رحلات البحث عن البشر والحجر: وجوه القاهرة المنسية

أقيم الأسبوع الماضي بقصر الأمير طاز الحلقة النقاشية الثانية «القاهرة البشر والحجر.. عن تراث المدينة والمجتمع». وتضمنت الحلقة النقاشية ثلاث محاضرات تناولت تاريخ المدينة. الأولي للدكتور مصطفى الصادق الذى حاول أن يقرأ التاريخ من خلال النقوش والرسومات الموجودة فى قرافة القاهرة. مشيرا أن هذه النقوش أضفت حياة أخرى لهؤلاء الراحلين. يري الصادق  أن حيوات “الأحياء والأموات” ما هي إلا حياة واحدة لا يفصلهما أي شيء سوى حركة اَلسُّكُون الموجودة داخل القرافات، وحالة الصخب والضجيج الموجودة داخل المدينة، وكلاهما مرتبط بالآخر عند كتابة التاريخ.

تغيرات المدينة

وقدم عبد الرحمن الطويل محاضرة  حاول من خلالها البحث عن مدينة الفسطاط. تلك العاصمة التي تغيرت وتبدلت كثيرًا خلال تاريخها نتيجة لظروف ربما لم تحدث في أية مدينة أخرى داخل مصر! وقدمت الدكتورة دينا حشمت، محاضرة حول «القاهرة في الأدب المعاصر» راصدة التغيرات التي مرّت بها المدينة، ورصدها الأدباء والكتاب عبر أعمالهم الروائية. أدار النقاش الباحث عبدالعظيم فهمي والدكتورة فاطمة كشك.

نزهة النفوس الأرواح

تحدث مصطفى الصادق تحت عنوان “نزهة النفوس الأرواح” عن بداية حبه للآثار والتراث. إذ أوضح أنه لم يكن له أي علاقة بالأمر، فوالده كان طبيبًا متخصصًا في أمراض النساء، وهو بدوره تخصص في نفس ذات التخصص، إلى أن انتهى من رسالة الماجستير ووقتها غادر إلى فرنسا لإعداد الدكتوراه، وهناك تعلم حب الجمال، والفن، والآثار فأصبح متذوقًا لكل هذه الفنون وبدأ تعلقه بالآثار.

تحدث الصادق عن أن القاهرة تضم الكثير من القرافات. منها القرافة الكبرى والصغرى، وقرافة باب الوزير، وباب النصر، وغيرها، فلكل قرافة منهم طابع مختلف “أنا أحب دائمًا أن أذهب إلى قرافة الإمام الشافعي، إذ أعتقد أنه يمكنني أن أقرأ التاريخ من خلالها”.

وأضاف: ما يميز هذه القرافة أنها مثل كتاب التاريخ؛ فيمكن من خلالها قراءته لكنها لا تحوي فهرسًا. فرئيس الوزراء تجد قبره قد يجاور نقاشًا أو حدادًا أو شيخًا في الأزهر. فهذه التركيبة الثرية هي ما شدتني للقرافات. وقد انبهرت أيضًا بحوش الباشا، وبالتركيبات الرخامية الموجودة على القبور. وقد كنت أجلس لساعات لقراءة شواهد القبور في محاولة مني للتعرف على المدفونين داخل هذه القبور.

نقوش بديعة

يحكي الصادق عن الأمير محمد إبراهيم، والذي يدعى باسم الأمير محمد وحيد الدين، فهو الابن الثالث لإبراهيم فهمي أحمد رفعت، وهو سليل أسرة محمد علي، وقد ولد سنة 1879 وتوفى في باريس سنة 1906 نتيجة حادث سيارة “عندما ذهبت بالقرب من قبره جاءني إحدى التربية وسألني: “هل شاهدت القطر؟”، ووقتها تعجبت من سؤاله فأخذني إلى قبره ووجدته بالفعل يشبه القطار. إذ يقال إنه في إحدى المرات أراد أن يسابق قطارا ويتخطاه فصدمه القطار في النهاية ومات في باريس. وقد نقل جثمانه من باريس إلى القاهرة، لذلك فقبره مبهر للغاية، ويحوي نقوشا بديعة”.

لافتة صغيرة

يحكي الصادق أنه في إحدى المرات أثناء مروره بالقرب من السيدة نفيسة قابل لافتة صغيرة مكتوب عليها “الأستاذ حامد عوضين سعفان من موظفي الحكومتين المصرية والسودانية مجاهد وطني حكم عليه بالسجن في ثورة الخرطوم سنة 1924 من أجل وحدة وادي النيل”. وأضاف: وقتها ذهلت فالرجل فخور أنه سجن في السودان، وهذا الأمر جعلني أبحث عنه، ووجدت أنه ولد سنة 1884. وقد عمل في وزارة المالية المصرية وبعد ذلك نقل إلى السودان كأحد الموظفين المصريين إبان ثورة 1919. وقد انتمى الرجل لحزب الوفد وتنبئ أفكاره، وعندما سافر إلى السودان رفض بدوره الاحتلال الإنجليزي وتبنى تلك الأفكار وأراد وحدة وادي النيل. وهذا ما أراد تأريخه وكتابته على قبره، وبالإضافة إلى ذلك فقد اكتشفت أنه شارك في تأسيس جمعية تدعى باللواء الأبيض في السودان سنة 1923. وقد أدين أعضاء هذه المجموعة بتهمة “محاولة قلب نظام الحكم” وحكم عليهم بالسجن، لذلك فشاهد القبر هذا قادني شخصيا لمعرفة هذا الرجل.

العبر والرسائل

عرض العديد من الرسائل التي كتبت على بعض من القبور. إذ كتب على إحداهم:

“أيها الزائر إلي

قف على قبري شوى

واقرأ السبع المثاني

وهبة منك إلي

في زماني كنت مثلك

أقرأ القرآن حُبًّا

عن قريب تبقى مثلي

ليس بعد اللّٰه شيئًا”

وكتب آخر:

أيها الزائر الودود الرشيد

هون الأمر فالمصاب شديد

هاهنا يستوي ضيوف البرايا

فيه سيان سادة وعبيد

عنده ينتهي مسير السرايا

يستوي الصبي والشيخ الوليد

قف موقف النهى وتدبر

كيف ضم الجميع هذا الصعيد

واذكر ما مضى الزمان وأرح

في صفاء النعيم هذا السعيد”.

خراب الفسطاط

قدم الباحث والشاعر عبدالرحمن الطويل، محاضرة بعنوان: “رحلة البحث عن الفسطاط”. أوضح أنه في مرحلة الطفولة كان والده يأخذه  داخل أحياء القاهرة القديمة، ووقتها قيل له إن جامع عمرو بن العاص هو أول جامع أنشئ في مصر وإفريقيا. بجانب أن الفسطاط هي العاصمة الأولى في إفريقيا. ولكنه ظل يسأل نفسه: “لماذا الآثار الواقعة بالقرب من جامع عمر قليلة؟”، بعكس منطقة الدرب الأحمر أو الجمالية الغنية بالآثار. لم تقدك كتب التاريخ المدرسية إجابة على سؤاله.

ازدهار الفسطاط

يقول: حين قرأت الكتب التي تناولت التراث المملوكي، دائمًا ما كانت تذكر وجود مدينتين هما؛ القاهرة والفسطاط. لكن ما كنت أتوقف أمامه هو أنه حتى منتصف العصر المملوكي كانت الفسطاط تذكر على أساس أنها والقاهرة مدينتان متكافئتان ومتوازيتان. بالإضافة إلى أنهما كان لهما قدر متقارب من الأهمية. وظلت هناك ثنائيات دائمة بينها وبين القاهرة. إذ كان قاضي القاهرة يتبعه الوجه البحري، وقاضي الفسطاط يتبعه الوجه القبلي.

وهذه الثنائية ظلت موجودة حتى منتصف العصر المملوكي. وقد ظلت الفسطاط لفترات طويلة من التاريخ “المدينة الأم” ومركز الثقل الاقتصادي والتجاري والعلمي، حتى نهاية العصر الفاطمي، وحتى نهاية العصر الأيوبي ظلت هي مركز للأسواق الرئيسية. وكانت القاهرة هي المدينة الثانية، لكن بعد حريق الفسطاط تحولت القاهرة إلى المدينة الأولى. وأصبحت الفسطاط تتراجع رُوَيْدًا رُوَيْدًا، لذلك بدأت أتجول في الفسطاط في محاولة مني للبحث عن هذه المدينة. وقد قرأت خطط المقريزي وما كتبه عن الفسطاط. وبدأت أبحث أكتري في محاولة مني للإجابة عن أسئلتي هذه. ورجعت لابن دوقماق إذ كتب عن الفسطاط في كتابه “الانتصار لواسطة عقد الأمصار” وفيه تعرفت عن خطط الفسطاط بصورة كبيرة، ومنها مدارسها وأسواقها، وحماماتها. إذ بلغوا في فترات ازدهارها نحو 1600حمام، وكذلك جوامعها الكبرى، والتي وصلت في عصور ازدهارها لنحو 36 ألف مسجد.

بين القصرين

أوضح عبدالرحمن: بعد أن عرفت محطات الفسطاط من خلال الخرائط بدأت أتجول في الفسطاط، ومن خلال الزيارات الميدانية، بدأت بعملية استدلال للمواقع، في محاولة مني لاستدلال لهذه المواقع القديمة. كذلك قدم وصفًا دقيقًا لمعالم الفسطاط وتقسيماتها المختلفة. إذ تحدث عن معالم شمال مدينة الفسطاط، ومنها زقاق القناديل الذي يعد أهم شارع وسوق داخل الفسطاط، وكذلك كان في المنطقة ما يسمى ببين القصرين. وهذان القصران ينسبان لعبدالله بن عمرو بن العاص، وقصر آخر لمروان بن الحكم. أي أن تأريخهم يعود للقرن الأول الميلادي.

حريق شاور

قال الطويل عن أسباب خراب الفسطاط: “من أسباب خراب هذه المدينة هي الشدة المستنصرية التي استمرت لـ7 سنوات في عهد الخليفة المستنصر. وقد خربت الكثير من المدينة خلال هذه المدة، وعندما جاء بدر الجمالي إلى مصر لإعادة النظام فيها، قرر توسيع القاهرة والبناء فقهاء فأمر الناس بهدم الأحياء الخربة الموجودة في الفسطاط، ونقل هذه الأنقاض للبناء داخل القاهرة. لذلك فنحن عندنا مناطق كثيرة خربت داخل الفسطاط منذ الشدة المستنصرية. بعد هذه الحادثة جاء حريق شاور إذ إنه دائمًا ما يقال بأنه أحد أهم أسباب خراب الفسطاط لكنه- من وجهة نظري لم يؤدٍ إلى خراب المدينة حقيقةً، لكنه أضعف مناعة المدينة، تجاه الكوارث فإذا حدثت مجاعة أو وباء كان يحدث خرابا في القاهرة والفسطاط على حد سواء. لكن ما يخرب من القاهرة يعاد تعميره، وما يخرب من الفسطاط يذهب مع التاريخ في نهاية الأمر”.

دينا حشمت أثناء إلقاء محاضرتها عن القاهرة في الأدب المعاصر
دينا حشمت أثناء إلقاء محاضرتها عن القاهرة في الأدب المعاصر
وجوه القاهرة في الفن المعاصر

وجاءت محاصرة د.  دينا حشمت المدرسة بقسم الحضارات العربية والإسلامية بالجامعة الأمريكية بعنوان “وجوه القاهرة في الفن المعاصر”. أشارت إلى أن الكاتب الذي يأتي اسمه بمجرد الحديث عن القاهرة هو نجيب محفوظ، وذلك بسبب علاقته بحي الجمالية، والذي ألهمه واستمد منه بعض من رواياته، ومنها الثلاثية. لكنه وبالرغم من ذلك فإنه نادرًا ما كان يركز على حي الجمالية في أعماله. إذ إنه عادة ما يضع شخصياته في علاقة مع أجزاء المدينة أخرى من المدينة.

ومن هنا تنتقل الشخصيات من الجمالية إلى أحياء أخرى أو العكس. وهذا ما يشكل الحبكة في أعماله، فرواية “زقاق المدق” والتي نشرت سنة 1947 فالشخصية الرئيسية “حميدة” أرادت أن تخرج من هذا الزقاق. إذ أرادت أن تلتحم بالمدينة الحديثة، وكانت على أتم الاستعداد لتحقيق رغبتها تلك. وبالفعل بانتقالها هذا تصبح عاهرة داخل الحانات لخدمة جنود جيوش الاحتلال، فانتقالها هذا كان له ثمن. لذلك فدائما ما يحدث تناقضا بين مدينتين وهو موضوع نجده في الأدب العربي والعالمي أيضًا. فقصة النداهة التي كتبها يوسف إدريس. إذ أرادت فتحية أن تتزوج حامد الذي يعمل في القاهرة لأنه تريد الخروج من بيئتها الريفية. وهنا أراد إدريس أن يصف قصة خروجها، وانبهارها بالمدينة. وقد أراد إدريس أن يوضح التناقض الموجود بين الريف والحضر من خلال قصته القصيرة.

تغيرات سريعة

تتحدث حشمت أن الانبهار بالمدينة لم يسيطر فقط على الأعمال الأدبية. لكن وجود علاقة بين الريف والمدينة انتمى دائمًا لعصر محدد وتحديدًا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وقد ظهرت اهتمامات مختلفة لصور الشخصيات في الرواية إذ ظهر الحنين لزمن ما قبل الحداثة. فمثلًا ركز الروائي إبراهيم أصلان على منطقة إمبابة والكيت كات في أعماله. ففي روايته “مالك الحزين” تحدث يوسف النجار- أحد شخوص الرواية- عن حنينه لمنطقة إمبابة ما قبل بناء السد، خاصة أنه بعد بناء السد لم يعد يحدث فيضان النيل. فالرجل كان يحن للطمي الثقيل الذي كان يجده، عندما كان يجلس على ضفة النهر. فهذه الرواية تدور أحداثها في فترة السبعينيات وهي تمثل مرحلة مهمة في تاريخ مصر الحديث والمعاصر نتيجة تعرض القاهرة لتغييرات سريعة جدا، وقد عبر الأدب المصري عنها بصورة كبيرة.

مرآة الواقع

وأضافت دينا: هناك رواية “هليوبوليس” والتي كتبتها مي التلمساني. إذ تحدثت عن العلاقات العائلية الوطيدة. وقد روت من خلال عملها تاريخ المدينة القديم. بدءًا من التاريخ الفرعوني، وحتى بداية تأسيسها مرة أخرى عام 1906. وقد وصفت تفاصيل الأماكن المختلفة وتفاصيل العمارة هناك، فهي تقدم توثيق لهذه المدينة خلال فترة التسعينيات.

تختتم دينا حديثها باتأكيد على إن الرواية هي عادة مرآة للواقع. وقد تستلهم من الواقع العديد من التفاصيل لكنها ليست بالضرورة صورة طبق الأصل لهذا الواقع.

اقرأ أيضا

بالمستندات.. هل ينجو محلج محمد علي الأثري بفوه من الشطب؟

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر