فؤاد حداد وصلاح جاهين: قصائد نثرية في معنى المحبة

ارتبط صلاح جاهين وفؤاد حداد ( (1927 – 1985) بعلاقة من نوع خاص. وقد اعترف جاهين في أكثر من موضع بأستاذية فؤاد حداد الذى تحل اليوم ذكرى وفاته، وريادته للشعر العامي. وأبلغ ما دل على ذلك هو النعي الذي نشره صلاح جاهين بعد وفاة حداد، حيث كتب فيه:

«صلاح جاهين ينعى بقلب جريح صديق عمره وأستاذه فقيد الفن والأدب ومصر والعروبة الشاعر الكبير فؤاد حداد». ولم تكن تلك الكلمات البديعة سوى محصلة سنوات طويلة من الصداقة بين الشاعرين الكبيرين.

حنبني السد

في عام 1956 خرج فؤاد حداد من المعتقل وكتب ديوانه الثاني «حنبني السد»، وقام جاهين بتصميم غلاف الديوان الذي صدر عن«دار الفكر» التي أسسها  عام 1955 الشقيقان إبراهيم وكمال عبد الحليم ، وكان الديوان هو الثاني ضمن سلسلة “الفن في المعركة” بينما كان «موال عشان القنال» لصلاح جاهين أول إصدارات السلسلة.

وكتب صلاح جاهين عن فؤاد حداد وقت صدور هذا الديوان في مجلة روزاليوسف في العدد الصادر يوم 22 نوفمبر 1956 في باب «الفن للحياة» مقالا بعنوان «حنبني السد» قائلا:

“اختار الشاعر الشعبي فؤاد حداد هذا الشعار «حنبني السد» عنوانا لمجموعة من قصائده الشعبية الرائعة ظهرت أخيرا، وإذا قيل بأن الكتاب يعرف من عنوانه، فإن هذه المجموعة الشعرية لا بد من أن تعرف طبيعتها من هذا العنوان. إنها مجموعة من القصائد تعبر عن ضمير الشعب المصري ووجهة نظره ومطالبه، وتعكس فرحته الغامرة التي فاقت كل فرحة تعيها الذاكرة”.

ثم يكتب جاهين عن تأثير شعر فؤاد حداد في شخصيته:

“وقد ظهرت له مجموعة من القصائد عام 1952 بعنوان أحرار وراء القضبان كانت سببا في خلق تيار جديد في الشعر عامة وتأثر بها الكثيرون ومنهم كاتب هذه السطور، وأني لأذكر كمْ كانت هذه القصائد تظل تدوي وتدوي في نفسي، إلى أن أمسك بالقلم وأكتب ثم أحمل ما كتبته إلى فؤاد حداد لأتلقى رأيه وانتفع به فأطبقه فيما أقدم عليه بعد ذلك من الإنتاج».

ثم يختتم صلاح جاهين مقاله المطول عن فؤاد حداد قائلا: «كان بودي أن أعرض شخصية فؤاد حداد كلها ليستطيع القراء أن يلحظوا إلى أي حد تطابق حياته فنه، أنه فنان يعيش ويتفاعل مع الأحداث فينتج فنا مرتبطا بالحياة كما ترتبط الشجرة الباسقة بالأرض»

أنغام سبتمبرية

وفي عام 1983 أصدر صلاح جاهين ديوانه الأخير بعنوان «أنغام سبتمبرية» وكانت ذكرى شهر سبتمبر من كل عام تمثل لجاهين ذكرى للحزن الكبير الذي ألمّ به بعد وفاة جمال عبد الناصر، فكتب في هذا الديوان ملحمتين، الأولى هي أنغام سبتمبرية والثانية على اسم مصر، وهي الملحمة التي كتبها في ستة أيام في المستشفى في موسكو أثناء علاجه من الاكتئاب، وتوقفت الملحمة في مرحلتها الأولى عند محمد فريد ولم يستطع التكملة بعد ذلك برغم المحاولات المتكررة.

تزامن صدور ديوان صلاح جاهين هذا بصدور ديوان لصديقه فؤاد حداد بعنوان «استشهاد جمال عبد الناصر». كان الديوان  قصيدة رثاء طويلة كتبها حداد على جزأين الأول بعنوان “مصر وجمال” في نوفمبر 1970 والثاني بعنوان “لازم تعيش المقاومة” في يناير 1971، فكتب جاهين في مقدمة ديوانه أنغام سبتمبرية : «هذا العمل يظهر بعد رائعة فؤاد حداد” استشهاد جمال عبد الناصر. فما أخفوني من المقارنة لأنه أشعر مني وأرحب وأكثر تَدَفُّقًا. ولكني أشطر منه- كما قال لي ذات يوم- لأني أقص قماش الشعر بمقص خياط على المقاس.، نبقى خالصين ومرة أخرى نتزامل في نشر مجموعاتنا الشعرية كما كنا نفعل في الأيام العظيمة الماضية».

أما ما كتبه فؤاد حداد عن صلاح جاهين فهو بحق ملحمة نثرية خالدة في حق صلاح جاهين فقد كتب فؤاد حداد مقالا بعنوان «يا خفيف الظل يا مصر الجميلة» وكانت مناسبة المقال هو صدور كتاب «دواوين صلاح جاهين» والذي يضم أعماله كلها وقد أثنى فؤاد حداد الثناء الذي يليق بشعر جاهين كما لم يكتب أحد من قبل حتى أنه كتب في مقاله «وإن ظنا الواهمون أنها قصيدة من الغزل في شعر صلاح جاهين” فليكن “إنه جدير بها وأتمنى أن تكون جديرة به». وفي ذلك الوقت كان جاهين يعيش في عزلته فلم يترك فؤاد حداد المقال إلا وهو يستحثه على العودة لكتابة الشعر والغناء. ننشر هنا النص الكامل للمقال:

يا خفيف الظل يا مصر الجميلة

«قال ابن سلام أو ابن قتيبة، لا أذكر أيهما، ولم تعد المراجع تحت يدي لتسعفني على التحقيق، قال ابن سلام، فيما أرجح، أن أشعر الشعراء من يستولى عليك شعره ويستحوذ على أقطار نفسك، ما دمت فيه. هذا الكلام بمعناه لا بلفظه.

وقد ضرب عليه مثلا بالطبقة الأولى من فحول الجاهلية. قال إن الأعشى أشعر الشعراء ما دمت ماضيا في إنشاد شعره، فإذا انتقلت إلى امرئ القيس كان هو الأشعر، وكذلك النابغة وزهير بن أبي سلمى. وهذه الطبقة لا تجود بها الأيام في كل جيل من الأجيال ولا في كل عصر من العصور ولا في كل قرن من الزمن.

غلاف الديوان الثاني لفؤاد حداد من تصميم صلاح جاهين

وكان من ألطاف العناية أن جيلنا الذي نعيش فيه لم يخلو من أمثالهم. هذا صلاح جاهين عندما تستمع إلى أغانيه وتحسن الإصغاء إليها وتنفعل وتتحد معها فتنحنى إلى الأرض وأنت تعرق وتغرق عندما ينشد المنشد: “الأرض قالت آه، الفاس بتجرحنى، رديت وأنا محنى، آه منك أنت آه” ، وتطير في الأعالي مَاشِيًا عندما يقول: ‘يا حمام البر سقف’ ، وتتحمس وتشجع وتستبسل وتخوض غمار المعارك وأنت تواكب الفتح الذي استحدثه في الأغاني الوطنية منذ أن صدح بهذه الأغنية إلى أن نظم نشيدنا الوطني “والله زمان يا سلاحي”.

أشعر الشعراء

هذا أشعر الشعراء عندما نقرأ له “كلمة سلام” ونقول معه ‘”بكره أجمل م النهاردا” ، وعندما تطالع رباعياته واحدة بعد الأخرى وتلهث وراءه وكأنه يرأف بك ويرد إليك أنفاسك عندما يختم كل رباعية بلازمة الدهشة المطمئنة والقلق المريح. “عجبي”.

أشعر الشعراء في “تراب دخان” وفي “غنوة برمهات”. وأشعرهم حين يقول “فيك يا حديد روحانية” وأشعر الشعراء عندما يفتتح مسرح العرائس أعماله في مصر ب “الليلة الكبيرة” وعندما تستمع إليها في كل عيد وفي كل موسم من الإذاعة والتليفزيون، وآه لو أسعدك الحظ فاستمعت إليها كلها بصوت ملحنها الشيخ سيد مكاوي.

ولقد أسعدني الحظ فاستمعت إليها كلها بصوت سيد مكاوي منذ سنتين في نقابة الصحفيين والجمهور يردد وراءه ومعه كل مقطع وكل بيت. ينعم بالمشاركة في الأصالة المصرية وفي الوجدان الشعبي الصميم. وقد أحسست حينئذ بالقاعة كلها تعلو وتهبط وكأنها قلب يخفق، وخلجات النفس ترف مفتونة بروعة النغم وبطلاوة الكلمات وحلاوتها. حلاوة لا تنتهي. حلاوة تأخذ بأعقاب بعضها البعض، زاخرة بالوحي، مفعمة بالأنس، وافية، مشبعة ولا يشبع منها الناس أبدا. آه من حلاوة كلمات صلاح جاهين. ما أطيب وما أرق وما أبهى وما أبهج: يا خفيف الظل يا مصر الجميلة.

قصيدة من الغزل

هذا هو النقد الذي أعرف: أن أضع يدي القارئ على مواضع الجمال في الشعر الذي أعرض له. وإن ظنا الواهمون أنها قصيدة من الغزل في شعر صلاح جاهين “فليكن” إنه جدير بها وأتمنى أن تكون جديرة به. وقد جمع صلاح جاهين أخيرا أشعاره التي ظهرت على الورق من قبل في كتاب بعنوان ‘دواوين صلاح جاهين’ يضم ديوانا ‘كلمة سلام وموال عشان القنال وعن القمر والطين والرباعيات وقصاقيص ورق “يضم الثقة والحيرة والرضا والثورة.

فلذات من الأكباد تمشى على الأرض وتجرى على الورق. يعلم صاحبها كما لا يعلم أحد غيره أن الشعر يستطيع التعبير عن كل الأشياء وكل الحالات: الفرح والحزن والضحك والبكاء ومتعة الحياة ورزق الاستشهاد واللحظة العابرة والخلود الباقي وذرة الرمل وقطرة الماء والكون اللانهائي. شعر لا تحده حدود ولا يجرى على وتيرة واحدة. شعر رحب مثل أحضان الأمهات ومثل العين التي تجمع في نظرتها كل نور الدنيا.

وقد يهمس هنا وهناك بهمسة رقيقة، وقد يرن رنين كأس من البلور. وقد يكون وردة أو بلبلا أو غديرا أو ما شئت من هذه الكائنات اللطيفة الناعمة التي يطربنا شدوها وشذاها وانسيابها الهادئ ورقراقة النجوم على صفحاتها. ولكنه دائما أبدا في حقيقته وعمقه شعر عريض الصوت منبسط قوى لا يخاطب فردا أو أفرادا ولكنه يخاطب كل من كانت العربية لسانه.

يا ساكنين الصفيح

وقد جلست إلى «دواوين صلاح جاهين» فتهيأ لي أنني لست بمفردي بل محاط بجمع من الناس يقرأ معى أو بالأحرى يستمع معي، أو نحن القارئين جميعا والمستمعين. في جلسة ترطب القلب فهي صفاء وشفاء، وتجمع الشمل فهي وطن.

يعرف صلاح جاهين مكانه ودوره في الشعر العربي المصري، بدقة الفنان وعلم الخبير، في مقدمة هذا الكتاب فليرجع إليها من يشاء. كذلك يحدد موقفه في وجه العالم وفي الشعر والحياة عامة، بادراك وتواضع ينزفان دما، أجل ينزفان دما، أولا في رباعيته الرائعة التي تقول:

أنا قلبي كان شخشيخه أصبح جرس

جلجلت به صحيوا الخدم والحرس

أنا المهرج.. قمعوا ليه خفوت ليه

لا في إيدى سيف ولا تحت منى فرس

عجبي!

ثم في غنوة برمهات بعد أن ‘يفك زراير صدره، مش بغدده’ ليدق عليه دون ضجة ويستنشق نسمة الحق ويقول:

يا ساكنين الصفيح

أنا مانيش المسيح

علشان أقول طوبى لكم غلبكم

لكنى بالحلف بكم

بالحلف لكم وباقول

الدنيا كدب في كدب وانتو بصحيح.

أجل، أن الشعر قاسي الشعر شاق، الشعر صعب وطويل سلمه كما يقول الحطيئة مستظرفا وجادا. وصلاح جاهين لا يعاود صعود هذا السلم منذ سنوات. وأنا ما كتبت هذا المقال ولا بحت له بما يعرفه من حبي وتقديري إلا ليعاود صعود هذا السلم. إن مصر تريد من صلاح جاهين أن يعود إلى الغناء. إن مصر لا تتوسل إليه بل تأمره. وإن صلاح جاهين عائد إلى الغناء -بإذن الله-. فهذا الغناء أمانة لا بد من أن يحملها وهذا الغناء حياة».

اقرأ أيضا:

المسحراتي21| أشعار فؤاد حداد.. لازم أصحّي الحي

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر