بورتريهات متخيلة (16): سعيد صالح.. صعلوك وسلطان

أين النجاح وأين الفشل؟ إن كنت نلت حقا كل ما أردت، لم تخن كنه روحك كما أدركتها، لم تؤذ أحدا، لم تعلق سواك بأمل، لم تعد أحدا بشيء سوى أن تكون أنسا مصاحبا، ليلة سلطنة ونكتة ترج القلب والبدن، تعلق خالدة بالأذهان، دون أن يسعى صاحبها لشيء، سوى أن تقال.

دون سلطة أو ملك، الأرض كلها سماؤه، السماء كلها بساط قدميه، هو طفلها وصعلوكها، لأن السلاطين وهم في العمق أطفال، في سعيهم المحموم الذي يملك سوط القدرة كي يتشكل العالم على صورتهم، لا يجعلون من الطفولة إلا وحشا تافها قبيحا، يدمرون كل ما تقع عليه أبصارهم، ملعونة أناملهم إذا ما لمست واشتهت. لا يعرف الأنس طاغية، لا يلتذ بكل ذرة في العالم من تسلط عليه، أما الصعلوك فهو أبدا ودائما، سلطان نفسه.

لم يهزم، لم يبدد حياته.  بل ارتد إليه حلم أن يتشبث بالعالم كما تبدى له طفلا، مزحة طويلة وساعة حظ أبدية، حفلة ألعاب لا تنتهي. عندما تخيفه السماء بالصاعقة، لا يتراجع، بل يردها كلها عبر نكتة كالعاصفة. هكذا لم ينجح الثعبان الذي يتلوى داخلنا في أن ينهشه، ولم ينل منه جلاده ذو السوط الذي غمسه طويلا في زيت الندم.

**

لم يهزم، وكذلك لم ينتصر، علام ينتصر؟ المعارك لا تخصه، نصره ليس إلا قهر ذاته، وفي هزيمته لم يطارد أحدا بلعنات قلب غضوب. طارده الحمقى، بمقارنات لا تليق بعابر مثله لا يرغب لأظافره أن تتشبث بشيء، لأن في نشب أظافره جرح ونار، وهو لم يخلق ليجرح أو ليحرق، بل ليُمتع، يستمتع، يغني، لا رغبة لمثله أن يربط خلود اسمه بالقدرة على الكي، بالعنف، بما نتركه من ندوب في ذاكرة الآخرين.

ربما بسذاجة حلم أن يعيد ابتكار نفسه كصوت شعب، لأن من فاتتهم الفرص ودهسهم قطار قهر طويل مشحون بالفرص الضائعة، اللذين لم يتبق لهم أكثر من الحلم بيوم خال من كدر السلاطين ولقمة طيبة وستر سقف ونكتة جبارة، يحتاجون أيضا إلى مثال. صعلوك لم يتبق له سوى أن يضرب أوتار عود ويدندن بصوت أجش.

ربما عندما طأطأت رأسه لمرة أمام مقولات تخترع له حياة أخرى وتلومه أنه لم يعشها، تلقى هزيمته الأولى.

**

ترشقه الكوة التي تنبعث منها الشمس، يرتطم ضوء النهار بوجهه معنفا، لا يستيقظ، بل يقيم في المسافة الغائمة بين الحلم والظن، يعانق أشباح مخيلته، شاحذا إياها حتى يأتي الليل، حينها يدعك عيناه الغائمتان بحثا عن رؤى ومكان حميم تتسع منه اللحظات كلها، فقط في الساعات العميقة لليل، تستيقظ النار، ينسكب الجسد كفيضان نهر.

في أنس سهراته يحيل الظلمة بروح هي بين حدود الجنون وخواطر الهيجان إلى نور، يلمس جبهة الفجر، بذهن منتش بالدهشة، كصعلوك وسلطان يلقي لصحبته عبر كل لفتة نثار من عطايا البهجة، وعندما تصحو الشمس عائدة وسط حشود عمياء مضطربة بحثا عن معجزة، يرطم وجهها بضياء كوة قلبه المرصعة بالبهجة، كي تعود إلى النوم.

ها هو على فراشه، بدلا من أن يلعن أو يبكي، يعيد دموعه إلى غمدها، متحسسا برباطة جأش، الندبة الكبيرة.

اقرأ أيضا:

بورتريهات متخيلة (15): معالي زايد.. كأغنية تصعد من الدم

بورتريهات متخيلة (14): محمود الجندي.. على جبينه الأنوار

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر