فتوات رأس التين والسيالة في الإسكندرية.. نص نادر لـ«الجزايرلي» (2-3)

قبل بناء كورنيش الإسكندرية عام 1925، أرخ يوسف فهمي الجزايرلي في نصه «الإسكندرية في فجر القرن العشرين»، لسباق القوارب في عصر الخديوي عباس الثاني، الذي كان يقام كل عام على خليج الأنفوشي في منطقة بحري. وصف الجزايرلي بدقة عملية تحضير هذه القوارب في ترسانات منطقتي رأس التين والسيالة التي كانت مملوكة حينها للمعلم محمد طلبة والمعلم حسين الدجيشي.

وبغير قصد وثق الجزايرلي مشاهد تحلل جماعات الفتونة في بداية القرن العشرين بالإسكندرية، فيذكر في نصه حميدو الفارس، فتوة بحري، وصبيه علي التتة. فيصف عنفهم وشغبهم غير المبرر بعد سباق القوارب، والهتافات الشعبية الساخرة بين أهالي ومشاديد فتوة حي رأس التين وحي السيالة.

ننشر هنا الجزء الثاني من نص الإسكندرية في فجر القرن العشرين ليوسف فهمي الجزايرلي بعد إضافة هوامش توضيحية عليه.

حي السيالة

«وبين حي رأس التين وحي السيالة يمتد خليج الأنفوشي الضحل على شكل نصف دائرة يتخلل شاطئاه -غير الرملة البيضاء الصغيرة- عدد قليل من المواضع الصالحة للاستحمام، ولكثرة ما بقاعه من الكتل الصخرية التي تغطيها الأعشاب البحرية والطحالب، يتخذ الصيادون الناشئون وغلمان الحيين من رقعته مجالا للبحث عن ثمار البحر، لاسيما الجنشل والسيريدية والأختنيا والجلاجُلة والجندوفلي وبلح البحر.

فإذا ظفر الماهر من الغلمان بصيد وفير أسرع إلى رفاقه فأوقدوا النار من فضلات الخشب المتخلفة عن ترسانات صنع القوارب واستمتعوا بغداء أو عشاء لذيذ قوامه صيد رفيقهم الكريم. وصيد ثمار البحر في الخليج يجري بطريقة بدائية ساذجة فالغلام الصياد يعلق كيسا في حزام يشده على بطنه ويسير في أرجاء الخليج عاريا. وكلما عثرت قدماه على جنشلة أو جلاجولية التقطها بأصابع رجليه في سرعة بارعة وألقى بها في الكيس.

ثم يتقدم خطوات ليعثر على غيرها. وقد يعض قدمه أبو جلامبو وقد تخترق راحتها بعض شوكات الجنشل الغليظ. ولكن غلام رأس التين أو ربيب السيالة لا ينثني عن صيده بسبب الألم. يستمر على تعقب الجناشل والجلاجولات في صبر وإصرار جديرين بآبائه وأجداده رفقاء البحر في سكونه وثورته، وطالبي الرزق الحلال في ضحلة وعبابه.

الأسر العريقة

وعلى حافة خليج الأنفوشي تقوم منازل بعض الأسر العريقة في الحسب السكندري. ففي طرفه الشمالي وعلى مقربة من عشش رأس التين الصفيحية ترتفع هامة بيت عائلة الجزيري، وقد أشتهر رجالها بالثقافة الدينية.

وفي وسطه يعلو منزل شيمي بك، ومطحنه وشهرة عميدها ذائعة الصيت في القانون واللغة الفرنسية ومن رجالات الحزب الوطني الأول. إذ كان في طليعتهم، ومنزل الشيخ عبدالرحمن الرافعي مفتي الإسكندرية. وقد حل به بعد ذلك الشيخ عبداللطيف الرافعي، والد أمين وعبدالرحمن الرافعي المحاميين الشهيرين، وقد قضيا طفولتهما في هذا المنزل.

في جنوبه يطل بيت المسيري والمحتسب على مساكن السيالة المتواضعة. وعلى طول شاطئه المتعرج تتعدد ترسانات إنشاء القوارب والزوارق والمواعين والبراطيم. يتزعم أصحابها المعلم محمد طلبة بترسانته المتقنة الإنتاج بجانب العشش في رأس التين، والمعلم حسين الدجيشي بترسانته الشهيرة تحت المنازل القديمة بالسيالة.

ويسود الهدوء الخليج في فصل الشتاء، فلا يسمع فوق مسطحاته الرملية العريضة سوى نقرات قواديم القلافطية الخشبية. وهم يحشون الفواصل الضيقة بين ألواح القوارب، بالأُسطبة من القطن المشبع بالقطران. أو حفيف المناشير بشدها إلى أعلى، ويجذبها إلى أسفل النشارون المهرة. يُركب بعضهم فوق اللوحات الضخمة ويقف البعض الآخر تحتها فإذا هي بعد ساعات ألواح رقاق صالحة لصنع السفن الشراعية. والعائمات الكبيرة التي تستخدم في نقل البضائع الثقيلة من البواخر إلى البر.

خريطة ميناء الإسكندرية 1920 من صفحة الإسكندرية 1900
خريطة ميناء الإسكندرية 1920 من صفحة الإسكندرية 1900
مظاهر الحياة

وما أن تغرب الشمس حتى يبدو الخليج موحشا خاليا من مظاهر الحياة حتى صباح اليوم التالي. فيعود إليه دبيبها الخافت الوئيد مع نقرات القواديم وحفيف المناشير، ويمر الشتاء ويستيقظ الربيع من نعاسه مرة أخرى. لينشر عبيقة الفياح في أرجاء الخليج وليخلع عليه حلة بهيجة من النشاط والمرح. وإذا بالمعلم محمد طلبة ينفض غبار الاستكانة من ترسانته، وإذا بالمعلم حسين الدجيشي يفعل مثله. ويتحفز لمنافسته في كبرياء وفي ثقة وطيدة في علو باعه ومقدرته الفائقة على إنشاء الزوارق السباقة.

ويسير العمل مسرعا في ترسانتي المعلمين المتنافسين. ويفد العريفون في تذوق فن إنشاء الزوارق على الترسانتين فيدلي كلا منهم برأيه -الذي لا يخلو من تحيز في غالب الأحيان- ويستبق بعضهم الحوادث. فيؤكد جازمًا أن زورق المعلم محمد طلبة سيتجاوز اندفاع الريح في انسيابه فوق سطح اليم. أو يكرر في إصرار أن سرعة زورق المعلم حسين الدجيشي ستتعدى هبوب العاصفة الغاضبة. ويتم تشييد الزورقين المدللين في وقت واحد تقريبًا، وقد بذل كل من المعلمين أكثر الجهود الفنية ليخرج زورقه السنوي الكبير متقن الصنع، أنيق المظهر، جميل التكوين، بهي اللون.

فها هو ذا المعلم محمد طلبة يأمر النقاشين بإلباس زورقه حل رائعة من الدهان الأخضر الزيتوني اللامع. ويوجه نظرهم إلى وجوب العناية بالخضراء دلوعة حي رأس التين، ثم يكلفهم في تيه وزهو بأن يكتبوا على مقدماتها باللغتين العربية والإفرنجية لقبها المحبوب “عصفور الجنة”. وأن يرسموا تحت هذا اللقب صورة أسد يمسك في يمناه الممدودة إلى الأمام براية كبيرة ترفرف في شعاع قرص الشمس الذهبي الدهان.

حسين الدجيشي

ولم يبخل المعلم حسين الدجيشي في حي السيالة على زورقه بإتقان، فأصدر أوامره المشددة إلى أمهر النقاشين السياليين بأن يضيفوا على الحمراء ثوبها الأرجواني التقليدي. وأن يخطوا على مقدمتها لقبها المعتاد “طير البحر”، وبأسفله صورة التنين الهائل يقبض بيده الجبارة على سنجق رحب يتلوى في الهواء مزهوا فخورا.

ويعود العريفون في تذوق فن الزوارق إلى زيارة الخضراء الطلبية في رأس التين، والحمراء الدجوشية في السيالة. يتبعهم خلق كثير من المعجبين والناقدين ويتجدد إطراؤهم وذمهم. فيصيب المعلمين المتنافسين من رذاذهما بلل لا يحسدان عليه..

وقبيل العصر تنعقد على حافة الخليج من طرفه إلى نهايته قلادة من النظارة مُحكمة الحلقات، ينتظرون بدء السباق الرئيسي في لهفة وتطلع. وتلمح الجموع الحاشدة شراعي الحمراء والخضراء الهائلين يصعدان رويدًا رويدًا ليبلغ قمة ساريتيهما العاليتين. وإذا التكبير والتهليل ينبعث من جميع الحناجر، وإذا الأنظار تتجه نحو خضراء المعلم طلبة عصفور الجنة. ثم تتحول نحو حمراء للمعلم الدجيشي طير البحر، وما هي إلا هنيهة حتى تدوي زغاريد النساء في رأس التين وفي السيالة. وفي وقت واحد يتلوها صياح صاخب من الرجال والفتية قوامه الجملة المألوفة التي تبعد الحسد في الزورقين: (صلاة النبي- ترضى النبي- مالحة في عينك ياللي- ما تصلي على النبي).

ويقلع الزورقين متجهين نحو عرض البحر وبكل منهما أكبر عدد من الفتوات الذين يجيدون السباحة، ويتقنون إنشاد المقطوعات الحماسية في صوت مهيب. وتصغر رؤية الزورقين في الأعين لبعدهما الشاسع عن الشاطئ وعندما يلاحظ المتفرجون أن شراعيهما يتحولان لبدء السباق الحقيقي صوب الخليج.

عصفور الجنة

وبعد فترة انتظار تطول على النظارة من اللهفة والفضول يقبل عصفور الجنة وطير البحر عبر الخليج. في ميل شديد تحت ضغط شراعيهما العاليين المليئين بالهواء، وهما يسيران بسرعة جامحة. تولد أمام كليهما ما يشبه نافورة من قوة اندفاعهما في اتجاه الشاطئ وبداخلهما الفتوات يطرقون الحافة المقابلة للقلع بهرواتهم القصيرة -الزجليات-. ويرددون في نغمة منسجمة السياق نشيدا يتضمن تقريع الزورق المنافس ويقولون:

(أيش أخرك للورى- يا لخمة البحر كله- نزل جلعك يا مرا- والمغلوب ربك بيذله).

ويلمس أحد الزورقين رمل الشاطئ قبل منافسه، فيصيح الفائز في السباق وإذا بالرايات والبوارق تُنشر. وإذا بالمعلم محمد طلبة أو المعلم حسين الدجيشي يحمل على الأعناق تكريما وتبجيلا. ثم يوضع الزورق المحظوظ فوق عربة كارو تفصل مقدمتها عن مؤخرتها لتستوعب طوله. ويتألف موكب النصر صاخبا في ضجيجه هائلا في عدده. ويسير في مقدمته المشاعلي يلعب بمشعاله التقليدي المكون من زجاجة كبيرة غرزت في عنقها سارية، مطعمة بقطع الصدف نهايتها مدببة وفوق الزجاجة غطاء من الأطلس الوردي المطرز بخيوط الفضة. وحول الزجاجة وعلى طول السارية قلائد من الأزهار والرياحين النضرة.

ويأتي المشاعلي الفتوة بحركات بهلوانية بارعة. فإذا بالمشعال الزاهر ينتقل عموديًا من جبينه إلى أنفه. ثم إلى أسنانه قذفته ويقذفه بحكمة إلى الأعلى يهبط المشعال على سطح قدمه اليمنى. ثم اليسرى دون أن يختل توازنه وينفذ المشاعلي كل هذه الحركات المدهشة على نقرات النجرزان الوئيدة المتتالية السياق.

حميدو الفارس
حميدو الفارس
الطبل النحاسية

والنجرزان من ضاربين يعلق كل منهما في عنقه الطبل النحاسية بشريط ملون يتدلى إلى البطن. وقد شد على الطبلة -التي يشبه شكلها القصعة الصغيرة- رق رفيع وبوساطة فسيلتين رفيعتين من الخيرزان يقرع الضارب الرق على نغمة الوحدة ونصف. فتنبعث من الطبلتين دقات رنانة تزيد من حماس المشاعلي، وتضبط حركاته وفاقا لتوقيعها المنتظم.

وخلف المشاعلي نجرزانه تسير في طليعة موكب النصر فرقة موسيقية لا يقف لها صدح. ووراءها فتوات الحي المنتصر وشبانه وأطفاله مزودين بالعصى-الشُوم- الطويلة والزجليات الغليظة. وفي جيوب بعضهم الزجاجات المحشوة بالرمل.

فإذا كانت السيالة هي الفائزة سار الفتوات حميدو الفارس قصيرا في قامته بدينا في كيانه. حليق الرأس بالموسى نحاسي البشرة لامعها، يبعد ذراعيه عن جسمه ليبرز قوة عضلاته وتحديه للخصوم في غير مبالاة أو خوف. ويتقدم واثقًا من فتونته الذائعة الصيت في سراويله البيضاء الضخمة، وفي طربوشه المغربي الزر القصير. وقد بدا حول حافته زيق رفيع من الطاقة البيضاء التي غمست في محلول الزهر الزرقاء عقب غسلها.

يسير حميدو الشهير في مقدمة الفتوات وعلى يمينه علي التتة، فتوة السيالة الثاني وخليفة حميدو في الزعامة كلما حل ضيفا على السجون، وما أكثر نزوله بها في مدد تقل شهورها وسنواتها. وتكثر حسب ما يقترف حميدو من مخالفات تضعه تحت طائلة قانون العقوبات.

وخلف الفتويين العتيدين تزحف الجموع الحاشدة على حي رأس التين وهي تنشد لتكريمهما:

(حميدو يا فارس- إبكي ونام- دة ربك الحارس- إبكي ونام- علي يا تيته إبكي ونام – فتوه الحتة- إبكي ونام).

رأس التين

وتتأجج حماسة الفتونة السيالية، فيردد الموكب عبارات التحدي للحي ويضرب الفتوات والشبان والأطفال الأرض بعصييهم وزجلياتهم قائلين:

(عايز حاجة- يجي- في الحتة دي- يجي- عايز عراك- يجي- في الحتة دي يجي).

ثم ينشدون بأصوات جامعة:

(جفة رملة- وجفة الطين- على ولاد رأس التين- إحنا ولاد السيالة يلا هاتوا لنا الرجالة).

ويكون حي رأس التين المغلوب قد استعد لصد الهجوم السيالي بكل ما لديه من وسائل فيتألف موكبه المزود بالشوم وزجاجات الرمل يتقدمه الفتوات على رأسهم محمد الحلو، وإبراهيم سالم ويأخذ الجميع في ترديد عبارات التحدي والتمجيد لفتواتهم ثم ينشدون:

(إحنا عليك يا سيالة- يا اللي ما فيك رجال- هربت فين الجانشلية- لما جات الجاوربية).

وعندما يلتحم الموكبان تدور المعركة حامية الوطيس بين فتوات الحيين وشبانهما وأطفالهما، وتتجلى عادة من عدد غير قليل من الجرحى يساقون إلى قسم شرطة الجمرك ليقفوا في محبسه..».

هوامش
  • الجنشل، والسيريدية، والأختنيا، والجلاجُلة، والجندوفلي، وبلح البحر، وأبو جلامبو: أنواع من المحار صالحة للأكل، توجد في البحر الأبيض المتوسط بالقرب من الشاطىء.
  • عبدالرحمن الرافعي: قانوني ومؤرخ سياسي ولد عام 1889 في القاهرة ولقب بالجبرتي الحديث.
  • شيمي بك: قانوني، وكان ضمن هيئة الدفاع عن المتهمين باغتيال بطرس غالي بعد حادثة دنشواي. أيضا مصطفى كامل حل ضيفا بمنزله عام 1896، قبل أن يلقي خطابه في الإسكندرية. وفي بحري شارع يحمل اسمه.
  • القلافطية: كلمة أصلها تركي من الجلفاط والجلفاظ، وهو مصلح السفن بالقار والزفت.
  • أسطُبَّة: بقايا متخلِّفة عن الصِّناعات الكتّانيّة والقطنيّة، وتُستعمل في تنظيف الآلات.
  • عَرِيفٌ: رُتْبة عسكريَّة، فوق الجنديّ ودون الرَّقيب عَريف أول/ بحريّ/ مجنّد/ متطوّع.
  • نجرزان: طبلة صغيرة تعلق بواسطة حزام حول الرقبة.
  • الزجليات: شومة/ عصى قصيرة وغليظة.
  • حميدو الفارس: فتوة بحري، واسمه الحقيقي عبدالحميد عمر، ولد بالإسكندرية عام 1890، وصارع أحد عبيد الخديوى عباس حلمي الثاني وفاز عليه، فأسماه الخديوى بالفارس.
  • جلعك: تنطق قلعك وتعني قلوع المركب.
  • جفة رملة- وجفة الطين: تنطق كفة رملة وكفة طين.
  • إحنا عليك يا سيالة: في التراث: أحية عليك يا سيالة.
  • الجنشالية: الجنشل نوع من المحار لكن في هذا السياق استخدمت كمجاز لأهالي السيالة.
  • الجاوربية: استخدمت في هذا السياق كمجاز لأهالي رأس التين- وتعني قواربية أي العاملين بالقوارب.
مصادر
  • مجلة كراسات الإسكندرية، عدد إبريل1965، الإسكندرية في فجر القرن العشرين، يوسف فهمي الجزايرلي ص8- ص9- ص10-ص11-ص19- ص20-ص21-ص22.
اقرأ أيضا:

يوم في حياة المخانجية بداية القرن العشرين.. نص نادر لـ«الجزايرلي» (1-3)

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر