كتاب جديد| رحلة عمرها “ثلاثون عامًا في صحبة نجيب محفوظ

كان حينها ابن التاسعة عشر عامًا، حين التقى للمرة الأولى بالأستاذ نجيب محفوظ، ولم يكن يعلم أن هذا اللقاء سيمتد بينها حتى يصل إلى سن الـ49 عامًا، في علاقة فكرية ووجدانية كانت في حاجة للتسجل، وهو ما فعله الدكتور محمود الشنواني، التلميذ النجيب للأديب العالمي، في كتاب “ثلاثون عاما في صحبة نجيب محفوظ”.

وقد نقل الشنواني، هذه التجربة، التي تحول فيها “محفوظ” بالنسبة له من الأديب العظيم إلى الأب والقدوة والإنسان، في هذا الكتاب الذي صدر الشهر الماضي بعنوان “ثلاثون عامًا في صحبة نجيب محفوظ”، ليسرد لنا أهم المحطات والشخصيات التي عاصرت الأديب وكان لها موقفا أو آخر معه.

وفي كتابه نلمح الأديب نجيب محفوظ يقف على الرصيف، ويلتقيه محمود الشنواني صدفة، والذي تعجب أن يصادف الأديب وجهًا لوجه، وشعر بسعادة غامرة حين صافحه بود، معرفًا عن نفسه بأنه محمود الشنواني، طالب في السنه الأولى بكلية الطب، ليقترح عليه الكاتب العالمي “لو تحب تقعد معانا، تعالى معانا في ريش”، لتكون هذه هي البداية لصحبة عمرها 30 عامًا.

الصورة من الصفحة الشخصية لدكتور محمود الشنواني

يبدأ الكاتب في سرد المواقف التي جمعتهما عبر هذه السنوات، موضحًا أن علاقته بالأديب قبل اللقاء الأول جاءت في سن متأخرة، حيث بدأ في قراءة أعمال الأديب وعمره 18عاما، وذلك من خلال رؤية “ميرامار” التي تعرف من خلالها على معنى الأدب.

وصل الكاتب إلى مقهى “ريش”، والتى كانت مقر ندوات الأستاذ أسبوعيًا، ليلتقي رجلاً في الخمسين من عمره يطلب منه الجلوس بجواره لمتابعة ندوة نجيب محفوظ، وهذا الرجل هو مصطفى أبو النصر، أكثر أعضاء الندوة انتظامًا في الحضور، والتي كانت تضم عددًا من رواد الأدب، يعرفهم الكاتب في فقرات خاصة بندوات مقهى “ريش”.

مصطفى أبو النصر

عمل أبو النصر في الرقابة على المصنفات الفنية، وهو مثقف كبير، ودائمًا ما يتذكر رواد الندوة، ملقيا معلوماته الثرية وتعليقاته عند الحديث عن أديب أو عمل فني أو ظاهرة ثقافية، وهو من أكثر الحضور مشاركة في الندوات والمناقشات، وكان صاحب المقعد إلى يسار الأستاذ في “ريش”، وهو أديب له عددًا من المجموعات القصصية، منها “قلب الوردة والتيه والركض في مكان مغلق”.

وكان هناك محبة كبيرة بينه وبين الأستاذ، ودليل ذلك إصرار الأخير على الذهاب لجنازة أبو النصر، رغم وهن صحته وعدم الرضا الأمني عن تواجده بمكان عام في هذه الفترة، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي يشارك فيها نجيب محفوظ في جنازة.

هارفي أسعد

ومن أقدم رواد الندوة، وأكبرهم سنًا بعد الأستاذ، هارفي أسعد، وهو ماركسي قديم، وكان هناك نوعًا من المودة بينه وبين الأديب، خاصة وأنه بعد مرور 40 عامًا من الصداقة بينهما.

يحكي “هارفي” للكاتب أنه كان يجلس خلف الأستاذ نجيب في كازينو أوبرا، وقت صدور رواية “أولاد حارتنا”، خوفًا أن يأتي أحد يؤذيه من الخلف، وقد أكد ذلك الأديب فيما بعد وهو يترحم على صديقه القديم.

علي سالم

وكان من رواد الندوة أيضا، علي سالم، رجل المسرح والآراء المثيرة للجدل، وكان متوسط التردد على الندوة، وكان يمسك بناصية الحديث ويحتل المسرح ليصبح الحضور جمهورًا، ويتحدث عن حكايات المسرح والفن والصحافة والسياسة، فحضوره كان جذابًا لمعظم الحاضرين.

الشاعر أمل دنقل

أما الشاعر أمل دنقل فقد حضر مرتين ندوات نجيب محفوظ، وخلالها كان يجلس في صمت وبملامح محايدة، بصورة هي النقيض مما سمع عن طبعه الشخصي في التعامل الحاد، والظاهر في سمات شعره العظيم الذي يعلن التحدي والتمرد.

في “ريش” بدأت رحلة الشاعر مع نجيب محفوظ، من خلال حضور الندوة التي تعقد أسبوعيًا، واستمرت الندوات بها إلى أن صدر قرار بأن المقهى سيغلق أبوابه يوم الجمعة من كل أسبوع، فأصبح مطلوب إيجاد مكان بديل يناسب عقد الندوة الأسبوعية.

كازينو قصر النيل

وهكذا انتقلت ندوات الأديب نجيب محفوظ إلى الكازينو، ولم تبتعد كثيرًا عن وسط البلد، ومع الانتقال توقف عن الحضور بعض روادها من مقهى “ريش”، ولكن دماء الندوة تجددت بالوافدين الجدد إليها، الأصدقاء الذين انضموا إليها في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات، كسميح بطرس وسامي البحيري ومحمد الكفراوي وزكي سالم ونعيم صبري وفتحي هاشم.

الصورة من الصفحة الشخصية لدكتور محمود الشنواني

قد تكون أوجه الاختلاف بين رواد ندوتي ريش وقصر النيل، أن “ريش” كانت غالبيتهم من الأدباء، ومن يعتبرون الأدب اهتمامًا أساسيًا، أما رواد قصر النيل منهم بالقطع مهتمين بالأدب وتجذبهم للحضور مكانة الأديب المرموقة، لكن درجة انتمائهم للأدب كانت أقل، بالإضافة إلى أن رواد “ريش” كان يغلب عليهم الانتماء للتيار السياسي اليساري، وكان هذا الانتماء أيديولوجيًا قويًا عند الكثير منهم، أما قصر النيل فكانت انتماءاتهم أكثر اتساعًا.

في قصر النيل بدت مشاركة “الشنواني” أكثر إيجابية في الندوة، فمع مرور الوقت وانتظامه في الحضور، اكتسب بين الحاضرين طابع ودي وبدأت مساحة المشاركة تزيد، لتصيح العلاقة بينه وبين الأستاذ أكثر خصوصية، وهو ما ظهر واضحًا من إهداءات نجيب التي يحتفظ بها على رواية “مع تقديري، مع مودتي، مع محبتي، مع حبي”.

عن الأستاذ

تطرق الشنواني في كتابه إلى عدد من الصفات التى تميز بها الأديب نجيب محفوظ وكان الكاتب هو شاهد عيان عليها ومنها

يحلو لأصدقاء الأستاذ أن يعتبر كل منهم أن يكون له مكانة خاصة عند الأستاذ، وبالفعل هو من هؤلاء الناس القادرين على إضفاء هذا الشعور على علاقاتهم بالآخرين

الأستاذ قادر على إيجاد نقطة التقاء إيجابية مع كل من يتعامل معهم، وفهم المفاتيح الشخصية لمن حوله بحيث يعطي لمسة شخصية لعلاقته مع كل شخص

في الندوات كان الأستاذ لا يمارس ولا يسعي إلى أي نوع من الانفراد بمكانة خاصة فهو يتبادل الحديث مع الأخرين  والاخرون يتحدثون معه أحيانا ومع يعض أحيان أخري، فقد تمر مرات عديدة دون أن يتطرق أحد لعمل من أعماله الأديبة، فهو لقاء اختياري بين أصدقاء على المقهي تمتد فيه حبال الكلام حسب الأحوال

