قصة| لقاء.. أحمد الفخراني

للمخبوزات رائحة ملائكية، كوجه الفتاة التي بجواري. لم يكن هناك سوانا في الكافيه الذي كتب على واجهته الزجاجية “وما أطال النوم عمرا ولا قصر في الأعمار طول السهر.. مقهى ومخبوزات 24 ساعة”.

أطلقت نظرات مختلسة. كانت فتاة حلوة، بدت ساذجة قليلا، لكنها حلوة. سمراء، ضئيلة الحجم، شعرها أسود غزير، أنفها دقيق، لها مؤخرة مسطحة ونهدان ينبتان بشق الأنفس، ملابسها أنيقة، حذائها رخيص.

لم تشعر الفتاة بوجودي. شاردة لا تنتظر أحدا، خمنت أنها احتمت بالمقهى، هربا من المطر والصقيع. تشي عيناها الزائغتان أنها لا تفكر في شيء محدد. بدت منهكة، كأن كل ما تنتظره هو أن تلقي جسدها فوق أول فراش لا يحفه الغدر. خمنت أنها تتعجل الرحيل لولا زلزلة الماء خارج المقهى. فهي لم تطلب شيئا سوى زجاجة مياه.

كان غناء أم كلثوم ينساب بصوت راسخ في المحبة، ولما لم أكن راسخا في شيء، فقد هزني الصوت بعمق. فركت يدي، أشعلت سيجارة. أعقبتها برشفة من فنجان القهوة. طلبت المزيد من المخبوزات. كانت شهية. تعجبت من قلة رواد هذا المكان البديع، الذي لا يعمل به سوى صاحبه.

سألني:

“هل ترغب في شيء آخر؟”

“زجاجة مياه”

تلك هي الثالثة في أقل من نصف ساعة. لابد أنه كتم اندهاشه من عطشي في طقس كهذا.

شيء ما بخصوص تلك الفتاة يثير اهتمامي وغضبي، بدا لي أن فرجها جاف كحلقي. تلاقت أعيننا مرة، لكنها أشاحتهما في فزع، أربكني هذا. بمقاييس النساء، أنا رجل وسيم، يفوح من جسدي الجاذبية والعطر. وأعد عمليا من المشاهير. عللت الأمر بالارهاق الذي أصابني من قلة النوم.

أحضر صاحب المقهى قطعة كرواسون بالزعتر وزجاجة مياه، ومعها نسخة لطبعة فاخرة من روايتي الأخيرة، لأوقعها له، قدمها لي بشيء من الخجل. كان رجلا عجوزا، قصير القامة، بقدم تعرج له شعر أشيب وحواجب ثقيلة وعينين ضيقتين وأسنان أكلها سوس الزمن ومحبة الحلوى، ووجه متغضن كخريطة كنز بالية، كان قبحه بديعا، وموسيقاه تشبه رحى الطحين.

سألته متوقعا الإجابة:

“هل أعجبتك؟”

“قضيت أمتع أوقات حياتي أثناء قرائتها، لقد بكيت عندما انتهت، فليبارك الله موهبتك الفذة، أسأله الرحمة حتى يصدر عملك القادم”

“هل تظنه مهتما؟”

قال بارتباك: “من؟”

لم أجبه، وقعت نسخته. التصفيق ينتشر كعدوى والآلة تعمل جيدا والتروس تطحن الجميع بكفاءة، فعبارة الإعجاب التي أبداها صاحب المقهى، مسروقة، لكنها صارت تتردد في عقله، حتى ظن أنها عبارته الأصيلة وقناعته التي لم تختلط بنقيق الضفادع.

لم تلتفت الفتاة ولو مرة، ألا تقرأ الأدب؟ شهرتي تخطت الدوائر الضيقة، لابد أنها ميزت وجهي.

سألت صاحب المقهى:

“أجي هنا في أوقات مختلفة من اليوم، يدهشني أن مخبوزاتك طازجة على الدوام”.

أشار إلى صدره بفخر:

“لأن روحي كذلك”

تحركت الدودة النهمة في جوفي. يظن الرجل العجوز أن إشارته محض مجاز، راقبته وهو يعود إلى مكانه فرحا كطفل بالاهداء الذي كررته لآلاف مثله، دون أن يعنوا لي شيئا.

على عكس وجهها الملائكي، كان للفتاة رائحة كراميل تعصره العفونة، بلا أمل في النجاة، موسيقاها محجوبة بشيء رهيب.

انتهت أغنية” عودت عيني” لتبدأ المقدمة الموسيقية لرق الحبيب.

وجدتها فرصة لفتح حديث معها، المباغتة ورقة رابحة، قلت:

“ثمة شيء آسر في رق الحبيب، تبدو للوهلة الأولى مشيدة من الضعف والنقصان، لكنها الكمال عينه”.

لم تكن عبارتي، سرقتها من روائي آخر.

تشبثت عيناها بجسد صاحب المقهى، كأنها تستنجد به من الطاعون.

قالت باقتضاب:

“لا أحب أم كلثوم”

كان ذلك كافيا لأنهي المحاولة، لكني استدرت بجسدي حتى أصبحت في مواجهتها، تابعت حديثي:

“ستحبينها إذا أدركتِ سرها”

لها رأس صغيرة مستديرة فوق رقبة عصفور، تتلفت حولها بالكيفية ذاتها، تشعر أن بإمكانك – بقليل من رباطة الجأش- أن تنزعها بيديك.

أخرجت سيجارة من حقيبتها، أشعلتها، أخذت نفسا عميقا منها، نفثته إلى اللاشيء، رشقت عيناها بعيني كسكين، باغتتني جرأتها:

“أيستفزك أني لم أسع للفت انتباه محمد الأعور الروائي الشهير؟ اطمئن، لقد قرأت كل حرف كتبته”

“ما أكثر رواية حظت باعجابك؟”

“ولا واحدة.. كتابة جديرة بلص تافه، مسخ من أرواح الآخرين”

سعل العجوز اللئيم، ولم أدرك إن كان يكتم حرجه أو ضحكاته، أو أنه قد اكتشف لتوه زيف رأيه السابق.

انصرفت مسرعة، دون أن تنتظر توقف المطر. اقتربت من صاحب المقهى، قائلا:

“اعتذر لك عما سيحدث، أشعر بالمودة والامتنان تجاهك.. قاومت شهوتي بعنف، لكن الغضب يجعلني ضعيفا، كما أني لم أنم منذ أربعة أيام”.

أطبقت بيدي القوتين على رقبته، شققت حنجرته. انتظرت حتى فرت من روحه الأفاعي، الظلال، جوقات الشياطين، طيور الفزع. انطفئت كلها كشهب.

رأيت الفتاة خلفي، نست حقيبتها. ظننت أن الرعب سيأكلها، كدت أن أنقض عليها دفنا لسري، لكنها لم ترتبك لثانية. تقدمت نحوي. انحنت بجواري أمام جثة الرجل. دفست يدها في حنجرته، حتى وجدت علقة بيضاء، سر روحه: الطزاجة. انتزعتها بيديها. دون أن تتردد. فانطلقت من حنجرته الموسيقى والأضواء وظباء ملونة بحجم الكف.

أشرقت داخلي ابتسامة واهنة، هي مثلي، كانت تشتهي الطزاجة في روح العجوز.

مدت لي يدها بالعلقة البيضاء، تقاسمناها مع بعض الظباء الملونة كمقبلات، طحنا طزاجته بأسناننا. مصصنا عصارتها، كدفقة نور، كلمح البصر، كدفقة ماء، كقذف اللذة، ككل سراب ظنناه حقيقة، وككل فكرة بائسة امتلكت روحينا واعتقدنا فيها خلاصنا، ثم لا شيء، تفتت السر كدخان في الهواء، دون أن يصمد في جوفينا.

عندما انتهينا، كانت يدي مدماة بخيوط النور، نظرت إلى الفتاة. الندم ينهش وجهها، رائحة العفونة تلفها كشرنقة.

سألتها:

“ما اسمك؟”

لكنها فرت مسرعة إلى الخارج. هرولت ورائها، رأيتها تختفي في أحد الأزقة فتبعتها. لكن سرعان ما اختفى أثرها.

الغيوم كانت ترتجف وهي تلقي حمولتها الأخيرة، وقمر من قش يتبعني أينما حللت، ينظر لي في تشف وسخرية. توقفت عن الهرولة، التقطت أنفاسي، أشعلت سيجارة أخرى.

أحمد الفخراني

ديسمبر 2017

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر