شجون الذكريات في المهرجان القومي للمسرح: في محبة جيل الثمانينات!

للمهرجان القومي للمسرح هذا العام حضور مختلف. برغم أن هذه هي الدورة الخامسة عشرة للمهرجان، ولكنه بدا، للكثيرين من متابعيه، كما لو كان يشهد ميلادا جديدا، أو خطوة كبيرة في مسيرته.

حضور جماهيري كثيف، معظم العروض نالت إعجاب معظم المشاهدين، ونشرة يومية متميزة، وندوات مليئة بالحيوية وصفحة على الإنترنت تنقل الفعاليات بمنتهى النشاط والتكريم لعدد من أهم مخرجي المسرح المصري في العقود الثلاث أو الأربعة الماضية: مراد منير، عصام السيد، فادي فوكيه، أحمد إسماعيل وناصر عبدالمنعم، بجانب الممثلين المحبوبين عايدة فهمي وصبري عبدالمنعم، وتكريم اسمي الراحلين أمينة رزق وعبدالرحيم الزرقاني.

**

ربما تكون التكريمات زائدة، كالعادة في مهرجاناتنا. ولست أعلم كيف لم يكرم المهرجان أي اسم من هؤلاء من قبل، وكيف سيجد أسماء بالحجم نفسه خلال الدورات القادمة؟

بالنسبة لي فإن أبرز ما في هذه الدورة هو إحيائها لفترة من أثرى وأفضل فترات المسرح المصري خلال نهاية الثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. ولعلها آخر عصر ذهبي شهده المسرح المصري. قبل أن يغرق وسط طوفان الوسائط التكنولوجية الحديثة ويختنق في أجواء ملبدة بالإحباط والـ”ميديوكرسي”.

أعادت دورة المهرجان القومي للمسرح هذا العام إلى ذاكرتي تلك الأيام التي كنا نجري فيها من مسرح إلى آخر. ولا أنسى أن أول مسرحية شاهدتها في حياتي كانت “الملك هو الملك” من بطولة محمد منير. وإخراج مراد منير. على مسرح السلام بشارع القصر العيني. ثم عرض “الذباب الأزرق” المأخوذ عن نجيب سرور في قاعة الغد برمسيس. وكنت لم أزل طالبا لم أعمل بعد بالصحافة.

**

كانت الثمانينات آخر فترة مزدهرة في تاريخ المسرح الجامعي. قبل أن تنشب الجماعات المتطرفة أنيابها وأسنانها في عنق الثقافة المصرية، وتلون الجامعات والمدارس وعقول الأجيال التالية بالسواد والتخلف.

وخلال الثمانينات تخرج في الجامعات المصرية جيل جديد من المسرحيين، ممثلين ومؤلفين ومخرجين. قدر لهم أن يتلقفوا شعلة هذا المسرح من جيل الستينيات. وأن يضيئوا قاعات المسرح بأعمال وإبداعات عظيمة. من هؤلاء الأربعة المكرمين في المهرجان القومي للمسرح: فادي فوكيه وعصام السيد وناصر عبدالمنعم وأحمد إسماعيل. وقد شاهدت خلال النصف الأول من التسعينات (وكنت قد بدأت العمل بالصحافة) الكثير من أعمال هؤلاء المبدعين على مسارح الدولة أو القطاع الخاص. منها على سبيل المثال لا الحصر “داير داير” لفرقة الورشة. “الطوق والأسورة” لناصر عبدالمنعم. “أهلا يا بكوات” لعصام السيد، وغيرها.

وقد شهدت ندوات المهرجان الكثير من الذكريات المهمة جدا عن هذه الفترة. أتمنى من رئيس المهرجان يوسف إسماعيل أن يقوم بجمعها في كتاب يصدر العام القادم. أو يكلف أحدا بالاستماع إليها واستكمالها وإعداد كتاب يوثق هذه الفترة التاريخية المضيئة من حياتنا الفنية، تعيد لهذا الجيل المظلوم اعتباره.

**

في ندواتهم حكا عصام السيد وناصر عبدالمنعم وأحمد إسماعيل وبعض زملائهم من الحاضرين عن المسرح المدرسي والثقافة الجماهيرية (التي أصبحت قصور الثقافة) ودورهما في تربية التذوق الفني وحب الفن.

وإضافة صغيرة لبعض ما ذكروه أقول أنني شخصيا تعرفت على الفن ومارسته في المدرسة الابتدائية الحكومية بحي المنيرة من خلال التمثيل في إحدى المسرحيات المدرسية. وقد قمنا بعرض هذه المسرحية في أحد مسارح الثقافة الجماهيرية (قصر ثقافة الطفل بجاردن سيتي حاليا). وقد روى ناصر عبد المنعم وبقية المكرمين ذكريات مشابهة عن دخولهم مجال المسرح والفن بفضل النشاط المدرسي، أيام كان يوجد نشاط فني ومدارس!

في ندواتهم حكا المكرمون أيضا عن سنواتهم الجامعية وأسماء آخر جيل من أساتذة الجامعة الكبار، قبل أن تحل أجيال جديدة من الأساتذة الذين يخبرون تلاميذهم في أول محاضرة بأن الفن حرام والفلسفة حرام وعلم النفس حرام وأن نظرية دارون عن النشوء والارتقاء كفر وأن صور الصعود للقمر والمجرات “فوتوشوب”!

**

هؤلاء المكرمون في المهرجان القومي للمسرح ليسوا أفرادا، بالرغم من تميزهم واستثنائهم كأفراد مبدعين، ولكنهم ثمار ونتاج مناخ صحي كان يفيض بالأمل والحب والرغبة المخلصة في تكريس الحياة من أجل الوطن والثقافة والفن.

شيء أخير تؤكده كلمات المكرمين، هو الدور الكبير الذي لعبه مهرجان المسرح التجريبي الدولي، الذي أسسه وتحمس له وزير الثقافة السابق فاروق حسني، في نهضة المسرح المصري خلال التسعينات، ورغم كل ما قيل، ويقال إلى الآن، عن سلبيات هذا المهرجان، إلا أن تأثيره وإيجابياته لا يمكن تجاهلها.

وهذا التأكيد لا يقصد به فاروق حسني شخصيا، ولكن هو وشباب المسرحيين آنذاك مثل عصام السيد وناصر عبدالمنعم وحسن الجريتلي والراحل محسن حلمي وعشرات ومئات المثقفين الذين حملوا شعلة المسرح ورايته.

اقرأ أيضا

خطوة للأمام.. ولكن: «وش وضهر» الاهتمام بذوي الهمم!

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر