ملف| محمود درويش في القاهرة: «هل تسمحون لي بالزواج؟»

في الطائرة التي حملت محمود درويش من موسكو إلى القاهرة عام 1971 كان يقرأ أمامه ملفا ضخما يحمل مختارات من «موسوعة الخيال الشرقي» حسب وصفه موضوعه: محمود درويش. ضم الملف المقالات التي آثارها رحيل الشاعر من بلاده. كان درويش يظن أن الأمر مجرد زوبعة، وضربا من ضروب المتعة الصحفية ستنطفئ بعد أيام قليلة. ولكن الهجوم استمر. اعتبر الكثيرون في خروجه خيانة للقضية، وقالوا إنه انتهى شعريا، وسرعان ما أصدر الحزب الشيوعي الإسرائيلي راكاح بيانا حادا يدين هذه الخطوة ويعتبرها خطوة غير صحيحة ومخالفة لواجباته. لم يجد أحدا داخل فلسطين يدافع عنه باستثناء مقالة نشرتها جريدة الاتحاد، يستنتج درويش أن كاتبها هو إميل حبيبي الذي اعتبر أن محمود درويش لم يرحل عن المعركة.

من الحصار إلى العمل

عندما وصل القاهرة قرر درويش أن يعقد مؤتمرا صحفيا (حضره وزير الإعلام وقتها محمد فايق، وقدمه يوسف إدريس) أعلن فيه درويش أنه برحيله إلى القاهرة لم يرحل عن المعركة، بل هو قادم من منطقة الحصار إلى منطقة العمل، وأنه غيّر موقعه ولم يغير موقفه، وأن الخطوة التي اتخذها جاءت ليضع حقيقة ما يعانيه أهله في فلسطين أمام الرأي العام.

وفي المؤتمر الصحفي أعلن وزير الإعلام أنه أصدر قرارا بتعيين درويش مستشارا ثقافيا لإذاعة صوت العرب… وبعد أيام انضم درويش إلى أسرة تحرير المصور التي كان يرأس تحريرها رجاء النقاش. وقد كانت المقالات الأولى له محاولة ليرد فيها على اتهامه بالخروج فكتب أول مقالاته في إبريل 1971 بعنوان «هل تسمحون لي بالزواج» يعيد نفس أفكاره التي ذكرها في المؤتمر الصحفي، ويطلب من الآخرين ألا يحولوه إلى أسطورة: «لست بطلا كما يظن البعض، لست أكثر من فرد واحد في شعب يقاوم الذبح، الأبطال الحقيقيون هم الذين يموتون لا الذين يكتبون عن الموت». وقد لقيت المقالات صدى كبيرا، لأن الإعلام المصري بدأ يتعامل مع درويش بالفعل كأسطورة… إذ لا تخلو جريدة مصرية من حوار معه في تلك الفترة، بل إن المصور نشر قصيدته «أغنية حب فلسطينية» باعتبارها أول قصيدة يكتبها شاعر المقاومة الفلسطينية بعد وصوله إلى القاهرة، وأضاف الخبر أن محمد عبدالوهاب بدأ في تلحينها لكي تغنيها نجاة في الحفل الذي سيقام لصالح المقاومة الفلسطينية، وبعد أيام قليلة نشر خبر آخر عن لقاء جمعه مع نجاة وعبدالوهاب لاتفاق على تلحين القصيدة.. ولكن يبدو أن شيئا ما حدث جعل المشروع لا يتم.

 آخر الليل

أسطورة درويش في القاهرة لم تبدأ بوصوله، وإنما قبل ذلك بسنوات، وتحديدا عندما نشرت مجلة الهلال عام 1967 ديوان «آخر الليل» والذي قدمه النقاش باعتباره الديوان المصادر للشاعر المحاصر محمود درويش، كما أن مجلة الطليعة المصرية التي كان يرأس تحريرها لطفي الخولي كانت تنتظر ما ينشره الشاعر في مجلة الجديد وكان أشهر ما نشرته له مقالته التي يعود إليها النقاد دائما «أنقذونا من هذا الحب القاسي» والذي يطالب فيه درويش النقاد بوضع الحركة الشعرية الفلسطينية موضعها الصحيح بصفتها جزءا صغيرا من حركة الشعر العربي المعاصر عامة، بدلا من الخضوع التام لدوافع العطف السياسي. وبعد عام على هذا المقال الذي أحدث ضجة عانى منها درويش حتى رحيله، نشر عنه رجاء النقاش في يوليو 1969 كتابا كاملا بعنوان: «شاعر الأرض المحتلة». يحكى النقاش في مقدمة كتابه أنه تصور في البداية أن محمود درويش هذا ليس اسما حقيقيا وإنما اسما مستعارا لمناضل عربي ثوري يعيش متخفيا في الأرض المحتلة، وخاصة أن قصائده الأولى بدت أشبه بمنشور سياسي ثوري. بعد أن قرأ النقاش الكثير من قصائد الشاعر قرر أن يكسر الستار الحديدي الذي يعيشه أدباء الأرض المحتلة، واختار درويش لأنه أول اسم عربي تسلل بشعره إلى خارج الأسوار الإسرائيلية.

غياب قسري

لم يستمر درويش في القاهرة طويلا، عامين فقط، التحق في شهوره الأخيرة بالأهرام، وكان مكتبه في الدور السادس، وفي تلك الفترة زامل درويش في المكتب نفسه الشخصيتين المتناقضتين: يوسف إدريس، ونجيب محفوظ، الأول ارتبط معه بعلاقة قوية، رغم أنه يعيش حياة فوضوية، بينما الثاني ينظر إلى ساعته قبل أن يتناول فنجان قهوته.

ولهذه الصداقات اعتبر أن القاهرة هي أهم المحطات في حياته، بل أيضا منطلقه الشعري الثاني. يحكى في واحد من حواراته: كانت الصحافة اللبنانية تهاجمني، وخصوصا مجلة الحوادث، راحوا يؤبنوننى شعريا معلنين أنني انتهيت كشاعر قبل أن أكتب. في القاهرة تمت ملامح تحول في تجربتي الشعرية، وكأن منعطفا جديدا يبدأ.

رحل درويش من القاهرة إلى بيروت، لا أحد يعرف أسباب رحيله، ولكن ظلت علاقته بالمدينة في حالة ارتباك شديد في السنوات التي تلت ذلك، كتب قصيدته التي اعتبرها البعض هجاء في المدينة: «عودة الأسير التي بدأها: والنيل ينسي، والعائدون إليك منذ الفجر لم يصلوا. ولست أقول يا مصر الوداع». وظل درويش ممنوعا بعد كامب ديفيد من دخول القاهرة، حتى عام 1984، عندما جاء لإحياء إحدى الأمسيات الشعرية بعد سبع سنوات من الغياب القسري كما وصف الجرائد المصرية زيارته. وقد سئل في إحدى الندوات التي أقيمت له وقتها: كيف نظمتك علاقتك بمصر في هذه السنوات؟، أجاب: كنت أشعر أن قوتي المادية والروحية تخرج منى ولا أعرف أين تذهب هذه القوة، كان من الصعب أن أصدق أنها مصر ذاهبة إلى المتراس المضاد، وكان صدق الراحل المصري مغيبا ببراعة إلى درجة كدنا نفقد فيها الرؤية الواضحة. وعندما نشر قصيدته الشهيرة عابرون في كلام عابر عام 1988 والتي اعتبرها إسرائيل بمثابة إعلان حرب ضدها، وتصاعدت التهديدات ضده، قرر أن يترك باريس للإقامة الدائمة في القاهرة باعتبارها أكثر العواصم الملائمة لحياته ولكن يبدو أن منظمة التحرير رفضت الأمر. وهكذا ظل درويش يأتي إلى القاهرة، مشاركا في الندوات والأمسيات، وأحيانا في زيارات قصيرة لأصدقائه.

اقرأ أيضا

كلمة محمود درويش في أول مؤتمر صحفي له بالقاهرة: ابتعد.. لأقترب

محمود درويش إلى شقيقه من السجن: أحبكم.. لكن هذا اعتراف لا لزوم له

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر