في ظل العنب: تاريخ عمل الأطفال والفتيات من دفاتر مصر القديمة

الحصاد المُرّ

في مصر القديمة، اتخذت الطفولة شكلا مغايرا للمألوف، لم يكن اللعب هو مهمة الأطفال، ولم تزين الدمى أيدي الفتيات، بل كانت أياديهم الصغيرة تمسك بالمغزل، أو تحمل عصا تطارد بها الطيور عن حقول العنب، أو تُبعثر الحبوب في التربة الزراعية. لقد ظلت حياة آلاف الأطفال، وخاصة الفتيات، طي النسيان، خاصة مع تركيز الفن الجنائزي على تخليد النخبة. أما الفتيات والأطفال العاملون، فقد كانوا يعملون في ورش النسيج، المزارع، وبناء المدن.

عمالة الأطفال

تتوفر معلومات محدودة عن حياة الأطفال في مصر القديمة، إذ تركز السجلات المتاحة غالبا على أطفال الطبقات العليا، مثل الأمراء أو أبناء كبار المسؤولين. ووفقا مجلة “فيزيكس دوت أورج“، فقد تم توثيق حياة الأطفال بوضوح في النقوش والفنون الجنائزية، كجزء من طقوس الخلود. ويبدو أن ارتفاع معدلات وفيات الأطفال، خاصة الرضّع، ساهم في التعتيم على تفاصيل الطفولة العادية.

وترجح الباحثة “ليزا لوك” أن كثير من الدراسات في علم المصريات تميل إلى تصوير الطفولة من منظور ذكوري، يركز تحديدًا على الأولاد والشباب من الطبقة النخبوية. لكن، ماذا عن الفتيات؟ كيف نشأت الفتاة العادية في مجتمع تحكمه القيم الأبوية؟ وما هي أدوارها في الحياة اليومية بعيدًا عن القصور والمعابد؟

تحديات البحث

أولى العقبات التي واجهت الباحثين في فهم حياة الفتيات في مصر القديمة هي غياب تصنيف عمري واضح. إذ لم يكن المصريون القدماء يدونون أعمار الأشخاص بدقة في رسائلهم أو نقوشهم. فقد استخدموا علامات هيروغليفية عامة تصف الدور الاجتماعي، وليس المرحلة البيولوجية، مثل رسم الطفل الجالس أحيانًا يضع إصبعه في فمه، والذي يستخدم للإشارة إلى الأطفال عموما.

أما الفتيات، فقد ارتبط وصفهن بكلمة “شيريت”، وهي مصطلح يستخدم للدلالة على الفتاة الصغيرة التي بدأت تتكلم وتتحرك وتشارك الكبار في بعض المهام اليومية. وتظهر كلمة “شيريت” في وثائق المحاسبة القديمة التي تُسجل دفع الأجور، وتشير إلى عاملة طفلة، ويتم تمييزهن عن النساء الأكبر سنًا في هذه الوثائق، رغم صعوبة تحديد أعمارهن بدقة.

جدارية مصرية قديمة تتضمن أطفال ورجال يعملون في حقل زراعي - بحث الدكتورة صفاء عبدالرؤوف
جدارية مصرية قديمة تتضمن أطفال ورجال يعملون في حقل زراعي – بحث الدكتورة صفاء عبدالرؤوف
برديات اللاهون

أشارت الدراسات إلى مدينة “إلفنتين”، الواقعة على الحدود الجنوبية لمصر بالقرب من أسوان الحالية، حيث عثر على أدلة في برديات اللاهون الشهيرة عن حياة بعض الفتيات العاملات في ورش النسيج خلال عصر المملكة المصرية الوسطى(2030 ق.م-1650ق.م)

وقد تم توثيق ونشر هذه البرديات في مجلد صادر عن كلية لندن الجامعية (UCL) ، بعد اكتشافها على يد عالم الآثار فليندرز بيتري في مدينة من عصر المملكة الوسطى قرب اللاهون في الفيوم. نُشرت هذه الدراسة لأول مرة في عام 1996 ، حيث عثر علماء الآثار على وعاء خزفي تم إعادة استخدامه كسطح للكتابة، في منزل، ورجح أن يعود تاريخه إلى عهد الملك أمنمحات الثالث (حكم قبل نحو 3800 عام).

وبناء على أسلوب الكتابة والأسماء المذكورة، رجح بعض العلماء تاريخ القطعة قد يعود لفترة أقدم . يحتوي الوعاء على قوائم بمدفوعات الحبوب لعمال النسيج على مدار شهر.

قمح مقابل العمل

يتكون ما يقرب من نصف المجموعة من شظايا برديات تمثل سجلات إدارية. وتقدم معلومات نادرة عن البنية الإدارية والاجتماعية لمصر في عصر المملكة الوسطى. وتظهر هذه السجلات دمج الفتيات من مختلف الطبقات الاجتماعية في سوق العمل منذ سن مبكرة. تشير الوثائق إلى وجود 18 طفلا ضمن قوائم العمال. من بينهم 11 فتاة، وصفن بكلمة “شْرِيَّت”، ويعملن مع 28 امرأة بالغة.

حصلت النساء البالغات على أجور تراوحت بين 50 و57″هيكات” (حوالي 240-274 لترًا من الحبوب). ولم يتم تحديد إذا كان هذا المبلغ دفعةً واحدةً أم شهريًا أم سنويا. أما الفتيات، فقد حصلن على أجور أقل، لكنها لا تزال كبيرة، تتراوح بين 3 و7 “هيكات” (نحو 14 – 34 لترًا).

ولم تقدم السجلات معلومات عن أسماء السيدات أو الفتيات أو أعمارهن أو أي معلومات أخرى. وتقدم هذه الوثيقة معلومات تفيد بحصول الفتيات على أجر مقابل عملهن فقط. وخضوعهن لنظام تدريب مهني تعمل فيه الفتيات مع حرفيات.

عمل الفتيات أثناء المجاعة

تشير الأدلة إلى أن الأطفال والفتيات عملوا في ورش النسيج، وكان إنتاج المنسوجات يتم داخل المنازل وفي ورش العمل المخصصة. وتحتوي المنازل على غرف متعددة الأغراض، بما في ذلك الساحات، والمدخل، ومطابخ بها أفران، وسلالم تؤدي إلى أعلى المنزل. وقد عثر علماء الآثار بالقرب من المنزل الذي تم اكتشاف قائمة المؤن فيه على إبر ومغازل ومكوكات وبقايا أوتاد لنول كبير. وبهذا كانت المنازل أماكن لحياة الأسرة وتربية الحيوانات والعمل اليدوي.

لكم لم تحظ جميع الفتيات في إلفنتين بنفس تجربة الحياة. فموقع المدينة على الحدود الجنوبية لمصر في تلك الفترة جعلها موطنا لسكان من فئات متنوعة، مثل المهاجرين والعبيد والعمال المؤقتين. وتوثق رسالة تعود إلى عهد الملك أمنمحات الثالث وصول بعض العائلات، بما في ذلك النساء والأطفال، إلى جزيرة إلفنتين بحثًا عن عمل أثناء المجاعة في منطقتهم.

ويمكن مقارنة هذا الدليل بوثيقة قانونية من نفس الفترة، ولكن من مدينة مصرية أخرى، هي اللاهون. تذكر هذه الوثيقة شراء ونقل نساء وأطفال مستعبدين يُطلق عليهم اسم “آموت”، وتُظهر الوثيقة أنهم أُطلق عليهم أسماء مصرية جديدة.

وتشير هذه الوثائق إلى عمل الأطفال والفتيات في مصر القديمة، وكنّ مساهمات اقتصاديات فاعلات، وكثيراً ما تلقين أجراً رسمياً مقابل عملهن، وتشير الباحثة لويزا إلى أن هؤلاء الفتيات لم يكن عبيد.

أسباب عمالة الأطفال

بحسب بحث بعنوان “عمالة الأطفال في مصر والعراق القديم” للدكتورة صفاء عبد الرؤوف محمد محمود، مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب- جامعة جنوب الوادي، فإن الحروب الخارجية والاضطرابات الداخلية المتكررة في الشرق الأدنى القديم. وتحديدا في مصر والعراق، كانت أهم عوامل ازدياد عمالة الأطفال في سن مبكر. إذ أثرت على حياة الأفراد لأن الغالبية العظمى من البالغين في المعارك.

وبحسب الدراسة: “نجد ازدياد انضمام النساء والأطفال وكبار السن إلى العمل لإعادة توزيع الجهد ونقص الأيدي العاملة. وازدادت الحاجة إلى عمالة الأطفال خلال فترات الأزمات، التي تتطلب السرعة والكثرة في العدد لإنجاز المهام”.

وتفسر الدراسة مفهوم “عمل الأطفال مقابل أجر”. بأن المقصود بالأجر هو تخصيص مقابل للطفل بشكل مستقل بالعملة أو بمقدار محدد من الإعانة بصفة يومية أو شهرية أو سنوية. أما العمالة غير المأجورة، فتشمل أطفال العبيد وأطفال المديونين (رهون الدين) حتى ينقضي وهؤلاء لا أجر لهم”.

عمل الأطفال في موسم الحصاد بحقول مصرية - مشاع إبداعي
عمل الأطفال في موسم الحصاد بحقول مصرية – مشاع إبداعي
مهارة الأطفال ووراثة الحرف

يشير البحث إلى أن الأطفال في مصر القديمة غالبا ما كانوا حرفيين منذ الصغر، لأن المهن والحرف في مصر القديمة أشبه بالوراثة بين الأبناء والآباء.

أما مجالات عمل الأطفال تمثلت بشكل رئيسي في المجال الزراعي والحرفي. بعض الأطفال اتجهوا إلى التعليم للالتحاق بسلك الكتبة، وبعض الأطفال اتجهوا للعمل اليدوي.

العمل في حقول العنب

وفقا للدراسة، كان الأطفال يعملون لتوفير حياة كريمة لأنفسهم. بعد أن يتم طردهم من منازلهم لأسباب مختلفة، منها اختلافهم مع آبائهم وأمهاتهم كما جاءت في بعض النصوص، مثل: “منعت طفلتها من دخول بابها”. وتتعرض الفتيات الصغيرات غير البالغات للطرد أكثر من الأولاد بسبب رفضها للزواج من شخص معين أو زواجها دون موافقة أبويها.

وفي مصر القديمة تتوفر العديد من المشاهد التي توضح عمالة الأطفال. ولا يتضح إذا كانت عمالة مأجورة أو غير مأجورة. وترجح الباحثة أن الأطفال عملوا لمساعدة الأهل، ولم يكن لهم كسب مستقل.

توزيع الأدوار بين الجنسين

تذكر الدراسة التي أعدتها د.صفاء عبد الرؤوف أن الأطفال عملوا في تربية الماشية وإطعامها. أما البنات كن يعملن بالغزل وغسيل الملابس تحت إشراف الرجال والنساء. بينما أبناء القرى من نفس الطبقة يعملون في مجال الفلاحة. وتحديدا ما يتناسب مع صغر سنهم مثل جمع الحشائش، وبذر الحبوب، وجمع السنابل التي تتساقط في الحصاد، وطرد الطيور من كروم العنب بالعصا. وعلى حد قول أ.د عبد العزيز صالح: “جعلهم هذا العمل يودعون طفولتهم باكرا جدا”.

كذلك عمل الأطفال في عملية النسيج. وكانت تخضع لإشراف النساء، ويتعرف الطفل على كيفية وزن كتل الخيوط، وفهم المواد الخام والبدء في النسيج من خلال مشاهدة الآخرين. وعن أجور الأطفال، كانوا يحصلون على طعام وكساء.

وثائق مباشرة

تشير الدراسة إلى وثيقة بردية تعد من النصوص المباشرة التي توضح عمالة الأطفال. وهي عبارة عن خطاب من مشرف الأراضي التابعة للقصر الملكي إلى إحدى السيدات. وقال لها إنه وجد في الكروم 7 مزارعين رجال، وأربعة من الشباب، وستة أطفال.

كما تم العثور على مشهد جداري في منطقة شيخ عبد القرنة بالبر الغربي. وكان موجودا به مشهد لسبعة رجال، وامرأة، وأربعة أطفال خلال عملية قياس الأرض. ويظهر أحد الأطفال وهو يمسك بأدوات التسجيل والكتابة.

هل بنى الأطفال منطقة تل العمارنة؟

دليل آخر على عمالة الأطفال في مصر القديمة أوردته عالمة الآثار البريطانية ماري شيبرسون. في مقال منشور بصحيفة جارديان البريطانية عام 2017. فخلال مشروع تنقيب أجري بين عامي 2006 و2013 بمنطقة تل العمارنة، والتي بنيت وهجرت في أقل من 15 عاما بعد وفاة أخناتون (1332ق.م). أشارت الدراسة إلى احتمال كبير أن المدينة بنيت بأيدي الأطفال.

في عام 2015، تم فحص هياكل عظمية استخرجها فريق البحث من الموقع. وتبين أن جميعها تقريبا تعود لأطفال مراهقين، ولم يتم العثور على رضع أو كبار في السن.

وقد خضع 105 هياكل عظمية للدراسة. واتضح أن أعمارهم تتراوح بين7 و20 عاما، استنتج الفريق أن هذا المكان كان مخصص لدفن الأطفال والمراهقين. ولم يكن سبب الوفاة طبيعيا بل كانت ناتجة عن إصابات لم يتم علاجها. بعضهم مُصاب بهشاشة العظام، والأقل سنا مصابون بتشوهات وكسور في العمود الفقري.

واستنتجت الباحثة أن هذه العلامات مرتبطة بأعمال شاقة. وأرجعت سبب وفاتهم أن هؤلاء الأطفال والمراهقين كانوا يعملون في منطقة تل العمارنة وتحملوا أعمال شاقة متكررة.

اقرأ أيضا:

نقاشات حادة في بريطانيا لإعادة المومياوات المصرية.. لماذا تغيب مصر عن المشهد؟

سمر دويدار: الفلسطينيون ليسوا أرقاما.. و«حكايات فلسطينية» هي الدليل

هروب تاجر آثار باع قطعا مصرية منهوبة بـ50 مليون يورو.. هل تُغلق القضية؟| مستندات

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.