بورتريهات متخيلة(6): أحمد زكي.. جسد مضاء بجرح

مضاء بجُرح. روحي فم جائع، حفرة لا تردم، إن لم تجد شيئا لتطعمه، ألقمتها قطعة من جسدي. روحي تاقت إلى أن تلتمس وتستشعر كل ما تحت الشمس، أن تستنطق عتمة ليل، فتصير هي كل شيء، فتفهم كل شيء.  الحياة ممر ضيق مرشوق بالنصال، وروحي كتلة أعصاب محترقة، مفتوحة على كل عناق، فلأطعن، دائما ما كان في الروح متسعا لطعنة إضافية، ففي حلاوة النزيف ومره، أختبر طعم الحياة والموت.

ببطء، بسرعة، بثبات، بانهيار، بيقين، بشك عظيم. برسوخ، بجذور هشة، بغناء خشن، بطرب يسلطن به صاحبه نفسه، بترنم، بصفير، بشجاعة، بجسد يرتجف تقدمت في ممر النصال. كان للجسد إذن أن يتشقق بغتة كزجاج، ينضم إلى جوقة النصال ويطعن. ما الرهان، سوى أن قربان الفن الوحيد المقبول، هو حياتي بأكملها، محروقة القلب والحواف؟

أرواح من الأسمنت

أنا كل وجه، قال. أنا كل روح، كل تحول، كل فيض، كل نعمة وخطيئة، ألتقط الإثم من العيون ولا تشفيني البراءة. أنا عنفوان سيحطم على صخرة الوجود، بكل هشاشته، كأني ذات خاوية لإله، لم تكن فقط قادرة على محاكاة البشر، لو استطعت لكنت حجرا، شجرة، خرير ماء، انحناءة عمود إنارة. أنا الخوف، الامتثال، العجز، الصمت، الغضب، الملل، الحب، الحماقة.

كرجل أسير غرفة، سيئة الإضاءة، أشكل الأرواح كصلصال، أدرب مزاجي – عندما يكون رائقا- على أن يضيء كقمر. أنا الكون، هذا ما رغبت في عناقه، صدتني عنه أرواح من الإسمنت.

لا قرب إلا إذا أمعنت في الاغتراب، كل من على الأرض صاحبي وجليسي، لكن صديقي الأثير هو الوحدة، لأنها الشخص الوحيد الذي بإمكانه أن يصادق شخصا بلا هيئة. عندما نجحت أخيرا في مراوغة القدر، انتخبني الموت لصحبته. أولد وأموت، أولد وأموت، كل ليلة، كل نهار.

عتمة الحوائط

بأظفاري حفرت عتمة الحوائط، بأسناني، فمي التقط حجرا فعوى، سد حنجرتي حجر فصرخ، صرت حجرا فسالت صلابته، جسدته كروح ولغة. صار الحجر ثغرة في الحائط، وأنيسا.

صورة للممثل المصري أحمد زكي
أحمد زكي

التقط شفاها وأصابع، أطرافا مبتورة، حركة، ملمحا، أشباحا، جفافا في الفم كان في الأصل تنهدات حارة، حصى كان في الأصل آمالا عظيمة، أقفال غرقت مفاتيحها في جوف بحر، ومفاتيح يتيمة الأقفال، أعقاب أرواح ذابلة، أفواها ملطخة بعار ما.

في انشغالي بجمع أجزاء الوجود المفكك، لم أنتبه لطقطقة الزجاج، تجاهلت نذير الصدع، حتى صار شروخا. كيف أتوقف عن نسخ الأرواح داخل جسدي، عن تجريب ملايين الوجوه فوق وجهي الخفي. بطموح ساذج، كنت أعد للموت حفرته وشاهد قبره، لكن ذلك العجوز ذي المنجل المهووس بالحصاد، بالنظرة الخالية من الغرض، ببخار الشهوة البارد في فمه بالعين التي رأت كل شيء وخبرت كل حيلة للفرار منه، دائما أذكى.

رهان أحمق

أدخن بشراهة لأمتص رعب الوجود العميق. أدخن بشراهة لأستهزئ بالموت. رهان أحمق، فكل ما أملكه أمامه أن أختار بنفسي أداة القتل، ألمح ذلك الشيء المجروح في عينيه، وابتسم مستسلما، في الحفرة التي أعددتها لدفنه، أسقط.

أصير كل شيء، فأفهم كل شيء، يصير حجر الموت ثغرة في الحائط، وأنيسا.

اقرأ أيضا:

بورتريهات متخيلة(5): سيد مكاوي.. كرنفال من العطب

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر