في معرض بهولندا.. أسرار لوحات الفيوم الأثرية وكواليس خروجها من مصر

معرض جديد في هولندا عن واحدة من أشكال الفن الكلاسيكي المصرية النادرة الموجودة حتى الآن، وهي «اللوحات الجنائزية» والمعروفة باسم «بورتريهات الفيوم». يضم المعرض عدد كبير من اللوحات يجيب من خلالها على تساؤلات آلية خروجها من مصر مع دراسة مُفصلة لكل لوحة.

وجها لوجه

يُقام معرض «وجها لوجه.. الأشحاص الذين يقفون وراء لوحات المومياوات» في متحف “ألارد بيرسون” في أمستردام بدءا من 20 مايو المقبل حتى السادس من أكتوبر. يحوي المعرض مجموعة كبيرة من اللوحات الجنائزية من مصر ما بعد العصر البطلمي، بعضها مُعَار من متحف اللوفر ومتحف جيه بول جيتي. وتعتمد الفكرة الأساسية له على رؤية الزوار لوجوه أشخاص عاشوا قبل آلاف السنين، ويتفاعلوا معها عن قرب.

وبحسب الموقع الرسمي للمعرض، فهو الأول لصور المومياء المصرية القديمة في هولندا، وتم رسم صور المومياء، التي غالبًا ما يتم رسمها على ألواح خشبية، خلال الفترة الرومانية في مصر. من القرن الأول إلى القرن الرابع الميلادي، وتوضع على وجوه الأشخاص المحنطين. وتعرف أيضًا باسم صور الفيوم، نسبة إلى المنطقة التي تم فيها التنقيب عن معظم الأعمال.

تم جمع حوالي 38 لوحة من جميع أنحاء العالم في هذا المعرض. ويستقبل المعرض نفس عدد الأشخاص، لإتاحة فرصة التعرف على أشخاص خلدوا أنفسهم منذ ما يقرب من 2000 عام. ويقدم المعرض معلومات أيضا عن صانعي لوحات الفيوم وأحفادهم وأتباعهم وجامعي الآثار وعلماء الآثار والباحثين المرتبطين بهذه اللوحات. كما يمنح المعرض صوتًا لمختلف الأفراد الذين يفكرون في الصور من مجالات خبرتهم. من هم الأشخاص الذين تم تصويرهم؟ كيف تم تصويرهم ولماذا؟ على يد من تمت رؤيتهم؟

تستحوذ لوحات الفيوم على أهمية كبيرة بسبب الملابس  ونظرات الأشخاص الواقعية، والتعبيرات الفنية بتقنية “الرسومات الكاوية” الموجودة في الأيقونات البيزنطية لاحقا، والتي ألهمت أيضا الفنانين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

لوحات الفيوم النادرة

تم اكتشاف الجزء الأكبر من صور الفيوم، في مقبرة بمنطقة الفيوم في مصر. حيث تم العثور فيها على وجوه مرسومة للجثث المحنطة. وتعد فريدة من نوعها لعدة أسباب، طبيعتها كلوحة، على عكس آثار الرومان والمصريون والقدماء على الحجر، وكذلك تفاصيل بقاءها حتى الآن دون تلف. بالإضافة إلى تصويرها أشخاص عاديين وليس حُكام أو أباطرة.

ويقول أمين المعرض “بن فن دن بيركن” إن أسلوب اللوحات بمثابة بوتقة تنصهر فيها كل التأثيرات الثقافية. ويتابع: “يظهر في أسلوب اللوحات الهدف منها، وأنها وسيلة مصرية ليظل الأشخاص المحبوبين والمرضى معروفين للآلهة”.

ترتبط اللوحات بانتشار الثقافة الهيلنستية في مصر خلال فترة حكم الفراعنة البطلميين، والذين يعود أصلهم إلى الفاتح اليوناني المقدوني الكبير، ألكسندر الأكبر. وتتجلى هذه الثقافة في ملابس المصريين والمواد التي تُستخدم في رسم الأقمشة. وأشار فان دن بيركن إلى أن “الشيء المثير للاهتمام في هذا النوع من الرسم هو المهارة التي يتطلبها، نظرًا لعدم إمكانية إجراء تعديلات بمجرد تجمد الشمع، ويتم رسم الصور الشخصية من خلال وضع طبقة بعد طبقة وليست طريقة التلوين المعتادة”.

الصور الجنائزية

وصلت فكرة صور الفيوم الواقعية إلى مصر من خلال روما، بعد انضمامها إلى الإمبراطورية الرومانية في عام 30 ميلادية. وتتميز لوحات الفيوم بتفاصيلها الواقعية والحية، التي تظهر فهمًا لتشريح الجسم البشري.

لكن هل هذه اللوحات هي الوجوه الحقيقية للأشخاص الذين ماتوا؟ يظل هذا السؤال محل نقاش. يوضح “فان دن بيركن” لموقع “آر تي نيوز” ويشير إلى أنه من الصعب معرفة ملامح شكلهم، لكن بالنسبة للمستوى الاجتماعي ورسم المجوهرات فإنه من المحتمل أن يكونوا أكثر ثراءً مما يتم تصويرهم في الصور. ويستدل على مدى ثراءهم نظرا لارتفاع تكلفة اللوحة الجنائزية الواحدة، نظرا لاستخدام ألواح خشبية من خشب “الزيزفون” من خارج مصر. ويضيف: “الأشخاص في الصور كانوا من الطبقة العليا في المجتمع المصري”.

تشير الأدلة إلى أن صور المومياء المرسومة كانت تُعتبر تقليدًا جنائزيًا مصريًا يعود للعصر الإمبراطوري الروماني. حيث كانت ترسم على ألواح خشبية أو أكفان من الكتان. كانت هذه الصور المرسومة تحيط برأس الجثة المحنطة وتستخدم كأغلفة للبقايا المحنطة لبعض أغنى سكان مصر في تلك الفترة.

اختفاء الرسم الجنائزي

يرجح أيضا تأثير التيارات الفنية المتقدمة في إيطاليا وآسيا الصغرى على الفن المصري، رغم عدم وجود دليل كافٍ للتوصل إلى نتيجة محددة. مُرجحا أن الاختلافات في الأسلوب يمكن أن تكون بسبب اختلافات في الموقع الجغرافي أو تفضيلات الفنانين الفردية.

أما عن تحديد تواريخ اللوحات الجنائزية، يوضح أنه لا يمكن تحديدها بدقة تامة، لكن تقليد رسم الصور الجنائزية الذي ظهر في القرن الأول قبل الميلاد، تلاشى تدريجياً خلال القرن الرابع الميلادي. واحدة من التفسيرات المحتملة لهذا التطور هي ظهور المسيحية. وعندما انتشرت من روما إلى مصر، تم استبدال طقوس التحنيط بمراسم الدفن المسيحية. ومع انخفاض أهمية التحنيط، تلاشت صور المومياء تدريجياً أيضًا.

الفتاة ذات الإكليل الذهبي

يعتمد المعرض على أحدث الدراسات المتعلقة بلوحات المومياوات وعلى نتائج البحث الفني في المواد، الذي بدأه آلارد بيرسون. الذي يعمل في هذا المشروع مع شركاء بحث في بلجيكا وألمانيا وهولندا والولايات المتحدة، وشبكة “APPEAR” البحثية التي تضم 60 متحفًا تركز بشكل خاص على صور المومياء.

سيتم مشاركة النتائج الأولى للبحث في لوحات المومياوات الاثنتي عشرة في المعرض. وواحدة من لوحات الفيوم المثيرة للجدل في متحف “جيه بول جيتي”. هي لوحة لفتاة شابة ذات إكليل ذهبي أطلق عليها الخبراء اسم “الفتاة ذات الإكليل الذهبي”، خواض الكثير من العلماء تجارب عديدة لدراستها وتتبع تاريخ خروجها من مصر.

وكان آخر هذه الجهود هي دراسة «الفتاة ذات الإكليل الذهبي: أربع وجهات نظر حول صورة المومياء»، حصل «باب مصر» على نسخة من الدراسة، والتي تتناول بدقة كل تفاصيل اللوحة. فشكل الرسم على خلفية رمادية مخضرة لفتاة تبلغ من العمر حوالي أربعة عشر عامًا تقريبًا، ومن المُحتمل أنها من عائلة ثرية. رأسها مُنحرف قليلاً إلى اليسار، وهناك وميض في عينيها.

لوحة الفتاة ذات الإكليل الذهبي
لوحة الفتاة ذات الإكليل الذهبي
نعيم المرأة

ترتدي الفتاة سترة حمراء ذات خطوط سوداء، وترتدي أقراط ذهبية وقلادة لؤلؤية، وتتوج رأسها بإكليل من أوراق شجر مطلي بالذهب. ويُرمز إلى النعيم الذي تتمتع به المرأة في الحياة الآخرة بفضل الإلهية. وعلى الرغم من أن متوسط ​​العمر المتوقع في مصر الرومانية كان منخفضًا. حيث يُقدر بحوالي 40 عامًا على الأكثر للرجال وأقل بالنسبة للنساء (بين 20 و25 عامًا). إلا أنه من المؤكد أن أعضاء النخبة الاجتماعية تجاوزوا هذا العمر المتوسط.

عن خروجها من مصر، تمت مناقشة مسألة العواقب المترتبة على نقلها من مصر، من قبل كريستوفر شيبينديل وديفيد جيل. إذ تأتي اللوحة من مجموعة “كونستانت لونسينغ شورلير” بعد تأسيس متحفه في لاهاي بهولندا عام 1924.

وفتحت هذا النقاش مؤخرًا إليزابيث مارلو، وعلى الرغم من ضياع مصدر هذه الصورة. إلا أن دراسة بعض المصادر بالإضافة إلى التحليلات المقارنة لتكوينها والمعلومات التاريخية ساعدت في إعادة بناء جزء من تاريخ الصورة. تم توثيق اللوحة لأول مرة عام 1907 عندما أدرجت في مجموعة كونستانت دبليو لونسينغ شويرلير تحت رقم الجرد 724. وقد حفظ متحف ألارد بيرسون سجلاته عندما تم بيع مجموعته. ثم تم بيع مجموعة من اللوحات التي توجد الآن في كارلسروه، وكانت اللوحة قد تم شراؤها من شخص بدوي.

دراسات سابقة

وذكرت الدراسات السابقة أنه تم شراء اللوحة من قبل تاجر أثري من أخميم، وترتبط بمنطقة شمال نجع حمادي، ويعتقد أنها كانت ضمن مجموعة “راينهارتت” الأثرية في هايدلبرج عام 1897، وقيل إنها جاءت من الفيوم ومواقع أخرى في وسط وعليا مصر بالإضافة إلى ذلك، قام راينهارت ببيع 173 قطعة من الأقمشة القبطية إلى كارلسروه في عام 1899.

الغريب أن العديد من القطع المرتبطة براينهارت، وخاصة المنسوجات الجنائزية، كانت منتشرة في سوق الفن في نفس الفترة التي تم استخراج اللوحة فيها. وتمت مشتريات راينهارت الموثقة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن التاسع عشر. بعد إعادة اكتشاف سوق لوحات المومياوات ووصول مجموعة كبيرة منها إلى أوروبا عن طريق تيودور جراف (1840-1903). وهو آخر مجمع يقيم في القاهرة، الذي اشتراها من عملاء بالتزامن مع مشتريات راينهارت. وتشمل هذه المشتريات الصور المحفورة التي اكتشفها فليندرز بيتري في حوارة عام 1887.

بعد مغادرة صورة الفتاة ذات الإكليل الذهبي مصر، لم يتم توثيق مصيرها بدقة. رحل راينهارت نفسه عن مصر ليصبح القنصل البروسي في بلاد فارس في ديسمبر 1900. وقد عرضت صورتان غير محددتين للمومياء في مقر إقامته الخاص. وتوفي راينهارت بعد فترة قصيرة في ميونيخ في 25 نوفمبر 1903. ووصلت الفتاة ذات الإكليل الذهبي إلى مجموعة شورلير في لاهاي بحلول عام 1907.

تشير السجلات إلى أن الصورة تم الحصول عليها من خلال ويليم ل. ليدز، وهو جامع هولندي ودبلوماسي سابق. وبعد انتهاء الحرب، تقاعد في لاهاي وأصبح صديقًا لشورلير وكان يشترك في المزادات كوكيل له. وفي بداية القرن العشرين، حصل ليدز على عدد كبير من الآثار المصرية من راينهارت.

لوحات لفيوم المقرر عرضها بمعرض وجها لوجه
لوحات لفيوم المقرر عرضها بمعرض وجها لوجه
متحف ألارد بيرسون

المتحف الذي يضم النصيب الأكبر من اللوحات هو متحف ألارد بيرسون ويوجد به آثار من جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط ​​القديم مع التركيز على مصر واليونان وروما. وقد تم تأسيسه كمتحف أثري لجامعة أمستردام في عام 1934.

وتم تسمية المتحف على اسم البروفيسور د. ألارد بيرسون (1831–1896)، ابن رجل الأعمال الأرستقراطي جان لودفيك جريجوري بيرسون (1806–1873) والمؤلفة الهولندية إيدا أوينز بيرسون (1808–1860). باعتباره لاهوتيًا ومؤرخًا فنيًا ولغويًا، تم تعيين ألارد بيرسون في عام 1877 كأول أستاذ لعلم الآثار في جامعة أمستردام. ولأغراض تعليمية، شرع في تجميع مجموعة كبيرة من القوالب الجصية للأعمال الفنية القديمة.

المجموعة الأثرية بالمتحف، تم جمعها من مجموعات البروفيسور د. السير جان سيكس (1857–1926)، خليفة ألارد بيرسون كأستاذ لعلم الآثار في أمستردام؛ البروفيسور د. فريدريش دبليو بارون فون بيسينج (1873-1956)، أول أستاذ لعلم المصريات في هولندا. وخاصة البروفيسور د. كونستانت دبليو لونسينغ شويرلير (1881–1941)، مصرفي وجامع أعمال فنية، ابن المصرفي وعالم الموسيقى د. دانييل فرانسوا شورلير.(1855–1927).

اقرأ أيضا:

للبيع في يونيو القادم: هكذا خرجت أقدم مخطوطة قبطية في العالم من مصر

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر