«داوود عبد السيد».. من واحد إلى عشرة!
قليلة هي الأفلام التي قام بصنعها المخرج الراحل داوود عبد السيد، ولكنها ثرية بقيمتها، وحضورها الكثيف في ذاكرة السينما المصرية. وهي أعمال تشكل في مجملها كياناً فنياً له مضمونه وأسلوبه المميزين.
فيما يلي معظم هذه الأعمال (بدون بعض الأفلام الوثائقية الأولى)، مرتبة حسب الأفضل إلى الأقل جودة (وفقا وجهة نظري المتواضعة)، بناءً على مدى إتقانها الفني، وقوة طاقتها الشعرية، وجلاءها الفكري وتوافق وانسجام عناصرها المختلفة.
1- “الكيت كات” (1991)
هو الفيلم الروائي الثالث لداوود عبد السيد، رغم أنه عرض قبل “البحث عن سيد مرزوق”. وهو أول اقتباس أدبي مباشر عن رواية “مالك الحزين” لإبراهيم أصلان. السيناريو الذي كتبه داوود كان يحمل عنوان “عرايا في الزحام”، لكن تم تغييره إلى”الكيت كات” بعد اعتراض الرقابة، في واحدة من الحالات القليلة التي تخدم فيها ملاحظات الرقابة العمل الفني. إذ أن “عرايا في الزحام” ليس فقط مباشراً وأخلاقياً أكثر من اللازم، ولكنه كان سيضر بالفيلم غالباً في شباك التذاكر.
إلى جانب السيناريو الجيد (الذي يعد نموذجاً في فن الاقتباس عن الأدب) وإخراج داوود عبد السيد المحكم، توفرت للفيلم كل عناصر النجاح: نجم جماهيري وممثل موهوب هو محمود عبد العزيز، من الصعب تخيل الفيلم بدونه.
وجود عبد العزيز أدى إلى إبراز شخصية الشيخ حسني باعتبارها محور وبطل الدراما (على عكس الرواية التي تعرض عشرات الشخصيات بحياد ومساحات متوازنة)، كما أدى إلى “تخفيف” جهامة الموضوع بالكوميديا، وإضافة أغنية “درجن درجن”، وهما عاملين (الكوميديا والأغاني) ساهما في نجاح الفيلم جماهيرياً وتحقيقه لأعلى إيراد حققه فيلم لداوود عبد السيد.
***
ومن العناصر الأخرى موسيقى راجح داوود، الذي قدمه عبد السيد للسينما، فأصبح إضافة كبيرة ليس فقط لأفلامه، ولكن لأفلام كثيرة أخرى. وتتميز موسيقى “الكيت كات” بأنها من عالم آخر، تختلف عن الموسيقى المحلية الشعبية للفيلم، وليست تكراراً للأسلوب أو الثيمات المعتادة في السينما المصرية، بل هي موسيقى روحية وناعمة تنقل الفيلم إلى مستوى آخر من التلقي، أكثر شاعرية.
ولا يمكن تجاهل تصميم مناظر أنسي أبو سيف. وبما أن داوود عبد السيد من الذين يحبون بناء عالمهم بالكامل داخل الاستوديو، على عكس من يفضلون التصوير في الشوارع والأماكن الحقيقية، فقد كان التحدي الذي خاضه أبو سيف هو بناء المعادل الذي يوحي بالمكان الواقعي، بل يكاد يصعب التمييز بينهما، وفي الوقت نفسه صنع تصميمات سينمائية تحقق رؤية المخرج وأسلوبه.
وما يميز الاقتباس هنا هو استلهام شفافية وشاعرية النص نفسه، بالرغم من تخفي إبراهيم أصلان خلف اللغة التقريرية المختزلة.

2- “أرض الخوف” (2000)
كمؤلف، فإن “أرض الخوف” هو أكثر أعمال داوود عبد السيد أصالة، وكمخرج هو أكثر أعماله إبداعاً.
عقل داوود عبد السيد توليفي، يجمع المتناقضات أو الأفكار الشاردة المختلفة، ليشكل منها عالمه الخاص. هنا، كما حدث كثيراً معه، تولد فكرة افتراضية من الواقعي السياسي والاجتماعي، يقوم بتحويلها إلى أمثولة خيالية، ويضيف إليها من خياله الغني بالمشاهدات والقراءات المتنوعة.
أعتقد أن الفكرة ولدت من فكرة العميل السري المزروع في عالم معادي يتناقض مع عالمه الأصلي، فإذا نسيه من أرسلوه أو أهملوه (كما حدث مع رفعت الجمال، أو رأفت الهجان، لفترة قصيرة)، أو إذا شعر هو بالتعاطف تجاه هذا العالم الذي زرع فيه (كما يحدث لشخصية عميل المباحث الفيدرالية الذي زرع داخل عصابات المخدرات في فيلم “دوني براسكو”، (إخراج مايك نويل، 1997)، المقتبس بدوره عن قصة حقيقية.
***
غير أن هذه الفكرة تكشف بدورها عن استعارة للخروج من الجنة، ولاختبار ومصير الإنسان على الأرض بالمعنى الديني. وهكذا تلتف الأفكار والخطوط الدرامية والصور في جديلة واحدة يصعب فكها، أو النظر إلى أحد ملامحها دون الملامح الأخرى. ويمتد ذلك بدوره إلى الأسلوب الفني، الذي يجمع بين نوع العصابات الأمريكي والواقعية الجديدة المصرية، مضافاً إليهما مزاج أدبي تأملي (يتحقق من خلال صوت الراوي وحركة الكاميرا البانورامية البطيئة) مع حس سوريالي كافكاوي، سبق أن استكشفه عبد السيد في “البحث عن سيد مرزوق”.
3- “البحث عن سيد مرزوق” (1991)
حتى لو لم يكن أكثر أفلام داوود عبد السيد شعبية، وحتى لو كان هو نفسه قد حاول التبرؤ منه، مبررا فشله التجاري بأخطاء وعيوب في الفيلم، لكن يظل “البحث عن سيد مرزوق” واحداً من أكثر أفلامه تعبيراً عن أسلوبه ورؤيته “الكافكاوية” للعالم.
وبالرغم من أن الفيلم – مثل “الصعاليك”- يمكن نسبه إلى أعمال عالمية كانت مصدراً له، وبالأخص “بعد ساعات العمل” After Hours لمارتن سكورسيزي (1985)، لكن عبد السيد يطبعه بالواقع المصري من خلال شخصية رجل الأعمال الفاسد، وثيق الارتباط بالسلطة كما تولدت في أعقاب الانفتاح، والقبضة الأمنية الشديدة التي تحول الواقع إلى ما يشبه الكابوس أو السجن المفتوح.
***
في حوار أجريته مع داوود عبد السيد بعد عرض الفيلم، قال إن فكرته ولدت من خبر عن صحفي يساري بمجلة “صباح الخير”، قرأ خبر الأمر باعتقاله في الصحف، فذهب ليسلم نفسه إلى الشرطة، وهناك قيده أحد الضباط إلى مقعد في انتظار حسم موقفه القانوني، ثم نسيوه وتركوه ليتحرك كما يشاء أو يغادر!
ربما لم ينفذ الفيلم بالشكل الذي كان يتمناه عبد السيد، وربما كان يحتاج إلى مزيد من السوريالية أو الواقعية، بما أنه حائر بينهما، ولكن يظل للفيلم جاذبيته وتأثيره، وفوق ذلك اختلافه وقدرته الدائمة على إثارة الفضول.
4- “رسائل البحر” (2011)
من بين كل أعمال داوود عبد السيد، فإن “رسائل البحر” أبسطها على مستوى الحكاية والسرد، وأكثرها عاطفية، وعذوبة. عمل كان يمكن أن يكتبه إحسان عبد القدوس أو يخرجه عاطف الطيب، ولكنه يندمج وسط أسلوب عبد السيد وعالمه كأفضل ما يكون.
هو انعكاس آخر لـ”ثيمة” الحب المحاط بالجشع والتلوث والقبح، التي عالجها في “سارق الفرح” و”مواطن ومخبر وحرامي”، لكنها هنا أكثر نقاءً، ويمكن أن نقول أكثر بورجوازية، ورومانتيكية. المحبة هنا أقوى وأشمل، ومساحة الكراهية أضيق، تكاد تنحصر في عبادة المال، التي يمثلها كل من صاحب الشقة التي يسكنها يحيى، والثري الذي تعيش معه نورا.
“رسائل البحر” مرثية للإسكندرية، يذكر ببعض قصائد كافافيس في ولعه بالأمكنة وحنينه للماضي، أو “رباعية الإسكندرية” للورانس داريل في تعدد شخصياته وأصواته، وولع كل من كافافيس وداريل بالحب كسرٍ مقدس، موصوم بالدنس، في عالم مبتذل ومدنس بالفعل.
5- “أرض الأحلام” (1993)
مرة ثانية، يبدع داوود عبد السيد في قالب الرحلة التي تقطعها الشخصية الرئيسية خلال يوم واحد، كما فعل في “البحث عن سيد مرزوق”.هذا أيضا فيلم عبد السيد الوحيد الذي تلعب بطولته امرأة، والفيلم الوحيد الذي يعتمد على سيناريو من تأليف كاتب آخر، هو هاني فوزي.
ومثل يوسف كمال في “… مرزوق” تعاني نرجس (فاتن حمامة) من الخوف من العالم، لكنها تجد نفسها في مغامرة سوريالية الطابع، تنتهي بها وقد تحولت إلى إنسانة أكثر وعياً وقدرة على مواجهة ضعفها واتخاذ قرار مصيري.
غالبا كان يركز سيناريو هاني فوزي الأصلي على الجانب العائلي الاجتماعي، إلى جانب كون نرجس تمثل قطاعاً من الأقباط الذين يتجهون للهجرة، لكن داوود يضفي على العمل رؤيته الفلسفية والنفسية الأشمل، فيجعل من الرحلة أكثر عمومية.
***
ويتميز “أرض الأحلام” أيضاً بتركيزه على البطلين الأساسيين، ويعطي لنجميه فاتن حمامة ويحيى الفخراني مساحات كبيرة للتعبير والارتجال، وللعب كفريق من اثنين ندين، مع صبغة كوميدية لطيفة قلما نجدها في أعماله. وكالعادة تساهم المشاهد المتجاوزة للواقع وموسيقى راجح داوود في إضفاء روحانية مبهجة على الفيلم.
ورغم أن الفيلم لم يحقق النجاح التجاري المتوقع وقت عرضه، لكنه أصبح بمرور الوقت واحداً من أكثر أفلام داوود شعبية ومشاهدة.
6- “الصعاليك” (1985)
أول أعمال عبد السيد الروائية، وبطاقة تقديمه إلى السينما المصرية. وهو معالجة لقصة سبق تقديمها في العديد من الأعمال الأجنبية والمصرية (الصديقان اللذان يصعدان في عالم الإجرام من القاع إلى القمة، ثم يختلفان ويصبحان عدوين ويقضي أحدهما على الآخر، والتي بدأت مع الفيلم الفرنسي “بورسالينو” (بطولة آلان ديلون وجان بول بلموندو 1970)، ثم تكررت بعد “الصعاليك” في فيلم “سلام يا صاحبي” (عادل إمام وسعيد صالح، 1987).
نظرة داوود عبد السيد الفلسفية، وإيقاعه المتأمل، وفي الوقت نفسه جرأته في طرح العلاقات الجنسية، يضفيان على القصة مستوى إنساني أعمق، ولكنه غير قادر على جذب مشاهدي “الأكشن” من جمهور السينما المصرية منتصف الثمانينيات.
7- “وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم” (1976)
يصنف هذا الفيلم باعتباره أحد أعمال داوود عبد السيد الوثائقية، ولكن الفيلم في الحقيقة ينتمي لما يطلق عليه الهجين النوعي hybrid، الذي يتخطى حدود النوع الفني. الصورة في “وصية رجل حكيم” وثائقية، ترصد الحياة التعليمية في إحدى القرى الفقيرة، و”إنجازات” الدولة في إنشاء المدارس ومحاربة الأمية، ولكن صوت المعلق هو روائي ومحض خيال، لشخصية رجل عجوز يفترض أنه من “حكماء” القرية، يرفض عمليات التطوير وفكرة تعليم المواطنين، التي يمكن أن تدفعهم إلى التفكير ومن ثم التمرد على السلطات السياسية والدينية والعشائرية القائمة.
هذه الفكرة، التي تنسف مفهوم الفيلم الوثائقي “الدعائي”، وتجعل المشاهد يرى ويتأمل ما وراء “الوثيقة” هي سابقة لعصرها، وتكشف عن مقت داوود عبد السيد للكذب، وفي الوقت نفسه سعيه لقول الحقيقة بطرق قد تكون غير مباشرة وملتوية، للتغلب على أشكال الرقابة.
هذا واحد من أذكى أعمال داوود عبد السيد، كما أنه يحمل بذرة السخرية المريرة التي نجدها بقوة في أعمال لاحقة، مثل “مواطن ومخبر وحرامي”.
8- “مواطن ومخبر وحرامي”
كان ولا يزال لدي مشكلة في تلقي “مواطن ومخبر وحرامي”، وهي عدم التجانس بين مكوناته.
فكرة الفيلم هي توليف فني بديع من أعمال روائية مثل “خفة الوجود التي لا تحتمل” لميلان كونديرا، و”مئة عام من العزلة” لجابرييل جارثيا ماركيز، وفنون الكارنفال الشعبية، بالإضافة طبعا إلى البعد الاجتماعي والسياسي الذي يهدف إلى هجاء مجتمع الانفتاح وما بعده وصولا إلى الألفية الجديدة.
تعرض الفيلم لتغيير فريق الممثلين عدة مرات، وظروف إنتاجية أدت إلى إضفاء الكثير من التوابل والمشهيات الجماهيرية على الفيلم. وهي طريقة ثبت فشلها من قبل في “سارق الفرح”، ولكنها هنا نجحت بشكل مدهش، على حساب التجانس العضوي الفني للفيلم. ذلك أن الفيلم يبيع لجمهوره البضاعة نفسها التي يحاربها، وهي الابتذال والذوق الفني الرديء، اللذان تمثلهما شخصية الحرامي شعبان عبد الرحيم.
***
ودعك من أن عبد الرحيم، لأسباب يطول شرحها، تحول إلى مطرب المثقفين والسياسيين في تلك الفترة بعد أغنيات مثل “أنا بكره إسرائيل” و”بحب عمرو موسى”!!
ربما يعتقد البعض أن رقص الجمهور في قاعات العرض كان تجاوباً مع الفيلم والأفكار التي يطرحها، ولكن العكس قد يكون هو الصحيح: أن الجمهور يحتفي بهذه الرداءة الفنية ويتعاطف مع الأفكار والنفاق الأخلاقي اللذين يمثلهما “الحرامي”.
ومع ذلك، تظل الفكرة والقصة في “مواطن ومخبر وحرامي” من أنضج ما جادت به قريحة المؤلف داوود عبد السيد، رغم اختلافنا على التنفيذ.
9- “قدرات غير عادية” (2015)
كل داوود عبد السيد هنا. شخصياته، والعالم شبه السوريالي الذي تعيش فيه، وعلاقة حب معلقة في الفضاء بين الحسية والروحانية، والصراع بين التزمت الديني والتطلع إلى التحرر، وشبح الأمن الذي يطارد البطل ويستغل المواطنين، والإسكندرية، والبحر، وأجواء كرنفالية فللينية، وصوت الراوي، والحديث عن السحر والصوفية.
لكن هذه التركيبة تفتقد للكيمياء والسحر، ويثقل عليها الغموض. هناك محاولة جديدة للاقتراب من الناس، في حلقات الزار والإنشاد، ولكنهم يظلون بعيدين، وتظل مشكلة البطل -والفيلم- أنه لا يستطيع أن يتخلص من موقف المراقِب والمراقَب، ولا من استبدال الدراما والحدث بالمونولوجات.
10- “سارق الفرح” (1994)
كان يفترض أن يكون “سارق الفرح” امتدادا لـ”الكيت كات” بطريقة ما: اقتباسا عن قصة لأحد أدباء الستينيات، وهو خيري شلبي، تدور حول الفقراء الذين يتحايلون على الحياة ولكن الفارق كان شاسعا، سواء في الأصل أو الفيلم المقتبس عنه. هذا أقل أفلام داود شبهاً به.
وعلى الرغم من وجود بعض اللمحات والمشاهد الجيدة، لكن يوجد الكثير أيضاً من الزوائد “الكلامية” والأغاني، والتخيلات “الفانتازية” عن حياة الفقراء. يبدو أن ضغوط الإنتاج، والرغبة في صنع فيلم يحقق شعبية “الكيت كات” ونجاحه التجاري، قد أفسدت الخلطة.
اقرأ أيضا:
في عوالم «داوود عبد السيد»: رثاء شخصي لمخرج علمني حب الحكمة والحكاية والحياة
علاء خالد يحاور داود عبدالسيد: الحياةُ في النهاية رحلةٌ، بشكلٍ ما، حزينة