اتخذ الشاب نجيب محفوظ ابن الخامسة والعشرين عامًا وقتها قرارا حياته ورسالته وهو الأدب، وأعتنق تلك الرسالة وأصبحت هي محور حياته وكل ما عدا ذلك ينظر إليه من زواية علاقتة بتلك الرسالة كالوظيفة أو المال أو الزواج أو الصداقة  أو العلاقات الاجتماعية

لا يهتم نجيب محفوظ كثير بمكاسبه المباشر في عالم الأدب ولا تدركه الخيلاء لجنحاته فيها فهو يسعى وينتج والثمرة الحقيقة التي يشتهيها ويفرح بها هي السعي

في الفترات الأخيرة له لا يصعب على من رأي نجيب محفوظ أن يري فيه الملامح الخارجية والداخلية التي تتواري لوجداننا عندما تقال كلمة الرواة، فهو شيخ جليل كبير السن به هدوء وزين كلماته التي يطلقها بيسر ودون افتعال ويتكلل حضوره بإشعاعات الحكمة، تحبه وتتجله وتطمئن روحك بالقرب منه.

كان نجيب محفوظ يعيش الحياة ويستمتع بها ويقترب من الناس ويصادقهم ويجالسهم و لكن كانت هناك بينه ويبن كل هذا مسافة حرص على وجودها، مسافة تتيح له التفكير دون أن يتشوش بالتواجد وسط الحلبة.

الصورة مشاع إبداعي

حريصًا على عدم الدخول في صراعات قوية يمكن أن تعطله عن عمله الدؤوب من ناحية، ومن أن تجعله أحد أشخاص  الرواية وليس راويها

قادنا الأستاذ إلى أعماق التاريخ ونشأة الأنسان الأولي بحيث أصبحت رواياته  كأنها رواية تاريخ البشر على الأرض يرويها أحيانا استعرضًا لمسيرتها.

صحب سعد زغلول الأستاذ في حياته كأنه المثل الذي يقاس عليه قدر الساسة الأخرين وصحبه في أفكاره وخياله وظهر في أحلامه.

مصطفي النحاس فهو أيضًا الزعيم عند الأستاذ لأنه الزعيم الواقعي السياسي المحتنك الذي  قاد سفينة الوفد وأخلص لمبادئه

أما كلثوم عنده هي الدرة الفريدة في عالم الغناء وأهل المغني ويصل إلى قمة النشوة إذا سمع أم كلثوم.

عندما تأتي سيرة أم كلثوم يستعذب الأستاذ، فمثلا استعادة ذكري عيد ميلاده الخميسين فيقول بامتنان: “هيكل عزمها وهى جت أول وأخر مرة أقابلها مقابلة شخصية. وكان لقائها أهم الهديا التي نالها

حب الموت

“بنيت حياتى على الحب، حب الحياة وحب الناس وحب العمل وأخيرًا حب الموت” عبارة مؤثرة صادقة للأديب  دائمًا ما يرددها وكأنها العمود القفري لرؤيته ومسيرته في الحياة ليسال أحدهم في أحد الندوات الأديب متعجبًا ما حب الموت

وكان رده: حب الموت عندما يأتي في موعده

ماهو موعد الموت

ليجيب الأديب: هذا الموعد الذي يأتي مبكرًا عما يتمناه الإنسان عندما يظن أن علاقته بالحياة  ومازال فيها ما لم يكتمل بعد والذى يأتي متأخرًا بعد أن تكون محبته للحياة قد تجاوزت ذروتها وبدأت يداه تتعب من التلويح لها مودعًا

ليودعنا الأديب بهذا الكلمات في  صباح الأربعاء 30 أغسطس  ليصف الشنوانى وقع الخبر عليه: لم أجد أمام عينى سوداً ولا كأبة بل ألم الراق النبيل الذي يذكر الإنسان بمشاهد صحبة جميلة دافئة محبة.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر