متاهة الخيال

عندما ساقتني قدماي إلى غرفة الجغرافيا المدرسية، كان باعثي الأول أن احتوي ساحات الدنيا. وقتها استغرقني شبق المعرفة فأطوف بحجرة الجغرافيا وسط نماذج الإيضاح، أتأمل خرائط الدنيا المعلقة بجدران الغرفة. خرائط صماء مرسومة بدقة، خرائط ملونة. أتعثر في لفائف الخرائط المتناثرة على الأرض، احتضن نموذج الكرة الأرضية الدائرية، التمس التفاصيل.

يساورني خيال يبعثني لأنهار ومحيطات فائضة. تملأ جسدي وروحي غابات ومروج وجبال أحلق في أرجائها. يموج بشوق يغمرني بطبيعة ناطقة تغادر الطبيعة الصامتة. تأسرني حكايات السندباد والبساط السحري. أعكف على كراسة الجغرافيا أدقق في رسم خريطة القطر المصري على أوراق شفافة حائر في تفسير خطوط الطول والعرض. وأنصت إلى دبيب روحي في الأماكن والنواحي أحاول أن أتلمس مكاني وأُعين أمكنة الأصحاب ودروب أخرى طفت بها على الخريطة.

تطوقني غواية اقتناء الأطالس لتضمها حقيبتي وتشملني لذة مطالعتها مرات ومرات. أطلس حافظ، الأطلس الابتدائي (والذي طبع بمعرفة جورج فيليب بلندن بإرشاد ومعاونه محمد عوض إبراهيم بك ومحمد فهيم بك بوزارة المعارف العمومية) وبطلب من نجيب متري (الطبعة الأولى 1926)، أطلس الجيب عن مدينة الإسكندرية (أعدته مصلحة المساحة المصرية في العام 1935) وتضم أحياء وضواحي الإسكندرية أسماء الشوارع، المستشفيات وأمكنة أخرى، خريطة مجلس بلدي الإسكندرية في العام 1929.

***

مجذوبا في صباي ويفاعتي بالرحلات المدرسية التي يصطحبنا فيها مدرس الجغرافيا لأرجاء القطر المصري. اعرف البوصلة والمزولة (الساعة الشمسية) وأطالع في التقاويم النوات والشهور القبطية وأتأمل جدتي التي تعرف مواقيت صلاة الظهر عندما تغرق الشمس ساحة الفراندة في وقت معين.

وتفر ذاكرتي لتستدعي زمن أن أصدر الخديوي إسماعيل باشا مرسوما لإنشاء الجمعية الجغرافية. حيث جعل دورها استكشاف البلدان الإفريقية المجهولة وتنظيم الجهود الكشفية فضلا عن مراسلة الرحالة وعلماء الجغرافيا والحث على القيام بالرحلات الاستكشافية. وطي ذاكرتي روادها، جورج شفاينفورت النمساوي والجنرال ستون باشا ومحمود باشا أفلكي والمسيو فوكار وجهود الكشف عن أسرار منابع نهر النيل والصحاري المصرية. وأتأمل متحف الجمعية الذي يشتمل على المحمل النبوي والتختروان، صندوق الدنيا، الآلات الموسيقية الشعبية، والحرف التقليدية.

وتخاطرني رحلة الملك فؤاد العلمية لواحة سيوة في العام 1928، رحلة أحمد حسنين باشا للصحراء الغربية، ورحلة الأمير كمال الدين حسين في الصحراء الليبية، والتي تذكرني بأطلس أسفل الأرض للأمير عمر طوسون.

وأطلس الأمير يوسف كمال لإفريقيا، والخرائط النادرة التي يرسمها جوردان وبوردني تردني إلى أطلس فاروق لواضعه محمد عبدالهادي البيومي، المدرس بالمدرسة السعيدية. حيث أشار بمنافعه التي توضح طرق الرسم لثالثة ورابعة ابتدائي. خرائط خالية من الأسماء مطبوعة بحبر فاتح ليحبرها الطالب ويملاها بالمعلومات بناء على الشرح أو قراءة الكتاب فضلا عن سلسلة الخرائط التعليمية الصامتة.

خريطة قديمة لإفريقيا
خريطة قديمة لإفريقيا
***

يحضرني محمود باشا الفلكي الذي وضع خريطة مفصلة للقطر المصري، خريطة الوجه البحري، خريطة الوجه القبلي، خريطة الإسكندرية. حيث خطط معالم الإسكندرية القديمة ونقب في حفائرها. ويعد أول عالم في العصر الحديث كشف عن آثار الإسكندرية القديمة وموقع سورها القديم ورسالته باللغة الفرنسية عن الإسكندرية عام 1866.

حيث تضمنت اكتشافاته وما قام به من الحفر والتنقيب، شوارعها وأسوارها الأفنية، المسارح المتاحف، ومكتبتها الشهيرة قصورها وضواحيها. فضلا عن ذلك أتاح محمود باشا الفلكي للباحثين الاطلاع على كتبه الثمينة وخرائطه وأدواته الفلكية ومرصده الصغير والذي أقامه فوق سطح بيته في عابدين.

وأطالع طويلا مذكرة محمد رمزي بك المفتش بوزارة المالية، والتي تقدم بها لحضرة صاحب المعالي وزير الأشغال العمومية. وتبين الأغلاط التي وقعت من مصلحة التنظيم في تسمية الشوارع والطرق بمدينة القاهرة وضواحيها. حيث نبه إلى تسمية الشوارع بأسماء الأماكن الأثرية، وأسماء مشاهير الرجال الذين لهم شأن في التاريخ. وذلك مرجعه الجهل بطبوغرافية المدينة، وخططها القديمة.

***

أغلاط من قبل حضرة مصطفى أفندي منير أدهم، سكرتير مصلحة التنظيم، حيث قام على تصحيحها صاحب العزة المهندس العالم أحمد عمر بك (مدير عام مصلحة التنظيم) والذي شكل لجنة تضم بعض الأخصائيين بتاريخ القاهرة وطبوغرافيتها والواقفين على خططها ومواقع الأماكن الأثرية بها وذلك لتسمية الشوارع والطرق بمدينه القاهرة وضواحيها.

ولأن الجغرافيا مثلت نهر حياة الناس والأشياء والكائنات. لذا فإنها نسجت وشائج وثائقية بين جذور تاريخها بوقائعه وإرهاصاته دوما. ولم تعرف إمكانية نشوء فجوة بين الزمان والمكان وحينما أتأمل منطق سترابون اليوناني (إن الجغرافيا أوفر الناس حكمة، وأنهم كلهم فلاسفة). أجتر العجائب والغرائب التي دونتها أدبيات الجغرافيا. المسعودي في (مروج الذهب ومعادن الجوهر)، والإدريسي في (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق).

رحلات ابن بطوطة، ورحلات ابن جبير، ابن ماجد الملاح العربي مساعد فاسكودي جاما البرتغالي في تسيير أسطوله من ساحل إفريقيا الشرقية إلى الهند. وأن إنشاء الرصد خانة (المرصد) كان ببولاق في العام 1846 لتصوير الإجرام السماوية والسدم والمذنبات. وأطالع رحلة البكباشي سليم أفندي في أعوام 1839، 1840، 1814في محاولته لاكتشاف منابع النيل. ولكن عديد من العقبات حالت دون ذلك الجنادل الشلالات وهبوط مياه النيل.

***

وددت كل تلك المطالعات نحو معرفة للمسالك والممالك البراري والصحاري، ولأشهد طرافة الجغرافيا في ذكرها لحظوظ الناس، وارتباطها بالأفلاك وحركتها. وأن التنجيم لحساب المواليد وتحديد مواقيت السعادة.

والآن آمل في خريطة أحطم حدودها لتظل سبيل العابر دائما. خريطة تتسع لليابس والبحار والأنهار بعد أن ضاقت بكل الكائنات.

اقرأ أيضا:

رسالة إلى العميد في ذكراه

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر