شارع النبي دانيال بالإسكندرية.. هنا محراب القُرّاء وعشاق الكتب

شارع النبي دانيال، واحد من أشهر الأماكن المشهورة في الثغر، الذي يظهر في أوله معبد “إلياهوهانبي”  أقدم و أشهر معابد اليهود بالإسكندرية، وفي وسطه الكنيسة المرقصية أقدم كنيسة في مصر وأفريقيا، وفي آخره مسجد النبي دانيال، للعارف بالله الشيخ محمد دانيال الموصلي، وسط هذا التنوع اختار عم حسين مقره ليبيع الكتب المستعملة.

على آخر ما يلمحه بصرك، ترى الأكشاك متراصة، والكتب أيضًا، الأكشاك معبأة بالكتب المختلفة، والكتب تتنوع بين المراجع الأجنبية إلى المجلات إلى الروايات إلى كتب الأطفال، إلى إلى إلى، تنوع لا نهاية له، واجتماع كاجتماع “الشامي على المغربي” بشكل أنيق.

كتب في شارع النبي دانيال

وسط هذا الزخم “الجميل” قد تجد ضالتك في كتاب فلسفة- مثلًا- يقبع جنبًا إلى جنب مع قصة أطفال، تقبع هي الأخرى بجانب رواية تاريخية، وفي جوانب أخرى كتب الهندسة والعمارة، والدين والفقه والتاريخ…، تصنيفات لا تنتهي، تتلاحم كموج المتوسط، ربما هو ما يشبع عشاق القراءة على اختلاف توجهاتهم وأعمارهم وطبقاتهم.

عم حسين محمد، هو أقدم بائع كتب مستعملة في لذلك الشارع العتيق، بدأ مزاولة هذا النشاط عام 1959، على غرار بائعي الكتب القديمة في سور الأزبكية بالقاهرة.

“56 عاملتها ما كنش معاية شُركاء، غير ربنا رغم إني كنت محو أمية، الحاجة ديه أنا حبتها و كنت لامؤخذة فارش على الرصيف لا كان في مدرجات و لا بكيات ولا أي حاجة، وكانت الناس في الأول بتتريق علي إيه اللي حاطط كتب قديمة وبيبعها ده”.

الجيل الأول لبائعي الكتب في النبي دانيال

عندما تسأل أصحاب باكيات الكتب المستعملة المتراصة بجوار بعضهما في شارع النبي دانيال، والتي يصل عددها إلى أكثر من 40 كشك، عن أصل المهنة هذه في الإسكندراية و خاصة في هذا الشارع الذين توارثوها جيلًا بعد جيل، كل الأصابع تشير إلى باكية الحج حسين “عندك بعد القهوة عالطول حتلاقي اسمه مكتوب أعلى فرشته وهو أصل المهنة هنا”.

والحاج حسين هو رجل في العقد الثامن من عمره، يجلس على كرسي خشبي، بجوار “باكية” حولها فرش من مختلف أنواع الكتب القديمة والمستعملة والمجلات، نظرته وخطوط وجهة وابتسامته تروي كفاح عمر في مهنة أحبها فأحبته.

“رغم إني محو أمية لكن اتعلمت اتعرف على اللغات والكتب كلها بالخبرة، أومال، ده أول كلمة قالها القرآن اقرأ، كمان زبايني من المثقفين والمسؤولين لحد الطالبة والتلاميذ” هكذا يروي عم حسين.

5 محافظين

يتابع أنه عاصر في حياته حتى الآن خمس محافظين، مروا على الإسكندرية منهم من قدم له يد العون، ومنهم من حاولوا عرقلة حلمه، فقد ناضل ليصبح هذا الشارع به سوق للبيع الكتب القديمة على غرار سور الأزبكية، على حد تعبيره.

عم حسين معبأ بحب الثغر، مفتون بعروس المتوسط، فهو يرى أن الإسكندرية هي باريس مصر ومصدر الإلهام والثقافة للعالم، إذ إنها عاصمة مصر في العصر اليوناني وبداية تجميع الكتب كان في الإسكندرية، في مكتبتها الخالدة.

في عهدَي الجوسقي واللواء المحجوب عندما تقلدا منصب المحافظ، قدما لي العون، لكن في الخمس سنوات الماضية، فقد مررت أنا وباعة الكتب بأكثر من أزمة، بخصوص أكشاك الكتب، مؤخرًا اضطررنا لببناء مدرجات الكتب الخاصة بنا على نفقاتنا الشخصية، دون تدخل المحافظة أو الدولة لمساعدتنا.

قرار المحافظ

يذكر أنه في 7 سبتمبرعام 2012 جاء قرار محافظ الإسكندرية وقتها المستشار محمد عطا عباس بهدم الأكشاك الخشبية في سوق الكتب المستعملة في شارع النبي دانيال، ما أحدث أزمة بين بائعي الكتب والمحافظة، وأثار الشارع السكندري وكثير من المثقفين والنشطاء في ذلك الوقت.

وأحدث القرار خسائر مادية لأصحاب الاكشاك، كما تعرض 16 كشك للإزالة، ونتيجة لحملات الرفض أنقذت باقي الأكشاك، التي أظهر أصحابها أن لديهم تصريح ببناء 48 كشك من المحافظة في فترة تولي عادل لبيب محافظ للإسكندرية قبيل ثورة يناير، نفس الأمر تجدد عام 2015 لكن في أكشاك ميدان ترام محطة الرمل في فترة تولي هاني المسيري.

فيديوهات توثق أزمة البائعين في 2012:

“أنا عايز منطقة شعبية أبيع للناس الغلابة مش عايز أبيع كتاب بـ30 ولا 40 جنيه، كله بيجي بياخد مني الفقير والغني والله حتى إاللي معهوش بياخد” هكذا يعبر عم حسين، فهو يجد في شارع النبي دانيال الثقافة والعمق التاريخي من جانب والبساطة والتنوع من جانب آخر، كما أن مهنته تلك، كما يصفها هي أكرم وأمتع مهنة، فهي التي جعلته يحظى باحترام الجميع المثقفين والمسؤولين على حد قوله، بجانب أنه يشارك في الكثير من المعارض الدوليه.

ويشير إلى أن التطور لم يؤثر على الكتاب الورقي “الكتاب هو الكتاب مهما حصل وليه زبونه، والإنترنت ده شوية تراب زي، الفرق بين الكتب والإنترنت زي الفرق ما بين أغاني أم كلثوم وشوية الدوشة إللي بنسمعها دلوقتي بيطير عالطول  زي التراب”.

الجيل الثاني ومواكبة ظروف السوق

“الموضوع ابتدا بالناس الكبيرة. اللي هم أباهتنا الحاج ذكي.. وأبوالحمد والحاج- عليهما رحمة الله.. والحاج حسين- ربنا يديه الصحة.. بعدين إحنا جينا ولادهم اشتغلنا نفس المهنة وتوارثناها.. وخلينا نتكلموا بصراحة مش حب للمهنة بس أنا لو والدي ظابط كنت طلعت ظابط.. ولو دكتور كنت طلعت دكتور والدي بتاع كتب بقيت بتاع كتب.. لكن اللي بيشتغل المهنة ديه بيعشقها مش بيقدر يسبها”.. هكذا يقول محمد أبو الحمد، عن أسباب عمله في هذه المهنة.

بفخر يطلق مجدي بخيت، من الجيل الثاني لبائعي الكتب، على نفسه شيخ الحارة- إشارة إلى كتاب تراثي للكتاب محمد تيمور- كما أطلق من حوله عليه هذا الاسم لأنه يعرف الكثير من الكتب التي يريدها الزبائن، ويدلهم عليها لذلك يقصده طلبة الجامعة والباحثين عن كتاب بعينه حتى يرحمهم أحيانا من عناء البحث.

تغير أسعار الكتب

و مع مرور السنون وتغير العصر.. تغيرت أسعار الكتب التي كانت تتراوح في منتصف القرن الماضي من مليم وعشرة قروش، مرورا بزيادتها إلى 10 جنيهات وثلاثين جنيهًا.. أما الآن قد تصل أسعار بعض الكتب والمراجع، خاصة الأجنبية، إلى مئات الجنيهات.

يتذكر أبوحمزة، أحد بائعي الكتب، ثلاثين عامًا مرت عليه في هذا المكان “إحنا كنا بنبيع الكتاب بـ10 و20 جنيهًا.. دلوقتي بقت تراث بتصل لـ50 جنيهًا وأكتر.. غير أن عشان الدروس الخصوصية انتشرت.. فبقينا نبيع كتب خارجيه كتير مستعملة عشان المدرسين بيحتاجوها في الصيف عشان الدروس”.

كما يصف مدى حبه لهذه المهنة رغم استطاعته العمل بمهن أخرى.. إلا أنه يعشق هذه المهنة، االتي جعلته يقابل كبار المثقفين والفنانين والمخرجين. الذين كانوا يأتون إليه ليصنعوا مكتبة  للمسلسلاتهم وأفلامهم التاريخية.. يتذكر منهم الفنان الراحل نور الشريف، ووحيد سيف وأحمد شوبير.. مستكملا “كل أسبوع بيجي هنا الفنان فاروق فلاوكس يشتري كتب ومسرحيات”.

صفحة "فيسبوك" التي أنشأها بعض بائعي الكتب المستعملة في الشارع
صفحة “فيسبوك” التي أنشأها بعض بائعي الكتب المستعملة في الشارع

وفي محاولة مواكبة تتطورات السوق للجيل الثاني.. يضيف أبوحمزة فيما يتعلق بدخول التكنولوجيا والإنترنت أنها أثرت على حركة البيع والشراء.. خاصة أن كثيرًا من المراجع توجد على الإنترنت رغم أن مدمني القراءة يفضلون الكتب.. إلا أن هناك من الشباب من أصحاب الأكشاك من أنشأوا صفحات على “فيس بوك”.. لعرض الكتب والترويج لها تماشيا مع العصر.. ورغم ذلك يرى أن الكتاب لن ينته، فهو مطمئن على المهنة رغم التتطور.

الجيل الثالث واختيار ما يواكب العصر  

مؤمن عواد، طالب جامعي، توارث المهنة من والده، يقف في الكشك بين مجموعة روايات حديثة.. وعدد قليل من الكتب القديمة والمجلات والكتب المدرسية.. فهو عمل في أكثر من مهنة منها الصحافة.. لكن لم يجد مهنة تناسبه وتحقق له راتبًا شهريًا يرضيه مثل التي يحصل عليه من بيع الكتب والروايات.. بحسب قوله “لازم نشتغل في اللي ماشي ونستخدم التكنولوجيا غير إني بحب القرايه و بحب المهنة ديه”.

المهنة لا توجد في مصر فقط لكنها انطلق منها.. أما انتشارها فموجودة في دول عربية كثيرة.. منها اليمن وسوريا والجزائر وتونس والعراق.. لكن القاسم المشترك بين العاملين بتلك المهنة، هو أنهم جميعًا بولع وعشق القراءة، عاجلًا أو آجلًا.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر