دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

«فؤاد حداد».. قصيدة لم تنته بعد

في السابع من أغسطس عام 1953، حرر الصاغ حسن المصيلحي، مفتش مكتب مكافحة الشيوعية، محضره الذي كتب فيه أن حركة حدتو تقوم بنشاط واسع لبث الأفكار الشيوعية التي تدعو إلى تغيير نظام الحكم في البلاد، وتنشر أفكارها بين العمال والفلاحين.

وأورد المصيلحي في تقريره قائمة تضم ثمانية وثلاثين اسما من بين “الخطيرين”، كان من بينهم فؤاد سليم حداد، وإبراهيم طه العدوي (الفنان زهدي)، وشخص اسمه الحركي حنفي، تبين لاحقا أن اسمه الحقيقي عبد الرحمن الخميسي. وكشفت التحريات عن وجود اتصالات بين زهدي العدوى، وفؤاد سليم حداد، وحسن فؤاد، والخميسي، فتم القبض على الجميع ليلة العاشر من أغسطس عام 1953، كانت تلك أول تجربة سجن يخوضها الشاعر الكبير فؤاد حداد.

ديوان “أحرار وراء القضبان”

قبل دخوله السجن بعام واحد، كان حداد قد خاض تجربة السجن نفسيا من خلال ديوانه الأول “أحرار وراء القضبان”، الذي كتبه عام 1952 معبرا فيه عن معاناة المسجونين السياسيين. وكان الاسم الأصلي للديوان “أفرجوا عن المسجونين السياسيين”، إلا أن الرقابة رفضته فتم تغييره إلى العنوان الحالي. صدر الديوان عن منشورات “دار الفن الحديث”، التي أسستها منظمة “حدتو” عام 1950 وأدارها إبراهيم عبدالحليم، شقيق الشاعر الكبير كمال عبدالحليم.

دار الفن الحديث.. منبر الثقافة الجديدة

رغم أن الدار أصدرت عددا محدودا من الأعمال، فإن تأثيرها كان كبيرا في تاريخ الثقافة المصرية. فقد نشرت قصيدة عبد الرحمن الشرقاوي “خطاب مفتوح من أب مصري للرئيس ترومان”، وديوان كمال عبدالحليم “إصرار”، وديوان معين بسيسو “المعركة”. كما ظهرت من خلالها بصمات فنانين تشكيليين كبار مثل حسن فؤاد وسمير رافع وزهدي. وكان حسن فؤاد هو من صمم غلاف ديوان فؤاد حداد الأول.

تعريف أول بالشاعر

في الصفحة الأخيرة من ديوانه الأول، كتبت دار الفن تعريفا بالشاعر الشاب جاء فيه: “فؤاد حداد شاعر شاب في الخامسة والعشرين اختار الزجل كوسيلة لتسجيل أحاسيسه وآمال وطنه. بدأ يفكر ويكتب في أحرج مرحلة من تاريخ الإنسانية -الحرب العالمية الثانية- وكان يسمع عن الحرب والدمار وعن الفاشية، ويحلم مثل أبناء وطنه بالحرية وحياة جديدة.

لم يقنع الشاعر الحر بالانزواء في بيته أو في ركن مقهى ليخرج قصائده، وشعر بحاجته للنزول إلى الشارع والناس فاختار مكانه بين الطليعة الجديدة “اللجنة الوطنية للطلبة والعمال” التي قادت كفاحنا الوطني ضد مؤامرات صدقي وغيره. ذاق فؤاد حداد مع الكتل الشعبية حلاوة النصر واهتز لدماء رفاقه التي سالت وازداد إيمانه والتصاقه بالجماهير، واعتبرها كما يتضح في إنتاجه مصدر الحياة للشعر والشاعر”. وكانت قصائد حداد في هذا الديوان تلهب مشاعر المسجونين السياسيين في المعتقلات.

دار الفكر وسلسلة “الفن في المعركة”

في عام 1955 تأسست “دار الفكر”، وهي أيضا من مشروعات “حدتو”، وأصدرت سلسلة بعنوان “الفن في المعركة”. كان إصدارها الأول ديوان “موال عشان القناة ” لصلاح جاهين، أما الإصدار الثاني فكان ديوان “حنبني السد”، ثاني أعمال فؤاد حداد، وقد صمم غلاف الديوان صلاح جاهين.

ومن خلال “دار الفكر” تعرف القراء على كوكبة من كبار الفنانين مثل جمال كامل، جورج البهجوري، حسن حاكم، صلاح جاهين، عبد السميع، عبدالغني أبوالعينين، وهبة عنايت، وآخرين. شملت إصدارات الدار مجالات السياسة والأدب والفنون السينمائية والتشكيلية. وشكلت جبهة ثقافية شارك فيها أبرز الكتاب والفنانين والمفكرين المصريين.

وكانت “دار الفكر” أول منبر يساري يرحب علنا بالسياسة المصرية المستقلة المعادية للاستعمار، وبمشاركة الرئيس جمال عبدالناصر في مؤتمر باندونج عام 1955، الذي دعا إلى تصفية الاستعمار. وقد عبر عن هذا الموقف في كتاب “باندونج” تأليف عبدالرحمن الشرقاوي.

تجربة السجن الثانية (1959-1964)

في نهاية عام 1958، نشب خلاف بين نظام عبدالناصر والشيوعيين، أعقبه حملة اعتقالات عنيفة بدأت مطلع عام 1959 واستمرت طوال العام، وكان نصيب فؤاد حداد السجن للمرة الثانية، حيث قضى فيه خمسة أعوام ( 1959-1964).

امتلأت المعتقلات آنذاك بالعديد من الفنانين والشعراء والكتاب والأدباء الذين فضل معظمهم الصمت عن تجربة السجن حفاظا على الموقف السياسي، فحرمنا من شهادات إنسانية ثمينة. وقد كتب فؤاد حداد – وفق رواية رفاقه- العديد من القصائد في المعتقل، حفظها ورددها شفهيا، لكنه نشر القليل منها.

قصيدة “الأمريكانوس”

من بين تلك القصائد، واحدة فاضحة لأساليب التعذيب في السجون، كتبها وسجل فيها أسماء من المشاركين فيها، وهي قصيدة “الأمريكانوس”، يقول فيها:

القطر فايت بيقول تووت

والدم لونه بلون التوت

اتدألج اتدألج سحتوت

أنا حاشتريبك فولية

أنا الولد (يونس) ننوس

الأمريكاني الأمريكانوس

اللي ما بيخافشي من الروس

لاعبوني عسكر حرامية

وأنا الولد (مرجان) التيس

اللي عشق بنت الكونتيس

 قاتل وموش مسئول من حيث

الموت بيلعب لوتارية

أنا ولد ..أنا فحل عنيف

عبداللطيف مش عبد لطيف

مهمتي الموت والتخويف

والشوم بطاقتي الشخصية

وأنا الخليفة أنا المأمور

وأنا الملاك سيد منصور

نور في الظلام وظلام في النور

يعني مصيبتكم بالمقدور

وادي اللي كان بيقول ما أقدرش

أنزل طابور أنا ما اتمخطرش

راحت عليك أيام العرش

آدي الحكومة الوطنية

 

الأسماء التي وردت في القصيدة كانت حقيقية:

يونس: يونس مرعي

مرجان: مرجان إسحق

عبداللطيف: عبداللطيف رشدي، وهؤلاء هم من اشتركوا في جريمة قتل شهدي عطية الشافعي.

أما سيد منصور، الذي وصفه فؤاد حداد بالملاك، فلم يكن الوصف اعتباطا، بل لأنه كان من الضباط القلائل الذين لم يشاركوا في عمليات التعذيب، وكان يحسن معاملة المعتقلين.

وكتب فؤاد حداد أيضا عن تجربة الاعتقال قائلا:

أربع سنين ودي خمسة الموت على مهلي

ولسه فاكر ومش ناكر علام أهلي

وساكن البرج والتهمة سياسية

مع النبي قلت كل الناس سواسية

صلاح جاهين يترك نافذته في الأهرام لفؤاد حداد

في الأول مارس عام 1962، قدمت صحيفة الأهرام فن الكاريكاتير لأول مرة في تاريخها بقدوم الفنان صلاح جاهين. نشرت الصحيفة في صفحتها الأولى خبرا جاء فيه: “يبدأ الأهرام اليوم محاولة جديدة بالنسبة له، تلك هي الرسم الكاريكاتوري الذي يأخذ دوره على صفحات الأهرام بجانب الخبر والصورة والمقال، وقد انضم إلى أسرة الأهرام رسام الكاريكاتير الذائع الصيت صلاح جاهين”.

حين جاء جاهين إلى الأهرام، كان معظم رفاقه في السجن، وما إن خرجوا عام 1964، حتى انتهز فرصة ذكرى ثورة اليمن، وترك مساحته في الأهرام لصديقه فؤاد حداد يوم 28 سبتمبر 1964 ليكتب فيها قصيدته عن الثورة.

كتب صلاح جاهين في نافذته: “يسعدني في ذكرى ثورة اليمن العظيمة أن أتنحى عن هذا المكان لشاعر عظيم.. ذلك هو فؤاد حداد، رابع رواد الشعر العامي المصري: ابن عروس، والنديم، وبيرم”. وكتب فؤاد حداد في هذه المناسبة قصيدته الشهيرة “الدم واحد”، وفيها يقول:

يا بيوت فقيرة آه يا جيره وسكنْ

أصل الجزيرة في تراثنا وطنْ

وبانادي يا صنعاء في عصر المكنْ

والاشتراكية وعَدْوة مصرْ

والبندقية منجدة للفاسْ

يا بيوت فقيرة ليه هدمتي القصرْ

قالت عشان نبني لكل الناسْ

لدم واحدْ قلبي يعصر عصرْ

لا النيل يجف ولا النخيل ينداسْ

لا بد من يوليه

برغم سنوات الاعتقال، ظل فؤاد حداد مؤمنا بثورة يوليو وانجازاتها حتى وفاته. وفي الذكرى الثالثة عشرة للثورة عام 1965، أفردت مجلة “آخر ساعة” صفحتين كاملتين لقصيدته الملحمية “لابد من يوليه”، التي رسم صورها التعبيرية الفنان زهدي، زميله في المعتقل، بينما أشرف على تحرير المجلة وقتها صلاح حافظ.

استشهاد جمال عبدالناصر

في عام 1983، أصدر فؤاد حداد ديوانه “استشهاد جمال عبدالناصر”، وهي قصيدة رثاء طويلة كتبها على جزأين: الأول بعنوان “مصر وجمال” (نوفمبر 1970)، والثاني بعنوان “لازم تعيش المقاومة” (يناير 1971)، وتزامن صدور الديوان مع ديوان صلاح جاهين “أنغام سبتمبرية”.

كتب جاهين في مقدمته: “هذا العمل يظهر بعد رائعة فؤاد حداد (استشهاد جمال عبدالناصر). فما أخوفني من المقارنة، لأنه أشعر مني وأرحب وأكثر تدفقاَ. ولكني أشطر منه – كما قال لي ذات يوم – لأني أقص قماش الشعر بمقص خياط على المقاس. نبقى خالصين ومرة أخرى نتزامل في نشر مجموعاتنا الشعرية كما نفعل في الأيام العظيمة الماضية”.

رحيل حسن فؤاد

في يوم 26 يوليو 1985، توفي فجأة الفنان الكبير حسن فؤاد، أحد رفاق “حدتو” ومن أهم الفنانين التشكيليين المصريين. كما رائدا في فن إخراج الكتب والإخراج الصحفي وصناعة المجلات. كتب فؤاد حداد قصيدة يرثي فيها صديق عمره وكفاحه، ولم يكن يعلم أنها ستكون آخر ما يكتب، إذ توفي بعدها بأشهر قليلة. القصيدة تناولت دور رفاقه في النضال الوطني، وتعرضهم للسجن، ودورهم في مقاومة الاستعمار وفي مجال الإبداع الفني.

قال فؤاد حداد فيها: “أول الشعر كان إصرار، أول رواية الأرض”، مشيرا إلى ديوان “إصرار” لكمال عبدالحليم، ورواية “الأرض” لعبدالرحمن الشرقاوي. كما جعل وصيفة بطلة رواية “الأرض” تنطق بأبيات قصيدة “إصرار” شحذا لعملية التصدي لقوات الاحتلال في بورسعيد، فقال:

والحارة الجوانية

فيها اجتماع خلية

ومظاهرة والّا عيد

بكرة لقمة هنية

والا النار والحديد

يا معدي المنزلة

وداخل بورسعيد

رافع راية المقاومة

ستة وخمسين نشيد

وصيفة بتغني- “نحن اليوم بركان”

وحبيب البنت ديه راسم علم الشهيد

على صدّر المجلة

وفاة فؤاد حداد

توفي فؤاد حداد في الأول من نوفمبر عام 1985، ولم يلق خبر وفاته الاهتمام اللائق بقيمته من الإعلام الرسمي. مما دعا كاتب بحجم أحمد بهاء الدين أن يكتب: “مات خليفة بيرم التونسي، الذي طور الشعر الشعبي كما لم يطوره أحد. مات أقل شهرة من أي مؤلف أغان، لأنه قضى ما يقرب من ثلث حياته في السجون، ولم يكتب إلا عن قضايا الشعب ولم يغمس قلمه إلا في تراثه”.

وقالت فريدة النقاش: “قبل وفاة فؤاد حداد بثلاثة أعوام، قطعت الإذاعة الفرنسية إرسالها وأعلنت الحداد على الشاعر لويس آراغون.. أما هنا، فقط سقط شاعر عربي عظيم دون رعاية ودون أن يبلغ السنين، هو فؤاد حداد”.

كما كتب صالح مرسي مقالا في مجلة “المصور” مستنكرا: “لو أن شاعرا في مثل قيمة ومكانة فؤاد حداد مات في بلد يعرف قيمة الشعر وتأثيره على الناس، لما حدث هذا الذي حدث من أسبوعين. نشرات الأخبار في التليفزيون والإذاعة قد خلت جميعها وبلا استثناء من خبر من سطر أو سطرين عن وفاة فؤاد حداد المفاجئة”.

مات فؤاد حداد بعد شهور من وفاة الرسام حسن فؤاد، وتلاه بعد أشهر صديقه الشاعر صلاح جاهين، وجميعهم ماتوا قبل الستين، ورغم كثرة إنتاج فؤاد حداد وتنوعه فلم يبحث عن شهره ولم يسع إلى صفوة أو سلطة. وربما ذلك كان سببا لتجاهل وفاته بشكل رسمي، فقد كان يدرك دائما أن الشعر الذي سيبقى هو الشعر الذي يتكئ على الصدق وهذا ما جعل اسمه اليوم حاضرا عصيا على النسيان.

اقرأ أيضا:

معركة قديمة تُبقي «فؤاد حداد» بعيدا عن الأوساط الأكاديمية

أمين حداد في ندوة “البشر والحجر”: هكذا أثرت القاهرة على أشعار فؤاد حداد

أحمد حداد: لا تعاملوني كحفيد لصلاح جاهين وفؤاد حداد

فؤاد حداد وصلاح جاهين: قصائد نثرية في معنى المحبة

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.