هيكل في سجن الرجال.. شياطين في الجنة

“أنها جنة من نوع عجيب”.. هكذا وصف محمد حسنين هيكل سجن الرجال. فبعد تحقيقه عن سجن النساء ذهب هيكل في فبراير 1948 لزيارة سجن الرجال لعمل تحقيق صحفي عن أحوال السجون.

بأسلوب أدبي رشيق، وصف هيكل السجن قائلا: “تكاد وأنت تجيل الطرف على الربى وتحت الخمائل وبين الأزهار وفي ظلال جدران السجن الشاهقة. وخلال صليل السلاسل التي تقيد بعض المجرمين في إصلاحية الرجال في القناطر. تكاد وأنت تفعل هذا ترى رأي العين الملائكة والشياطين يباشرون الصراع القديم الأبدي بين الخير والشر. ثلاثون فدانا وضعتها الطبيعة في ركن جميل من الدنيا ونثرتها بالزهر والورد وجاء حيدر باشا – مدير مصلحة السجون وقتها- فنثر فوقها 550 مجرما من أخطر المجرمين يبلغ مجموع الأحكام الصادرة عليهم أكثر من سبعة آلاف سنة. وهكذا بدأت المعركة التي تصارعت فيها الزهور والملائكة والشياطين والمجرمون”.

جواز المرور

يقول هيكل إذا كان الشر هو جواز المرور إلى هذه الجنة والذين يرسلون إليها هم المجرمون الذين لا تقل مدة عقوبتهم عن ستة أعوام قابلة للزيادة. فإن الخير وحده هو الذي يمنح تصريح الخروج منها إلى الدنيا. وثمة شروط تعطي للمجرم الحق في الخروج والأسس التي تقوم عليها هذه الشروط هي الأخلاق والعمل والعلم وفي كل عام يجرى اختبار للمجرمين في كل ناحية من هذه النواحي والناجح في ناحية يمنح شريطا له. فإذا تكاملت لديه أربع اشرطة لكل ناحية من الثلاث- الأخلاق والعمل والعلم- كان له الحق في تصريح الخروج من الجنة.

ويبدأ جولته في السجن بعنبر أشغال الجلد وبه 45 مجرما حياته تصلح لعمل 45 فيلما من أفلام المغامرات. وأولهم “علي علي يوسف” من أقطاب الطريقة الأمريكية في النشل وما من شارع من شوارع القاهرة إلا وشهد مجده. ويروي أسرار المهنة بطريقة الأستاذ المتمكن مما يقول. يشرح أولا كيف ينتقي زبائنه. ثم كيف يختار لكل واحد منهم موضوع الحديث الذي يفتحه معه. ثم كيف يرتب مع زميله النشال الذي يساعده تكتيك العثور على الفخ الذي يقع فيه المسكين المطمئن. ثم كيف يتم “الغيار” وهذا هو الاصطلاح الفني للنشل. ثم أخيرا كيف يتم الفرار، ويقول “علي يوسف” أنه له عشر سوابق ويسأله هيكل:

– هل ستعود بعد الخروج؟

ويرد: أبدا لقد تبت ثم يردف في حسرة:

– لابد أن الدنيا قد تغيرت والفن قد ارتقى.

وينظر إليه هيكل مستعجبا من كلمة “الفن” فيستوضحه على الفور أنه فن “الغيار” أكيد تغير وارتقى.

فرسان الليل

والهجام هو أكثر الأنواع الموجود في السجن وهو لص الليل العادي الذي يقتحم المنازل. فيحمل ما تقع عليه يداه وهناك طريق مختلفة للهجوم الذي يقوم به الهجام.

يلتقي الصحفي بـ”محمود عبدالله” الذي يصفه برجل نصف وجهه شوارب ونصف حياته سجن والنصف الباقي من حياته موزع بين الهجم والجيش. فقد كان جنديا في الجيش لسنوات. ثم وجد أن الجيش لا يكفي فبدأ يقتحم المنازل من أبوابها أو نوافذها على الأكثر. صحيفة سوابقه تحمل عددا كبيرا ولكنه لا يذكر إلا واحدة منها هى آخرها. ربما كان يذكرها لأنها التي قادته إلى الجنة وربما كان يذكرها بالأكثر. لأن التي سببت وقوعه امرأة سطا على بيتها فتمكنت من القبض عليه وحدها وكانت نهاية مؤلمة لـ”هجام”.

ويذهب لمطبخ الإصلاحية فيقابل هجام من نوع آخر وهو “عبدالخالق محمد الطحان” يصفه بصاحب القامة التي لا ترتفع كثيرا عن الأرض ويستوقفك فيه رعشة دائمة لا تفارقه. ويسمع قصته الغريبة لقد بدأ محمد الطحان حياته “نقاشا” ثم هجر سلم النقاشة ليعتلي خشبة المسرح في دور كومبارس بفرقة رمسيس. وقابله محمد عبدالوهاب فظهر معه في فيلم “الوردة البيضاء” في دور ثانوي. واندفع في تيار الفن إلى الحب وكان اسم حبيبته “أم حامد”. وقد كانت أم حامد هذه ليست سوى رئيسة عصابة وارغمته على أن يكون هجاما فكان وانتهى طريق الحب إلى عالم الجريمة ووصل عبدالخالق محمد الطحان إلى الجنة.

ساحر الورق

يتوجه الجورنالجي إلى دكان صغير يقف فيه حلاق ثم يقولون له: هذا هو “رزة”.

ويجئ رزة ساحر الثلاث ورقات الأكبر الذي يعرف كل أسرار الورق وألاعيبه. ويتحدث عن تاريخه في بساطه: أنه دخل السجن لأول مرة من سبع وعشرين سنة ومن يومها دخل وخرج كثيرا وتنوعت أسباب دخوله كل مرة. دخل مرة لأن حي “ورشة القطن” الذي كان يسكن فيه ضج من ألاعيب رزة والذي سرق نصف أموال الحي بلعب الثلاث ورقات. ودخل السجن مرة لأنه نشل دكان صائغ ودخل مرات بسبب حبه لبار” خمسة باب”.

ويواصل رزة في الحديث عن ذكرياته عن بار خمسة باب قائلا: “أنهم يقدمون فيه نوعا لا يقاوم من الخمور ثمن الكأس نصف قرش. وبعدها يفيق نصف الزبائن فيجدون أنفسهم في الشارع والنصف الثاني يفيق فيجد نفسه في الجنة. والحلقة المفقودة بين خمسة باب وبين الجنة كما يرويها رزة هي أن يخرج من البار إلى جندي البوليس ثم إلى القاضي ثم السجان. ويسأله هيكل: أما تخاف أن تقترب من الورق إلى هذا الحد؟ فيقول هو: أبدا. ويصف هيكل رزة بالشخص المتعالي. أنه الحلاق وكل من في الإصلاحية يمر عليه ويجلسهم أمامه كأنهم قطع من الخشب وتمر يداه على رؤوسهم في سرعة لا فن فيها. ثم يأمرهم بالقيام.. ولو حاول أحدهم الحديث معه فينظر إليه رزة مستنكرا ويقول:” لم يبق لآ أنت تتحدث معي؟

الكرشاتي

الكرشاتي هو فيلسوف السجن كما يصفه هيكل في تحقيقه، وكان نشالا ولكن من نوع ليس له نظير. كان يختار المحطات المزدحمة فيقف في ركن منها ويبدأ يغني قصائد في مدح النبي وهو يحفظ منها أكثر من مائة ويتجمع حوله النساك والأتقياء والذين يدفعهم الفضول في المحطات الى استطلاع أمر مغني الذكر ومادح النبي. وبعد أغنية أو أغنيتين تنتقل محافظهم إلى جيبه. والكرشاتي يحفظ هندسة كل محطة من محطات السكة الحديد. ويعرف نوع روادها وفي أي أركانها يتجمعون. أنه يحفظ هندستها بنفس الذاكرة التي يحفظ بها الأناشيد. ولقد مضت عليه الآن سنوات طويلة في السجن تغيرت فيها هندسة معظم المحطات وأهم من هذا تغير الناس وقلائل هم الذين يقفون الآن ليسمعوا الأذكار ومديح النبي.

شاعر الجنة

وللجنة شاعر.. هكذا وصف هيكل السجين “هنري جورج” والذي كان يبادر أي زائر للسجن بقصيدة شعر وكان هنري جورج مسيحيا وأكتشف من حوله أن له أكثر من زوجة وهذه جريمة لرجل مسيحي ولم يجد مفرا من الإسلام فأسلم. ولكن قلبه لم يطاوعه فمضى في طريق الزوج وجمع بين أكثر من اربعة زوجات ويوم دخل السجن ترك وراءه 21 زوجة كل منهن كانت تظن يوما أنه زوجها وحدها. ثم بدأت الحقيقة تتكشف قليلا قليلا ولم يستطع هنري جورج أو “أحمد المهدي” كما أسمى نفسه بعد ذلك أن يقنع البوليس أن الشاعر لا يخضع لما يسري على باقي البشر من مبادئ وقوانين.

بترو اليوناني

ينتقل هيكل في نهاية جولته إلى السجين “بترو” وهو يوناني ولد في الإسكندرية وله ماض طويل جاءت عليه أيام كان يصرف في اليوم مائة جنيه وأيام كان يسرق في الليلة ألفا. ودخل بيترو السجن من سنوات ولم يخرج منه. ويقول:” ماذا نعمل بعد أن نخرج؟ خير أن نبقى هنا. أنا مثلا لو خرجت وفي يدي قوة وعافية فلن أنسى الماضي أبدا”. ويعقب هيكل على حديث بيترو قائلا:” أن ذاكرة بيترو التي لم تحفظ درس الأخلاق حفظت درس الصدق على الأقل”.

(وكان بيترو اليوناني من أشهر المساجين في مصر. وقد تحدث عنه فيما بعد الدكتور شريف حتاتة عندما حكم على شريف حتاتة في قضية الجبهة بعشر سنوات أشغال وذهب إلى السجن. يحكي أن التأديب كان به إثنين أحدهما هو بيترو اليوناني وكان يبترو قد دخل السجن في عملية محاولة اقتحام بنك. فضلا على أنه حاول الهرب عدة مرات). ويقول هيكل في تحقيقه عن سجن الرجال: “وتسمع الاعترافات تجري على الألسنة تحكي لك قصصا لم تكن تتصور وقوعها.

ثم تسمع عبارات العزم على ألا يتكرر ما حدث. ثم يسود الصمت وتسمع ولكن ماذا بعد؟ ماذا بعد الخروج؟ ربما كان أحدهم صادق التوبة فعلا. ولكنه حين يخرج من الجنة لا يجد في الدنيا من يعطيه عملا ويظل يقاوم فترة. ثم لا يجد في النهاية أمامه مفرا من أن يعمل شيئا.. أي شيء والسلام. فإن هدفه هو الرجوع إلى الجنة وكل الطرق تؤدي إليها.

اقرأ أيضا

محمد حسنين هيكل في سجن النساء

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر