من “الخرنفش” إلى “مكة”.. طريق “المحمَل” المصري لكسوة الكعبة

حتى عام 1962 كانت كسوة الكعبة تصنع في مصر، وتخرج إلى الأراضي السعودية، وسط احتفالات، وأطلق على تلك الرحلة “المحمل”.

والمحمل عبارة عن هودج فوق جمل، يتكون من بناء خشبي توضع فيه الكسوة منذ خروجها من الخرنفش، ثم إلى شارع المعز، ومنه إلى  بوابة بيت القاضي، ثم إلى المشهد الحسيني، حيث يقف هناك ليتيح للجماهير مشاهدته، ومنها إلى مكة.

258

توقف المحمل المصري 3 مرات

كان آخر “محمل” خرج من مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وعاد قبل أن يصل إلى الأراضي السعودية بسبب خلافات سياسية آنذاك، لتبدأ المملكة صناعة كسوة الكعبة في منطقة أم الجود ثم نقلت الصناعة إلى منطقة أجياد، وهناك تستمر صناعة الكسوة حتى الآن.

تقول الدكتورة سحر إبراهيم، وكيل متحف النسيج المصري، لم تكن عودة المحمل إلى مصر قبل وصوله إلى مكة هي الواقعة الأولى، لكنها كانت الأخيرة، فخلال سيطرة الدولة السعودية الأولى على طريق الحج إلى مكة، اعترض أمير دولة آل سعود على الاحتفالات المصاحبة للمحمل، لتنقطع مصر عن إرسال كسوة الكعبة حتى انتهاء الدولة السعودية الأولى وعودة السيطرة المصرية على طريق الحج.

في عام 1928 كان التوقف الثاني، بسبب خلاف بين الحكومتين المصرية والسعودية، تسبب في توقف المحمل حتى نهاية الثلاثينيات، وأما الواقعة الثالثة فكانت عام 1962.

أول من كسا الكعبة

تضيف إبراهيم أن أول من كسا الكعبة كان تُبّع بن معد يكرب، في العصر الجاهلي، وصنعت الكسوة من جلود الماشية وفرائها، ولم تكن اكتسبت شكل النسيج بعد، وهناك مزاعم أن نبي الله  إسماعيل هو أول من كسا الكعبة.

وتتابع كانت الكسوة تحت إشراف قبيلة قريش، وبعد دخول الاسلام في عهد الخلفاء، كانت تقع تحت إشراف الخليفة، في العصور الإسلامية المختلفة: الأموري والعباسي والطولوني.

في الوقت نفسه كانت مصر واحدة من أهم الولايات في الخلافة الإسلامية، وكانت واحدة من الولايات التي اهتمت بصناعة الكسوة، ومن ثم تخرج تلك الكسوة في “زفة”، من عدة بلدان منها مصر والعراق وبلاد الشام.

بين هذا وذاك كان المحمل المصري هو الأكثر تميزًا وثراءً، يدعم ذلك تميز مصر في صناعة النسيج القبطي منذ القرن الثاني الميلادي، بجانب ما اختصت به من  فنون الزخرفة والتطريز.

استمر خروج المحمل من كل البلدان المحيطة بمكة حتى عصر دولة المماليك، للتنفرد مصر بصناعة الكسوة، لأن المحمل الخارج من البلاد الأخرى كان يتعرض للسرقات من قطاع الطرق، بينما كان المماليك في مصر يسيطرون على مداخل ومخارج الطرق إلى مكة، وكانوا يخصصون مع المحمل حامية عسكرية، كما كان المحمل المصري يحمل سرة أموال، تنفق على فقراء مكة.

استأثر المماليك بشرف إرسال “المحمل” بشكل سنوي، دون غيرهم من البلدان العربية والإسلامية المجاورة، وفي عهد الناصر قلاوُن أوقفت قرى كاملة في منطقة الدلتا للصرف على كسوة الكعبة، وفي العصر العثماني زادت القرى الموقوفة إلى 10 قرى.

دار الكسوة المشرفة 

تقول إبراهيم إن منطقة الخرنفش اشتهرت بصناعة النسيج، وكان دار الكسوة المشرفة بالخرنفش هي المختصة بصناعة الكسوة، وهي حاليا مخازن لوزارة الأوقاف.

تصنيع الكسوة كان يتم في فترة زمنية تصل إلى ستة أشهر، وسط احتفال العمال أثناء صناعتها، والذي كان يتنوع بين تهليل وتكبير وتسبيح وذكر وأناشيد دينية.

أما طريقة التصنيع فكانت تتم على قماش قطيفة كحلي أو حرير أسود، والزخارف عبارة عن كتابات بخط النسخ كتبها أشهر الخطاطين أمثال الفنان محمود غزال، وشريط الإهداء وشرائط وأحزمة التثبيت.

وقد استخدم أسلوب “السيرما” في التطريز وهو نظام الحشو، فكان الخطاط يرسم الآيات على الأقمشة ويقوم العمال بتثبيت كردون على الخطوط وتلزق ثم يبدأ التطريز بالخيوط المعدنية، وهي عبارة عن فضة مطلية بماء الذهب، وكان شريط الإهداء مكتوب عليه اسم السلطان أو حاكم البلاد.

في متحف النسيج

في متحف النسيج بشارع المعز شريط إهداء الكسوة باسم الملك فاروق وثلاث أحزمة، تلف حول الكسوة لتثبيتها بجدار الكعبة، مكتوب على شريط الإهداء صنعت هذه الكسوة الشريفة في عهد المتوكل على الله فاروق الأول، وأهديت إلى المملكة العربية السعودية في عهد عبدالعزيز آل سعود وعليها تاريخ 1365 هـ، ويوجد بالقلعة بمتحف الجوهرة كسوة معروضة.

الكسوة كساء يحيط الكعبة كشكل مكعب، والأشرطة تحزم الكساء بالجدار من أعلى، على بعد أربعة أمتار ويتدلى الحزام لتثبيت القماش، والبرقع هي ستارة باب الكعبة.

لكن حاليا تصنع كسوة الكعبة كلها من الحرير الأسود، وعليها بعض الجامات بشكل هندسي، مكتوب داخلها نفس الآيات القرآنية، التي كانت تكتب على الكسوة المصرية.

زفة المحمل

بعد الانتهاء من التصنيع يُعلَم الحاكم في مصر لبدء تجهيزات الخروج بالمحمل، وخلال مرحلة التصنيع كان يصل إلى مصر القادمين من شمال أفريقيا لأداء فريضة الحج، فكانوا يخرجون مع زفة المحمل برحلاتهم في موكب مهيب، وكان الحاكم يعين أمير الحج، وهو غالبا من الشرطة، وقد يعادلها حاليًا وزير الداخلية للإشراف على حماية الموكب.

الطريق إلى “أم القرى”

هذا الموكب كانت تصحبه الدفوف والاحتفالات والأناشيد، ويسلم الحاكم أمير الحج وقواته سرة الأموال المليئة بالجنيهات الذهبية المصرية، ويعطي إشارة بدء الحركة والتوجه إلى مكة “أم القرى”.

عقب إذن الحاكم بالتوجه إلى مكة، يتوجه المحمل إلى العباسية، وهناك يبات ليلته بالجمال، ثم يتحرك تجاه القلزم بالسويس، وهناك يستقل البواخر، ويظل محفوفًا بالاحتفالات حتى يصل إلى مكة في آخر شهر ذي القعدة.

هذا الوفد كان عليه أن يسلم المحمل والسرة، ويتسلم المحمل القديم، ليعود إلى مصر، وكان يقتطع من الكسوة أجزاء توهب كهدايا للأعيان وكبار رجال الدولة للتبرك بها، وأجزاء أخرى يحافظ عليها وهي تلك الموجودة في المتاحف حاليا.

الصور الواردة في هذا الموضوع من كتاب “مرآة الحرمين” الصادر عام 1925، تأليف إبراهيم رفعت باشا، أمير الحج والمحمل المصري.

اقرأ أيضا

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر