«الست الشلق»: الزوجة المثالية وحكمة البذاءة

ترتبط الست الشلق وفق النظرة الشائعة بالقبح، ومجرد ذكرها يعني استدعاء قاموس الشتائم والبذاءات والحركات الفاحشة. وتلك النظرة تجعلنا نأخذ موقفا مسبقا من “التشليق” باعتباره سلوكا مُستهجنا أو مرفوضا.

الموقف المسبق من المرأة “الشلق” ينطوي على ظلم، لأنه يقوم على فهم قاصر، ويتجاهل الواقع، فالتشليق له دلالات مختلفة يجب وضعها في الحسبان، وله سياق لابد من مراعاته و فهمه، قبل أن نصدر حكمنا.

الست الشلق في الثقافة الشعبية هي النموذج المثالي للمرأة. وهو ما يظهر في المثل الشعبي الذي يقول: “كُلْ من الفجل الورق، واشرب من اللحم المرّقْ، والْبس من الثياب الخَلق، وخُذْ من النسوان الشَّلق”{1}

**

في معجمه الخاص بالألفاظ العامية يذكر أحمد تيمور ذلك المثل الشعبي، الذي يلخص خبرة الأيام في مواصفات الزوجة  الجيدة، لكنه يفسر كلمة الشلق بأنها تعني المرأة الطويلة فقط. ونحن لا نستطيع استبعاد دلالة الكلمة بمعناها المعروف والمشهور والأكثر رسوخا واستمرارا في حياتنا الشعبية.

لقد تم استبعاد دلالة الراسخة عن المرأة النموذجية بسبب تصورنا للتشليق باعتباره سلوكا قبيحا. وهذا التصور دخيل على الثقافة الشعبية، أو يأتي من ذهنٍ مثقف ينظر من موقع آخر، ويأخذ موقفا من التشليق باعتباره علامة على طبقة أدنى. وهذا التصور لا يتطابق مع تصور الجماعة الشعبية التي حافظت على التشليق على مدار قرون طويلة، ولم تعتبره سلوكا قبيحا، بل حقا من حقوق الذات في الدفاع عن نفسها.

**

يبقى ارتباط التشليق بالمرأة الطويلة ـ في حد ذاته ـ علامةً على اتساع نطاق الكلمة ليشمل الطرف النقيض لمَعْناها الشائع. وهو ما يتأكد من خلال استخدام آخر يضعها في إطار الحزم والتقييد في مقابل ارتباطها الشائع بالشتائم المنفلتة، على نحو ما نجده في أحد مقاطع شعرنا الشعبي الذي يقول:

رأيِت حريفي بفرقلة يسوق تيران

لو كرّ أصفر على راسه كما اللبسان

يا ريتني كنت لو حدوة من الحدوان

أو كان لي شلق فوق راسي من الكتان {2}

ترد كلمة “الشلق” في السطر الأخير كغطاء من الكتان يوضع فوق الرأس. ومن أجل استيعابها جيدا يجب النظر إلى الأبيات بشكل متكامل.

نحن أمام مقطوعة تتغزل في المحبوب، وتصفه وهو يقود الثيران في الحقل. يقول الشاعر: “رأيِت حريفي” أي رأيْت محبوبي أو صديقي أو صاحبي. والشخص يقول يا فلان تعال حرفني أو لاقشني أو هارشني أو حارفيني يا مليحة.

تواصل المقطوعة وصف المحبوب. فتقول: “لوُ كر”، أي: له كر، والكر هو ما يُلَفُّ على الرأس من الكتان والقطن وغيره، وهو هنا أصفر اللون مثل نوار اللبسان. وهو نبات يطلع بين البرسيم.

**

الشاعر الذي يرفع محبوبه إلى أعلى مكانة ممكنة، نجده يتمنى أن يكون (حدوة) لمحبوبه، والحدوة جلدةٌ تُعْمل على قدر القدم، لها خيوط من الجلد تمسكها، ويستعملها الحراثون وغيرهم لدفع المشقة عن القدم. وقد كان من عادة الفلاح أنه لا يسرح ولا يروح إلا والحدوة خلف قفاه، مربوطة بحبل في نبوته، وهكذا تمنى الشاعر أن يكون مع محبوبه في كل مكان.

وأخيرا يتمنى أن يكون المحبوب شلقا من الكتان فوق رأسه. والشلق يطلق على قطعة حبل من الليف أو الكتان، توضع فوق الرأس لأجل ما يعصب بها الفلاح رأسه إذا اشتد ألم الصداع. ومن عادة الفلاحين أنهم يلفوا على رؤوسهم الحبال إذا كانوا في شغل فيجعلوها مقام الكر ويربطوا بها رؤوسهم ويحفظون بها طواقيهم لئلا تقع من على رؤوسهم.

الشلق هنا يرتبط بالحزم والربط. وتخفيف آلام الرأس. وتستوقفنا الفرقلة هنا باعتبارها رمزا من رموز الخصوبة، لأنها تُستخدم في قيادة الثيران، والمثل الشعبي يربطها بالمرأة سليطة اللسان. فنقول “لسانها زي الفرقلة”.

الفرقلة: في الأصل أداة من الحبال تلعب بها الخلابيص في السامر. وكان اسمها في الأصل فرقيعة، والذي صنعها صار يضرب بها الناس ويفرقع. فكل من رآه يضرب آخر يقول فرقع له. فحذفوا العين المهملة من آخر الفعل وأضافوا اللام وهاء الضمير إلى بقيته وأقاموا الضمير المذكور مقام هاء التأنيث وجعلوا مجموع ذلك علما على هذه الحبال المفتولة وقالوا فرقلة.

اجتماع “الشلْق” مع “الفرقلة” يقدم لنا مفهوما معقدا يجتمع فيه كمال المرأة، مع خصوبة الأرض، وتتوحد من خلاله الشتائم الشريرة مع السيطرة على الثيران وقيادتها في طريق الخير. ويتداخل فيه الجد مع لعب الخلابيص، والانفلات العشوائي مع الربط والحزم، ووجع الرأس مع علاجه من الصداع في نفس الوقت.

**

كل هذه الدلالات تفرض علينا التوقف أمام “التشليق” باعتباره ظاهرة معقدة. أو باعتباره مفهوما يدل على عملية اجتماعية لم تظهر من فراغ، ولم تستمر على مدار القرون بدون هدف، أو فائدة.

التشليق نبتٌ شعبي أصيل، يحتوي على حكمة عميقة، وليس زبدا لعقلية حمقاء كما يبدو للذهن المتعجل. الذهنِ البليد الذي يتوقف عند عنف الشتائم ولا يتقدم خطوة ليضع الشتائم في إطار مشكلة العنف بشكل عام، أو في حدود الآفاق المتاحة للجماعة الشعبية كي تدبر أمورها، وتحل أزماتها.

في اجتماع الحكمة بالبذاءة تناقض. هذا ما يبدو لنا وجيها. لأن الحكيم لا يكون بذيئا في تصورنا. لكننا لا نشعر بتناقض الحكمة مع صورِ العنف الشديد. يمكننا أن نعثر على الحكمة في السجن، أو في الجَلْد، أو في المشنقة، أو في تفجير قنبلة نووية، وعلينا أن نبحث عنها في انفجار حنجرة بالشتائم.

الهوامش:

1ـ  أحمد تيمور، معجم تيمور الكبير في الألفاظ العامية،  تحقيق دكتور حسين نصار، دار الكتب والوثائق القومية، الطبعة الثانية 1423 هـ /2022 م.

2ـ راجع، يوسف الشربيني، هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف، المطبعة الأميرية ببولاق، الطبعة الثانية 1308 هـ. وقد اعتمدت على الكتاب في شرح المفردات الواردة في المقطع الشعري.

اقرأ أيضا

الجذور السحرية لـ«الست الشلق»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر