سعيد رفيع والرشندي الذي تحول إلى سمكة

لم يحظ عالم الساحل الشرقي باهتمام المبدعين كما هو الحال مع عالم الساحل الشمالي، ولو بحثنا عن صورة الإسكندرية أو علاقتها بالأدب لعثرنا على مجلدات لا حصر لها، بخلاف البحث عن صورة الغردقة، وبدو الصحراء الشرقية.

من هنا تأتي أهمية تجربة سعيد رفيع لأنها تدور حول هذا العالم البكر، وتتناول الحياة البدائية للصيادين وغيرهم من سكان الصحراء، وتقدم أجواءها الغرائبية، وكائناتها الغيبية. وهو يحرص كثيرا على ذكر الملامح الجغرافية للمكان كما هو الحال مع جزر شدوان والجفتون وصنافير وتيران و الفنادير وجوبال، وغيرها من العلامات الجغرافية التي تحيلنا إلى المكان.

**

قدم سعيد رفيع عددا من الكتب التي توزعت بين القصص القصيرة والرواية، والمقالات. وصدرت له ثلاث مجموعات قصصية هي: نزوة تمرد، سنة 1998، البربوني يتجه شرقا، سنة 2005، العودة إلى جوبال، سنة 2006. وله روايتان هما: شتاء حار، سنة 2010، النجوم تغضب أحيانا، سنة 2018. وله كتاب عبارة عن مجموعة مقالات ينتمي إلى الأدب الساخر بعنوان “أفيدونا عن الجمل” صدر سنة 2007.

يتميز سعيد رفيع بلغة بسيطة ورشيقة، ويتمتع بخيال جامح لكن بلا إبهام أو غموض. ويحتفي بالموروث الشعبي لبدو الصحراء الشرقية، ويبني عوالمه من تفاصيل حياتهم. الأمر الذي يمنح تجربته طابعها الريادي في استكناه ذلك العالم، والذي لا يزال بحاجة إلى كتابات كثيرة.

في قصته “البربوني يتجه شرقا” يعتمد الكاتب على القدرة السحرية للبشر على التحول إلى كائنات حيوانية وهي قدرة موجودة في التراث الإنساني بأشكال كثيرة، وتظهر منذ فجر التاريخ. حيث نراها في النقوش المصرية القديمة. وفي حكايات القدماء. كما هو الحال مع حكاية الرجل الذي تَحوَّل إلى عجل أبيس لينتقم من زوجة أخيه، وغيرها من الأشكال التي لا حصر لها، والمنتشرة في ثقافات مختلفة.

غلاف
غلاف
**

لقد ارتبطت حكايات التحول من الهيئة الإنسانية إلى الهيئة الحيوانية في التراث الإنساني بأفكار ومعتقدات مختلفة. كما هو الحال في المعتقدات الطوطمية. أو في عقيدة تناسخ الأرواح. وقد اعتمدت تلك الأفكار على الطاقة الرمزية للحيوان، وطبيعة حضورها في حياة المتحولين، وغيرها من الأمور التي يجب وضعها في الحسبان ونحن نحاول فهم الدلالات الخاصة بكل حالة من حالات التحول.

تطرح  الحكاية عالم “الرشندية”. وهي قبيلة نزحت من البادية إلى الغردقة، ليعمل أغلب أبنائها في مهنة صيد سمك البربوني. وهكذا امتلكوا الساحل، وورثوا طبيعته منذ ظهورها في الأزمنة البعيدة. حتى ظهرت المتغيرات الحديثة فجأة، واختفى الشاطئ تماما أمام انتشار المنشآت السياحية الجديدة.

لقد تعرضت قبيلة “الرشندية” إلى صدمة حضارية. وبحكم القدرة الإنسانية على التكيف انتقلت من الحياة البدائية إلى الحياة الحديثة، وتفاعلت مع المتغيرات. لكن القدرة على التفاعل مع المتغيرات ظلت متفاوتة بين أبناء القبيلة، فالأصغر سنَّا كانوا الأقدر على تجاوز الصدمة. بينما الأكبر سنا سقطوا في أزمة عنيفة، وكان حرمانهم من الشاطئ معادلا لحرمانهم من الحياة.

**

ينتمي “الرشندي” بطل القصة إلى القسم الثاني، القسم الذي التصقت روحه بالشاطئ التصاقا لا يحتمل الفصل. وقد  سكت الكاتب عن ذكر اسمه، ليصبح نموذجا لقطاع من القبيلة. ذلك القطاع الذي تحول إلى جزء من الطبيعة والعالم البدائي الذي ولد واشتد عوده فيه.

عاش الرشندي حياته، مقيما في عشة من البوص تقع في مواجهة صخرة مرجانية يفصلها عن الشاطئ ممر مائي صغير. وكان الممر محور حياته ومصدر رزقه الوفير.

في شهر يونيو من كل عام، كانت تأتي أسراب سمك البربوني طائعة. وتدخل ذلك الممر الذي صنعته الصخرة المرجانية الكبيرة. فيقوم رجال قبيلة الرشندية بغلق الممر بشباكهم وصيد الأسراب بسهولة.

يستمر تدفق الأسماك في هذا الممر حتى نهاية شهر أغسطس. وعلى مدار ثلاثة أشهر كاملة يدخر رجال “الرشندية” مبلغا كبيرا من بيع البربوني. وفي نهاية الموسم تكون البراميل الخشبية ممتلئة بفسيخ البربوني، الذي يعيشون من بيعه بقية العام.

**

بخلاف أوقات الصيد أو بيع السمك أو تمليحه وحفظه في البراميل الخشبية، كان “الرشندي” يعيش حياة شاعرية. حيث يقضي أحلى ساعاته جالسا في عشته، يرتق الشباك، وينظفها من بقايا قناديل البحر وأعشاب القيصار. ثم يتوسد الشباك ويتمدد، وهو ينصت إلى صوت الأمواج. حيث تتملكه في الغالب أغفاءة قصيرة، يستيقظ منها عندما تشتد حركة الأمواج، فتثير رذاذا منعشا، يتطاير في الهواء و يحط على وجهه. أو يستيقظ عندما تقترب الكابوريا لتناوش أصابع قدميه، فيلقي عليها حفنة من الرمل، وينظر إليها وهي  تجري صوب البحر أو صوب جحورها.

فجأة تم طرد الرشندي من الشاطئ. وقاموا بتفجير الصخرة المرجانية واقتلاعها من جذورها، وردم جزء من البحر، وإنشاء شاطئ جديد، وبناء قرية سياحية كبيرة. وهكذا تحول مكان “العشة” إلى رجال ونساء بلباس البحر، وأرائك ومقاعد من الخيزران، وقوارب ودراجات مائية ويخوت من مختلف الأحجام والألوان، وكتل خرسانية تفصل الرشندي عن البحر.

كلما تحرك الرشندي بعشته ليبصر الشاطئ وينتظر أسماك البربوني ظهرت كتلة خرسانية جديدة. هكذا حتى اختفى البحر وهاجرت أسماك البربوني.

**

من أجل رؤية البحر فقط، كثيرا ما كان الرشندي يحاول اختراق القرية السياحية التي تقع في مواجهة الممر. وكان أفراد الأمن  يمنعونه، ويجذبونه من ثيابه ويبعدونه عن المكان.

في إحدى المرات نجح في التسلل الى القرية السياحية. وسرعان ما لحق به  أفراد الأمن بملابسهم الزرقاء. وعندما وقعت عيناه على شابين من أفراد الأمن ذوي القمصان الزرقاء يسيران حثيثا في اتجاهه، سرت رجفة خفيفة في جسده، وتبع الرجفة تنميل في فروة رأسه. وأمتد التنميل ليغزو جلده كله. وعندما حاول أن يهرش، بوغت بخشونه مفاجئة في الجلد. إذ انبلجت من بين ثناياه قشور وردية رقيقة. وانتشرت القشور سريعا حتى غطت جسده بالكامل. ثم شعر برأسه يتبطط، وبعينيه تنتقلان من مقدمة رأسه الى جانبيها. وأخيرا صكت أذنيه طرقعة استحالت قدماه على إثرها ذيلا كبيرا، وأنشق جسمه عن زعنفة بطول ظهره، وتحول إلى سمكة بربوني ضخمة، وغطس في الماء.

يعبَّر التحول السحري الذي يتم وصفه بمهارة عن مشهد يبدو سحريا وهو تحول الشاطئ إلى بنايات ومنشآت سياحية في غضون فترة قصيرة. كما يعبر عن حالة من حالات العجز عن التكيف مع الحياة الجديدة، والتعلق الوجداني العميق بالحياة البدائية البسيطة. كما يعبر عن الطاقة الرمزية للبربوني. ويبدو التحول هنا كنوع من الهجرة اقتداء بهجرة البربوني.

هكذا تنضم القصة إلى بقية أعمال سعيد رفيع لترسم لنا صورة لعالم الساحل الشرقي شبه المجهول. صورة تمتلئ بتفاصيل كثيرة  من حياة البدو والصيادين على المستوى المادي والروحي. صورة ترفع وعينا بالمكان وتزيده عمقا. ولا نشبع ونحن نتابعها عبر لغة بسيطة، وسرد سلس وثري بعجائبه وغرائبه.

اقرأ أيضا

«الست الشلق»: الزوجة المثالية وحكمة البذاءة

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر