ستات البلد| “جميلة صبري” تحارب “البغاء” بمشغل العفاف في القرن العشرين

بمناسبة شهر المرأة وبالشراكة مع مؤسسة المرأة والذاكرة؛ نسلط الضوء على نساء ملهمات من مصر والعالم العربى فى سلسلة “ستات البلد”.

بنت ثورة 1919، والتي كانت ثورة إنسانية فريدة وساهمت في غرس قيم المساواة في الفرص ومبادئ حقوق الإنسان الأساسية بمنتهى السلاسة والبساطة والعمق، هذه السيدة “الجميلة” حقا فتحت أبواب المساواة والوطنية وحقوق الإنسان على مصرعيها في مصر بدون شعارات.

جميله صبري هي نموذج فذ من تلك النماذج المصرية الرائدة التي لم تستطع أن تفصل بين واجباتها في الجبهتين، لأنها عرفت جيدا ومبكرا جدا أن الوطن والبيت حقل واحد يستدعي جهد القادر على الحرث والزرع، بحسب كتاب “كراسات جميلة صبري” الصادر عن المرأة والذاكرة 2007 من تأليف جميلة صبري، وتقديم صافي ناز كاظم، وإعداد داليا الحمامصي.

هي رائدة من رائدات الحركة الوطنية والنسائية في مصر في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كتبت مذاكراتها في سبع كراسات بعد أن قاربت السبعين وبعد إلحاح من المحيطين بها، لتصور في شكل سردي التاريخ الاجتماعي والسياسي لمصر في تلك الفترة.

الكارت الشخصي لجميلة هانم صبري
الكارت الشخصي لجميلة هانم صبري

 في سبيل المرأة 

في إحدى الكراسات، تحكي جميلة صبري عن قصة إنشاء جمعية الترقي والتي كانت تهدف إلى رفع الوعي الوطني لدى النساء، فتقول:

كنت أهتم بكل ما يهم المرأة من كل ناحية خصوصا في الوطنية، واتفق وقتئذ نشر مقالات ملك حفني باحثة البادية فكنت اقرأها عليهن، وأشرح لهن القصد من كلامها لفائدة المرأة، وكنت أقرأ لهن أيضا ما تحويه مجلة “ترقية المرأة” للسيدة فاطمة حرم مدير جريدة الدستور، وجريدة اللواء“.

أخذت صبري على عاتقها مسؤولية مشاركة المرأة في العمل الوطني، وقامت تباعا بنشر سلسلة من المقالات في جريدة الأهالي بعنوان “في سبيل المرأة” دعت فيها إلى ضرورة تعليم المرأة وتثقيفها وطنيا وإشراكها في العمل الوطني. وتشير الكراسات إلى أنه في عام 1914 عندما اندلعت مظاهرات طالبات مدرسة محرم بك الابتدائية بالإسكندرية فأساءت لهن ناظرة المدرسة الإنجليزية، دعت إدارة جريدة الأهالي إلى اجتماع جماهيري لمناقشة المسألة والذي أسفر عن تأسيس جمعية “ترقية المرأة” والتي تهدف إلى عمل اكتتاب شعبي لتأسيس مدراس أهلية للفتيات.

وبحسب المذكرات فقد تم تأسيس الجمعية بشكلها القانوني بعد أسبوع وبعدها فتح الاكتتاب بمبلغ تعدى المائة جنيه، وفي خلال شهور وصل المبلغ إلى خمسمائة جنيه. ثم أقامت الجمعية حفلا خيريا دعت إليه هدى شعراوي وعدد من الوجهاء والأثرياء والتجار، وقد نجحت الجمعية حينذاك في جمع 5 آلاف جنيه لتشرع في بناء مدرسة بمراحلها الثلاث وبجوارها مشغل لتعليم الفتيات الخياطة والتريكو.

من هي جميله صبري؟

 اسمها بالميلاد جميلة حكمت محمد أغا الأرناؤوطي، ولدت في الزقازيق في20 أبريل 1887، وتربط بين مولدها وثورة عرابي فتقول في إحدى الكراسات

ابتدأت حياتي بعد ثورة عرابي ببضع سنين، وكان الشعب لا يزال ثائرا لما مر عليه من حوادث، وما كدت أفتح عيني حتى وجدت عائلتي مهتمة بأحوال البلاد السياسية والاجتماعية، تطالع الأهرام يوميا ومجلات كالهلال والمقتطف وطبيب العائلة وغيرها من الصحف المتزنة“.

وتتابع جميلة:

سرت معهم في هذا التيار من الوطنية المشتعلة والاجتماعات الأدبية والعلمية والسياسية فاختلطت بدمي من طفولتي“.

جميلة صبري وزوجها المستشار احمد صبري
جميلة صبري وزوجها المستشار احمد صبري

وعي مبكر

وتوضح المذكرات أنها فضلت أن تستخدم اسم زوجها أحمد صبري وهو أحد المحققين في جريمة ريا وسكينة بالإسكندرية في عام 1920، أما والدها فهو ألباني متمصر توفي وهى في سن الثالثة وأشرف على تربيتها وتعليمها شقيقها الأكبر يوسف شهدي، والذي هيأ لها برنامجا ثقافيا متفتحا وشاملا، فألحقها أولا بمدرسة الراهبات بالزقازيق فظلت هناك من سن الخامسة حتى الزواج في عام 1900 وتعلمت الفرنسية وأشغال التريكو والتطريز وأحضر لها معلما للغة العربية بالمنزل، وآخرا للغة الإنجليزية، كما درست الفقه وعلوم القرآن، وفن صناعة السجاد المغربي، وتوضح صبري أنها تزوجت في سن الرابعة عشر وأنجبت 10 أبناء عاش منهم 5 ذكور وثلاث إناث .

الاتحاد والنظام والعمل

وفي إحدى الكراسات تقول جميله صبري

كان شعار الاتحاد والنظام والعمل هو شعار لمسته لمسا وجربته فعلا وعملا وجنيت منه نجاحا طوال عمري البالغ ما يقرب من سبعين عاما، فرأيت أن أتقدم لأبناء وطني بسرد تاريخ حياتي مفصلا“.

وبحسب المذكرات فقد أيدت صبري ثورة 1952 واستبشرت بها خيرا كما فعلت من قبل مع ثورة عرابي، وحول تأثير أشعار الثورة على حياتها كتبت:

غرسوا في نفسي الاتحاد لأنه جناح الإنسان البالغ به العلا، والنظام وهو علامة الرقي والرفعة وهو الموفر للوقت والبعيد عن الفوضى، والعمل هو المنشط للإنسان والموصل به لما يريد من آمال“.

جميلة صبري في مكتبها بالجمعية
جميلة صبري في مكتبها بالجمعية

جميلة صبري ومحاربة البغاء

كانت جميلة صبري صاحبة السبق في نهضة المرأة من خلال تطوير دور الجمعيات الخيرية بحيث لا يقتصر فقط على تقديم المساعدات المالية للنساء الفقيرات بل يعمل على إدراجهن في سوق العمل، ففي عام 1923 بالإسكندرية وعندما بلغها عن طريق زوجها أن نسبة المشتغلات بالبغاء بدون رخصة مرتفعة جدا بسبب الفقر والجهل، اعترضت على فكرة ترخيص مهنة تهين المرأة وتقرر أن تحارب البغاء من خلال إعادة تأهيل للكبيرات العاملات بالدعارة بتعليمهن حرفة شريفة بجانب بعض دروس القراءة والكتابة، وتبني الصغيرات بالتعليم الثقافي والحرفي حتى لا ينجرفن إلى البغاء.

وبحسب المذكرات فقد ابتدعت أول مشروع أهلي لتعليم الفتيات القراءة والكتابة بجانب اكسباهن حرفة يدوية تكون مصدرا لكسب العيش، حيث أطلقت صبري فكرتها من خلال جريدة الأهالي ومن خلال جولاتها في المجتمع المدني والتي كانت تقوم على تجميع التبرعات لافتتاح مشغل للخياطة أو التريكو، بحيث تكون هي ممثلا للجمعية بتجميع الفتيات ويتم إلحاقهن بكورس يشمل تعلم القراء والكتابة وأشغال التريكو والخياطة وبمجرد إتقان الفتاة للمهنة تبدأ في العمل في المشغل وتقوم الجمعية بدورها بتسويق تلك المنتجات من خلال أسواق خيرية مفتوحة وتمنح الفتاة أجرها كاملا بجانب مساعدات مالية من الجمعية.

نجحت جميلة في إقناع سيدات المجتمع ورجاله وجمعت 80 جنيها افتتحت بها “مشغل العفاف” واستطاعت أن تدرج عشرات الفتيات للعمل والدراسة، وكانت تصرف جنيهان شهريا لكل فتاة أثناء فترة الدراسة والتدريب، وتروي هذه الاحداث في مذكراتها فتورد:

وقد قسمنا مشغل العفاف إلى ثلاثة فصول للتدريس وصالتين للأشغال، فالكبيرات يتعلمن الأشغال، وفي آخر اليوم يأخذن حصة قراءة وكتابة، وملابسهن هي مرايل بيضاء من الدمور، أما الصغيرات فيتعلمن العربي والحساب طوال اليوم وفي آخر النهار الأشغال، وملابسهن هي مرايل سوداء بياقات بيضاء، وقد تطوع لهذا العمل كثير من الرجال والنساء وفي أقل من شهر كان المشغل مفتوحا بأكثر من 80 بنتا، وبعض الكبيرات تطوعن بتعليم ما يمكنهن معرفته لغيره“.

أم عظيمة

تشير صبري في مذكراتها إلى أن زوجها توفي في عام 1926 بعد ولادة الابن الأصغر بشهور، مشيرة إلى أنه لم  يخلف إرثا سوى نصف معاش بسبب مدة خدمته القصيرة، فتوسط لها البعض لدى وزير المعارف محمود باشا سامي لإعفاء أبنائها من مصاريف الدراسة، وبكثير من الجهد والمثابرة والنظام استطاعت أن تقدم للمجتمع ثلاث مهندسين والابنة الكبرى أتقنت العربية والفرنسية والإنجليزية، وخلفت والدتها في إدارة الجمعية.

وبحسب المذكرات فان أصغر أبنائها هو الفنان محمد صبري، رئيس قسم التصوير الأسبق بدار الهلال، والذي خلدها في رسم كاريكاتيري عبر فيه عن هموم والدته العامة والخاصة، كما أنه التقط لها آخر صورة في حياتها عام 1961، لتموت جميلة صبري في مارس من عام 1962، بعد أن قضت حياتها بالاتحاد والنظام والعمل.

+++++++++++++++++++++++++++++++

جميع الصور الواردة بالموضوع من كتاب (كراسات جميلة صبري) الصادر عن مؤسسة المرأة والذاكرة.

إفرأ أيضا من سلسلة ستات البلد:
عائشة تيمور خنساء العصر الحديث
سمحة الخولي أيقونة الموسيقى 
هند نوفل صاحبة أول مجلة عربية للمرأة
أبلة فضيلة حكايات لا تنتهي
مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر