سان ستيفانو في ذمة الأثر

منذ بداية التسعينات، لم يفر من ذاكرتي بعد، مشهد الفنانة القديرة “سلوى رشاد”، مائلة بالكاميرا على الأفريز الحجري للحائط العريض والشاهق الذي يطل على ترام الرمل (محطة سان ستيفانو). تلتقط اللحظات الأخيرة لهدم فندق وكازينو سان ستفانو والذي يلوح عن كثب. وكأنها تكتب بالصورة عن ذكريات، تعلن عن موت مؤكد لسعادة فارقتنا دون رجاء في أن تتكرر.

أنئذٍ، سادت عقيدة التخريب، فطالت علامات شامخة أخرى. لتحل مكانها بنايات هائلة وضخمة أخرى تتميز قبحا، وتردي للعمارة فصارت أشبه بأحراش الأسمنت، ومأوى للأشباح.

وظل فندق سان ستيفانو (سابقا) الذي احتل مساحة واسعة بإطلالة على البحر وأخرى على الترام. مجرد طيف عابر، بناية تتفرد بالبساطة والرونق، تحررت من الزخارف والنقوش التي وسمت البنايات العريقة. مقابلة لمحطة ترام سان ستفانو وكافيتريا “فيليب” التي هي أشبه بكوخ كائن برصيف المحطة. تلك الكافيتريا التي امتلكها “عم عثمان النوبي” وعائلته، تعرض المشروبات الساخنة والغازية وبعض الحلوى، زبائنها من أصحاب المعاشات دوما.

تطوق بناية الكازينو حديقة رحبة، اتسعت لأحواض العشب اليانع والورود الندية والأشجار كثيفة الأغصان والباسقة في آن، تقطع الحديقة ممرات الأسفلت الأملس للعابرين. يتصدر الكازينو صالة فسيحة اصطفت بها موائد مستديرة ومقاعد جلدية، روادها من الشرائح الاجتماعية الوسطى دائما. حيث يُقَدَم الشاي والجاتوه بأسعار مناسبة.

***

في أزمنة ليست ببعيدة مضت، شهد كازينو سان ستيفانو وضاحيته التي استوطنها السكون والهدوء، وقائع وأحداث تُحكَى وتُدَوَن. فقد وفد للإقامة به طلبة كلية فيكتوريا أثناء الحرب العالمية الثانية، واستقبل جرحى الحرب من القوات الإنجليزية أيضا حينما صار مستشفى تابعا للاحتلال. وشهدت مسابقات معارك الديكة حيث كان يربح رؤوف جريس باشا، صاحب حظيرة جميع أنواع الديوك الجائزة الأولى دائما. وعرف الشاعر اليوناني “قسطنطين كفافيس” الذي قضى الخمس والعشرين سنة الأخيرة من حياته في شارع ليبوس بالإسكندرية حيث كان يلتقي بأصحابه في الكازينو. وكتب قصته “في رائعة النهار” التي تحكي عن كنز بالإسكندرية لابد من البحث عنه وامتلاكه والحلم بالثراء. وسكن الضاحية “عثمان بك صبري” صاحب روايتي “بيت سري” و”رحلة في النيل” ومقدمة في الكتابة بالعامية. وعاش فيها “زوبيني” تاجر الأقطان، وسكنتها “قوت القلوب الدمرداشية”، ومنزل “قسطنينادس” عمدة الجالية اليونانية بالإسكندرية.

صاحب ذلك أيضا، سينما حديقة سان ستيفانو التي عرفت بعروض الأفلام الأجنبية، فعرضت “العابثة والصعلوك” لـ”جين فوندا”، و”سابرينا” لـ”أودري هيبورن”، و”مطاردة في هونج كونج” لـ”جان بول بلموندو”، والأمسيات الراقصة، وفرقة “إسماعيل الحكيم” الموسيقية. وفي الأعوام الأخيرة، عرف الكازينو ندوة “نجيب محفوظ” في ختام حياته بالإسكندرية. حتى تلاشت عراقة أي أثر ولم يبقَ سوى الاندثار، غير أن “ترام إمبريال ذو الطابقين” سيظل شاهدا على ما حدث.

اقرا أيضا:

زيارة أخرى لـ«سيد درويش»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر