدنية من الحديد. يكسوها ويزخرفها من الخارج بلاطات خزفية. وقد فضلت الشركة التعاقد مع شركة “آدمون كوانييه” للكتل الخرسانية لتنفيذ أعمال البناء في 3 مارس عام 1891. دون طرح المشروع في مناقصة بين شركة المقاولات الفرنسية الأخرى.

وتابع أن الشركة بدأت فعليا في تنفيذ البناء في الأول من مايو عام 1893. غير أن وفاة المعماري شارل مارتن في الأول من أبريل من العام نفسه أدت إلى اقتراح من المقاول آدمون كوانيه على رئيس الشركة، يقضي باستخدام الأسقف المصنوعة من الخرسانة المسلحة بدلا من الخشبية. خاصة فوق العقود في الواجهات، وهو ما وافق عليه مجلس إدارة الشركة.

وأشار إلى أنه، رغم وفاة المهندس المعماري، لم يطأ أي تغيير على تصميم القباب. سواء من حيث الهيكل المعدني الداخلي أو التغطية بالبلاطات الخزفية. وقد استغرق البناء عامين، نُفذ خلالها المشروع بواسطة شركة آدمون كوانيه، وتحت إشراف كبير مهندسي الشركة. وبمشاركة عدد كبير من العمال المصريين، والإيطاليين، والفرنسيين، وغيرهم من جنسيات أخرى. وتم تسليم المبنى للشركة في 28 يوليو عام 1895، بينما جرى التسليم النهائي عام 1920.

مبنى قبة قناة السويس: إرث معماري وقيمة تاريخية

يروي المهندس والمؤرخ البورسعيدي محمد بيوض قصة هذا المبنى العريق، ويقول لـ”باب مصر – بحري”، إنه يعود إلى عام 1895م، في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني. وقد كان في البداية مبنى خشبيا لخدمة حركة الملاحة، وسُمي حينها “مبنى التحركات”. ولاحقا، طورت الشركة العالمية لقناة السويس المبنى. فأنشأته على الطراز الإسلامي المميز بثلاث قباب خضراء: واحدة رئيسية ضخمة في المنتصف، واثنتان أصغر حجما على الجانبين.

احتوى المبنى على برج مراقبة أُسندت إليه مهام متابعة دخول السفن وخروجها من ميناء بورسعيد حتى تسليمها إلى منطقة رأس العش. كما كان مركزا لإدارة المياه والمخازن والكراكات. ومقرا رئيسيا لإدارة هيئة قناة السويس في عهد الفرنسيين. ما يجعله من أبرز المعالم المرتبطة بتاريخ الملاحة في القناة.

إدمون فرانسوا كونييه مهندس فرنسي صاحب براءة اختراع الخرسانة المسلحة
إدمون فرانسوا كونييه مهندس فرنسي صاحب براءة اختراع الخرسانة المسلحة
زيارات عالمية وذكريات وطنية خالدة

يؤكد “بيوض” أن المبنى حظي باهتمام بالغ من قادة العالم الذين زاروا بورسعيد، أبرزهم الزعيم سعد زغلول، والمهاتما غاندي، والرئيس السوفيتي خروتشوف، إلى جانب رؤساء مصر من جمال عبد الناصر إلى أنور السادات وحتى حسني مبارك. كما استُخدم كموقع رسمي خلال إعادة افتتاح قناة السويس في يوليو 1975، بدعوة من الرئيس السادات إلى شاه إيران، في احتفالية وطنية ضخمة شهدها أبناء بورسعيد، وكان بيوض أحد شهودها.

تحويل المبنى إلى متحف قومي: حلم شعبي يتحقق

يشير “بيوض” إلى أن نقل إدارة التحركات إلى مبنى جديد بشرق بورسعيد جعل من الضروري استغلال مبنى “القبة” التاريخي بما يليق بتاريخه. فجاء القرار بتحويله إلى متحف قومي يروي قصة قناة السويس ومدينة بورسعيد. ويتمتع المبنى بإمكانية رسو السفن السياحية أمامه. ما يعزز من فرصه كمزار سياحي عالمي قادر على استقطاب الزوار والسياح من مختلف الجنسيات.

وأكد أن قرار الرئيس السيسي جاء استجابة لمطلب شعبي ملح، مدعوم بجهود الأهالي والمهتمين بالتراث الذين عارضوا أي محاولات لاستغلال المبنى في أنشطة تجارية، مثل تحويله إلى فندق أو قاعة أفراح. وأشاد بهذا القرار الذي يحافظ على الهوية التاريخية للمدينة، ويعزز من مكانتها السياحية والثقافية.

المبني الخشبي لقبة قناة السويس قبل بناء المبنى الحالي
المبني الخشبي لقبة قناة السويس قبل بناء المبنى الحالي
تحفة معمارية على الطراز الإسلامي المميز

من الناحية المعمارية، يعد مبنى هيئة قناة السويس ببورسعيد أحد أبرز المعالم الإسلامية الفريدة. حيث تم تشييده بواسطة شركة آدموند كونييه الفرنسية مباشرة على ضفة قناة السويس. تميز المبنى بقبابه المزينة بالبلاطات القاشاني، ونوافذه ذات الطراز الشرقي، والنجف الفاخر الذي يزين قاعاته. إضافة إلى العقود المخموسة التي تميز الواجهات الخارجية.

اختيار موقع المقر الرئيسي للشركة العالمية بقناة السويس بمدينة بورسعيد لم يكن عبثا. بل جاء انطلاقا من كونها المدخل الشمالي للقناة، وملتقى للتجارة العالمية بين الشرق والغرب. المبنى كان القلب النابض لإدارة واحدة من أهم المجاري الملاحية في العالم.

مغالطات تاريخية حول قبة قناة السويس

أوضح المؤرخ البورسعيدي محمد بيوض، أن ما تم تداوله حول تدمير مبنى “القبة” بالكامل غير صحيح. لافتا إلى أن المبنى الذي تعرض للتدمير كان يعرف بـ”الماڤي هاوس”. وكان يقع بجوار مبنى القبة، ويشبهه من حيث التصميم، ولكن دون وجود القباب الثلاث.

وأضاف أن “الماڤي هاوس” مبنى تاريخي يحمل عبق الماضي. وقد تم رفع عليه العلم المصري عام 1956م، في مشهد تاريخي. وذلك بالتزامن مع انسحاب آخر جندي بريطاني من بورسعيد في 18 يونيو من العام نفسه، بعد 72 عاما من الاحتلال. وقد خرج الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من قاعة “الماڤي هاوس” ليقوم برفع العلم المصري فوقه.

وأشار بيوض إلى أن مبنى “الماڤي هاوس” كان مملوكا لشركة هولندية، استخدمته لاحقا كمتحف. ثم تم بيعه إلى بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى، والتي اتخذته كقاعدة بحرية عسكرية نظرا لموقعه الاستراتيجي على مدخل قناة السويس. وبعد رفع العلم المصري عليه، ردت بريطانيا ضمن العدوان الثلاثي على مصر بنسف المبنى وتدميره. بينما نجا مبنى القبة، الذي ظل قائما حتى اليوم دون أن يصيبه أي تدمير أو تخريب.

وتابع أن المبنى تعرض خلال حرب 1973م لغارة جوية إسرائيلية، وأصيبت القبة بقذيفة أحدثت ثقبا كبيرا بجانبها. ولكن، بفضل الله، لم يتأثر الهيكل العام للمبنى. وبعد نصر أكتوبر، تم ترميمه وإعادة افتتاحه في عهد الرئيس الراحل أنور السادات عام 1975.

المبنى الخشبي لقبة قناة السويس قبل بناء المبنى الحالي
المبنى الخشبي لقبة قناة السويس قبل بناء المبنى الحالي
ذكريات المقاومة والعدوان

يحتفظ مبنى القبة بسجل طويل من الأحداث الوطنية، أبرزها رفع العلم المصري عليه يوم 18 يونيو 1956، عقب انسحاب آخر جندي بريطاني من بورسعيد، في مشهد خالده التاريخ، حيث رافق الرئيس جمال عبد الناصر ذلك الحدث التاريخي.

وخلال حرب أكتوبر 1973، أصيب المبنى بقذيفة إسرائيلية، دون أن يتأثر هيكله الأساسي، ما دفع إلى ترميمه لاحقاً وإعادة افتتاحه في 1975. كما استخدمته القوات الأمريكية وقوات الأمم المتحدة خلال عمليات تطهير قناة السويس عام 1974، للوصول إلى كاسحات الألغام، قبل إعادة تشغيل القناة بالكامل.

وأكد المؤرخ البورسعيدي أن الأبناء والأحفاد، عند زيارتهم لهذا المتحف سيرون عظمة تاريخ بلدهم، وسيشاهدون في تصميمه الكثير من نقوش وتجاويف وأبواب وشبابيك وعرضه وطرازه يعتبر قصر إسلامي.

مواجهة محاولات استغلال المبنى تجاريا

قال النائب حسن عمار، عضو مجلس النواب وأمين سر اللجنة الاقتصادية بالمجلس، إنه خلال الفترة الماضية انتشرت شائعات حول بيع مبنى القبة الأثري وتحويله إلى فندق. مما أثار القلق في الشارع البورسعيدي وبين المهتمين بالتراث. وأوضح أنه بالفعل تقدم أحد المستثمرين بطلب إلى هيئة قناة السويس لاستئجار المبنى بغرض تحويله إلى فندق ومرسى يخوت وقاعة أفراح. وهو ما دفع الكتلة البرلمانية بالكامل إلى لقاء الفريق أسامة ربيع، رئيس الهيئة، للتأكد من صحة المعلومات.

وأضاف عمار: “كنا حريصين على تمثيل رأي الشارع والرأي العام في بورسعيد، الذي يرفض بشدة أي تغيير في هوية هذا المبنى التاريخي. لا سيما أن قناة السويس مدينة دفعت ثمنا غاليا في سبيل الدفاع عن الوطن”.

وأشار إلى أن نواب بورسعيد، بدعم من اللواء محب حبشي محافظ بورسعيد، أجروا اتصالات موسعة، وأرسلوا مخاطبات رسمية إلى مجلس النواب ورئيس الجمهورية. وتمت مناقشة القضية كذلك مع رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي خلال زيارته للمحافظة.

قبة قناة السويس رمز تاريخي

أكد النائب حسن عمار أن مبنى القبة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحول إلى فندق. بل يجب الحفاظ عليه وتحويله إلى متحف قومي يسرد تاريخ محافظة بورسعيد ونضالها وبسالة رجالها. وأعرب عن شكره للرئيس السيسي الذي أصدر قرارا جمهوريا بتحويل المبنى إلى متحف وعدم استغلاله في أي نشاط تجاري.

من جانبه قال عبد الرحمن بصلة، عضو مجلس إدارة جمعية بورسعيد التاريخية والمتحدث الرسمي باسمها، في تصريحات خاصة لـ”باب مصرـ بحري”، إن اللواء محب حبشي، محافظ بورسعيد، أعلن بشرى سارة منذ أيام خلال المؤتمر السنوي للجمعية بالمحافظة. وهي تحويل مبنى قبة قناة السويس لمتحف قومي.

ويأمل المؤرخون والمهتمون بالتراث  أن يتضمن المتحف عروضا حية، وجولات بحرية تحاكي تاريخ الملاحة في قناة السويس، ما يعزز من وعي الأجيال الجديدة بأهمية هذا المعلم الوطني.

اقرأ أيضا:

«ترزي الباشوات» في بورسعيد.. حكايات 65 عاما من تاريخ الموضة المصرية

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.