الفنان رخا يحكى عن ذكرياته: رمضان في السجن

في عام 1933 كان الفنان رخا يعمل في مجلة “المشهور” لصاحبها عمر عزمي، والتي كان يدعمها الأمير عباس حليم. وفي أحد الأيام أضرب عمال شركة الأتوبيس بسبب سوء معاملة الشركة فضربهم رجال البوليس وقبضوا عليهم، فرسم رخا على غلاف مجلة المشهور صورة كاريكاتورية للمدير الأجنبي يضرب عاملا بخنجر في ظهره وقد سال دمه، ورسم رئيس الوزراء في ملابس عسكري بوليس يجري نحو العامل المصاب، ويقول له: وكمان وسخت بدلة الخواجة بدمك الزفر؟

وأمرت النيابة بالقبض على رخا وقبل أن يذهب إلى النيابة رسم عدة رسومات كاريكاتورية وسلمها لصاحب مجلة المشهور حتى لا تتعطل المجلة في حال اعتقاله، وتم حبس رخا ثلاث أيام، وفي اليوم الرابع قال له رئيس النيابة: أقسم لك يا رخا أنني سأفرج عنك خلال يومين. وفي اليوم الخامس جاءه السجان وقال له: عاوزينك، وحمد الله أنه سيخرج من سجنه واستوقفه نائب مأمور السجن “محمود طلعت”، الذي أصبح محافظ دمياط فيما بعد وسأله عن سبب سعادته، فأجابه رخا: مبسوط لأنني سيفرج عني، فدهش طلعت وقال: إفراج إيه ده أنت وقعت في مصيبة وأخرج من درج مكتبه العدد الجديد من مجلة المشهور وٍسأله: أنت رسمت الصورة دي؟

رخا
رخا

أجابه رخا: طبعا دي صورتي. ما فيهاش حاجة دي صورة محرر يحمل أوراقا.

فسأله محمود طلعت: هل قرأت الكتابة المكتوبة على الورق؟

ودقق رخا في الصورة فإذا حروفا صغيرة أسفل الصورة تسب الملك فؤاد بكلام غير لائق.

ولم يكن الخط هو خط رخا ولم يستطع إثبات براءته. وقال كلمته المشهورة “العدالة لم تكن في صفي فقد كانت العدالة مشغولة بما هو أهم من الرسام رخا”. وحكمت المحكمة على محمد عبدالمنعم رخا بأربع سنوات ولم يصدق أذنه وتصور أنه يحلم فلم يتصور أن تسمح السماء بسجن شاب برئ أربع سنوات في جريمة لم يرتكبها. وظل رخا في السجن ولم يخرج منه إلا في نهاية عام 1936. ومن المفارقات أن رخا سجن مع الكاتب الكبير عباس محمود العقاد الذي كان قد هاجم الملك فؤاد علانية ولم يسجن العقاد سوى تسعة أشهر، بينما رخا الذي لم يفعل أو يكتب شيئا حكم عليه بأربع سنوات. وكذلك رأى رخا في السجن الصحفي الكبير توفيق دياب صاحب التاريخ النضالي الكبير وصاحب جريدة الجهاد وكتب عنه مواقف طريفة في ذكرياته عن السجن.

**

في عام 1943  كتب رخا في مجلة روزاليوسف متذكرا سنوات سجنه وبالتحديد في شهر رمضان، وكيف يكون السجن في رمضان وكيف يستقبله المساجين. فقد حضر رمضان أربع مرات في السجن وعاصر المواقف الطريفة التي تحدث وعلى رغم كل ما كتب ونشر عن رخا فإن ذكرياته عن السجن التي نشرها عام 1943 تبدو حتى الآن مجهولة فلم يتحدث عنها أحد ولم يعاد نشرها.

رمضان في السجن
رمضان في السجن
رمضان في السجن

“يستقبل المسجونون شهر رمضان بموجة من الفرح والترحاب لا تقل بحال عما يستقبله به الأحرار فهو في نظر أولئك المساكين (أولا) شهر الصيام (ثانيا) الشهر الذي تخف فيه نوعا حدة السجانين الذين يعتبرونه شهرا فضيلا كريما يتسامحون فيه مع المساجين. وثالثا وهو الأهم أنه غالبا ما يكون الشهر الأخير في السجن بالنسبة لمعظم المسجونين الذين قضوا ثلاثة أرباع مدتهم وينتظرون الإفراج عنهم بانتهائه بمناسبة عيد الفطر.

وأول بشائر رمضان في عالم السجن أن يمر جاويش على مسجونيه في غرفهم ليثبت في كشف لديه أسماء الصائمين والمفطرين، وذلك لوضع نظام تموين مسجونيه خلال أيام رمضان ويكون هذا في اليوم الأخير من شعبان وتخصمه من جرايتهم. ويندر أن تجد مفطرا في عالم السجون أن لم يكن من خشية الله فمن خشية اضطهاد مطابخ السجن العامرة. فإن وجبة الغذاء التي تقدمها إدارة السجن للمفطرين تكون عادة ضئيلة الكمية هزيلة اللحم لدرجة تغري بالصيام.

وفي خلال إقامتي السعيدة في ضيافة حيدر باشا شهدت رمضان أربع مرات وخلال هذه المرات الأربع لم أشهد واحدا من أخواتنا الأقباط إلا صائما مجاملة لإخوانه المسلمين. وإذا كان الناس يجمعون في رمضان على التأنق في وجبات الطعام فالمسجونون أيضا ليسوا أقل منهم في هذا الحال، فالموسرون القادرون الذين يملكون الزراير جمع “زرار” وهو القطعة ذات القرشين في اصطلاح المساجين يشترون ما يشتهون من كنافة وقطايف ودجاج محمر وغير محمر وما إليها مما لذ وطاب وطلب الأكال. ولا تبيعهم إدارة السجن هذه الأشياء فهي من الممنوعات، وإنما هم يشترونها من السوق السوداء. أي من إخوانهم المسجونين تحت التحقيق الذين يأكلون من منازلهم ولهذا العملية سماسرة يملئون بطونهم ويثرون من عقد مثل هذه الصفقات.

وهؤلاء السماسرة هم غالبا من النوبتجية وهم المسجونون المعينون لنظافة السجن، فلكل دور في السجن نوبتجية وجميع نوبتجية الأدوار يلتقون إما في مكان النظافة حيث يذهبون لتنظيف الجرادل التي يستعملها المسجونين. وإما في المخبز أو المطبخ لإحضار العدس أو الفول أو الخضار باللحم أو لإحضار الخبز.

**

وفي كل مكان من هذه الأماكن تعقد الصفقات، فنوبتجية دور 5 وهو الذي يقيم فيه الآكلون من منازلهم ونوبتجية دور 9 و10 وهو الذي يقيم فيه المرضى من المساجين الذين يمنحون أغذية خاصة كاللحم بكميات كبيرة والدجاج والبيض والسكر، أحيانا يلتقي هؤلاء النوبتجية بنوبتجية الأدوار الأخرى التي يقيم فيها حملة الزراير. وهناك تستبدل تلك الأنواع من الأطعمة لحساب هواة الأطعمة الشهية.

أما الفقراء الذين لا يملكون زراير فلا يعدمون أن يتفننوا في استخراج ألوان قيمة مما تصرفه لهم إدارة السجن من فول وعدس وخضار ولحم ويتناولون اللحم بالخضار ثلاث وجبات في الأسبوع. وبهذا تكون السجون المصرية عرفت نظام تحديد بيع اللحوم قبل الحرب بزمان طويل.

يأوي المسجون إلى غرفته بعد العمل حوالي الساعة الخامسة فيتناول ثلاث أرغفة وقروانة من العدس وأخرى من الفول يوميا، ويستبدل الفول باللحم والخضار يوما آخر. ويعد كل مسجون فراشه الوثير المكون من برش من الليف وبطانية مثيرة الشبه بالغربال أو بشبكة الصياد. ثم يبدأ في إعداد طعامه انتظارا لمدفع الإفطار. وفي أغلب الأحوال يشترك مسجونان أو أكثر في مائدة واحدة وهذا يعينهم على عمل ألوان أكثر من الأطعمة ففي يوم الفول والعدس تكون قائمة الطعام كالآتي:

فول بورية

فول مقشر بالكرات أو الفجل

فتة بماء الفول ودقة النعناع

فتة عدس

شوربة عدس

وفي يوم اللحم والعدس تكون قائمة الطعام كالآتي:

شوربة خضار

فتة عدس باللحم

خضار باللحم

لحم بدقة النعناع

ويكثر الخبز المقمر في رمضان إلى حد أنه يندر أن تجد سجينا يأكل خبزا غيره وهو يدفع عادة رغيفا لتقمير كل عشرة أرغفة في ورشة البخار أو ورشة السمكرية أو ورشة النجارين، والسعيد الحظ هو الذي يستطيع أن تكون على مائدته فرخة لا محمرة ولا مسلوقة بل جافة. فالفرخة في قاموس السجن هي البصلة والبصل يشتري من السوق السوداء عن طريق نوبتجية المطبخ أو المخازن بسعر يتراوح من نصف سيجارة أو سيجارة لكل ثلاث أو خمس بصلات استغفر الله بل فرخات!

**

وإذا علمت أن السيجارة سعرها في المتوسط “زرار” سهل عليك أن تعرف كم مبلغ سعر رطل من البصل في السجن وهو على أي حال أرخص قليلا مما وصل إليه الأيام الأخيرة في سوق الخضار! قد يلذ للقارئ أني يعرف شيئا عن تسعيرة الممنوعات في عالم السجن. فها أنا أقدم لكم التسعيرة التي كانت سارية وقت أن حللت ضيفا على قرة ميدان مع الاعتراف بجهلي التام بما وصل جشع التجار هناك.

الآن فهم ولاشك قد أصابتهم العدوى من التجار الجشعين الذين تتعامل معهم في عالم الدنيا.

وقبل أن أقدم لكم هذه التسعيرة يحسن أن أقول لكم أن العملة المفضلة عند من يبيعون الأمل هي السيجارة لا الزرار. فالأكول النهم يحب أولا أن يستبدل ما يملك من الزراير بسجاير يشتري بها الأكل من المسجونين تحت التحقيق الذين تتوافر لديهم أنواع الأطعمة وينقصهم دائما السجاير. ومن هنا كانوا يفضلون التعامل على أساس التبادل التجاري على البيع نقدا

وهذه هي التسعيرة:

قطعة من الحلاوة: نصف سيجارة

قطعة من الجبنة: شرحه

قطعة من اللحم: سيجارة

قطعة من الكنافة: شرحه

كمية من الأرز أو المكرونة: شرحه

وهناك ألوان فاخرة كالدجاح والحمام إلخ إلخ

وهذه لا تخضع لتسعيرة معينة بل تخضع لقانون العرض والطلب. فإذا كانت موجودة بكثرة هبط سعرها وإذا قلت ارتفع ارتفاعا فاحشا.. وهذا يسري نسبيا على ما سبق ذكره في قائمة الأسعار الجبرية والمسجونون يعدون العدة لسهرات رمضان تماما كما نفعل نحن الأحرار.

**

قبل رمضان بأسابيع يبدأ التنافس بين الغرف على ضم أحسن فقيه من المسجونين، تماما كما تفعل البيوتات مع الشيخ رفعت والشيخ على محمود. فهذه الغرفة تغريه بالسجاير والأخرى تغريه بالأطعمة الشهية فلا يبدأ رمضان إلا وقد احتوت كل غرفة من غرف السجن مقرئا محترما أو غير محترم على قد الحال.. ويتسامح بعض السجانين كثيرا فيتركون أصوات هؤلاء المقرئين تلعلع ويعتبر البعض الآخر هذه الأصوات “غاغة” ممنوعة في السجن فيسكتونهم بالحسنى وبغير الحسنى أي بالسب والجزاءات.

وكانت غرفتنا تضم مقرئا هو بلا شك أول مقرئ السجن وكان له صوتا يعتبر من أجمل الأصوات التي عرفها عنبر “ب”، وكان صوته محبوبا من سكان العنبر جميعهم إلا من الأستاذ توفيق دياب، الذي كان حينذاك يقضي أسابيعه الأخيرة من مدة سجنه.. فلا يكاد صوت الشيخ سيد عراقي (مقرئنا المفضل) ينطلق حتى ينطلق في إثره صوت الأستاذ دياب: صدق الله العظيم يا أستاذ.. كفاية بقى!!

ويستمر المقرئ في القراءة، فيستمر الأستاذ دياب: صدق الله العظيم يا ابن الــ…. ولا يجد المسكين بدا من أن يسكت ..

وهكذا كنا نقضي رمضان في سجن مصر العمومي رحم الله أيامه.

رخا

اقرأ أيضا

منيرة ثابت ضد إنجي أفلاطون: وقائع معركة منسية دفاعا عن حقوق المرأة

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر