دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

بين الظل والرمال.. القصة الكاملة لـ«معبد بيريس» المفقود في الوادي الجديد

الصحراء لا تبوح بأسرارها إلا لمن يُصغي لصمتها وهدوئها. ففي حضرة الصحراء يسقط الزمن، وتتلاشى السنوات وتصبح مجرد حبات رمال تزروها الرياح أمام لغز أثري جديد في شمال مدينة الخارجة. هذا المكان الذي يمر عليه أهالي الخارجة مرور الكرام  لا يرون سوى «تبة» عالية، بينما هم يسيرون فوق تراكمات من الحكايات والأساطير التي لم تُروَ بعد.

«تبة أم لغز؟».. بداية الحكاية

هنا، في الوادي الجديد، كنا نسمع همس العجائز عن “كنوز يمر عليها الناس مرور الكرام” في شمال الخارجة. ولأجل ذلك أنفض الغبار عن حكاية «معبد بيريس». فالطريق إلى شمال مدينة الخارجة ليس رحلة جغرافية فحسب، بل انتقال عبر بوابة الزمن. وعلى مقربة من منطقة «اللبخة» الشهيرة التي يعرفها القاصي والداني. يقبع “الظل”، مكان مظلم، موحش، وساحر في آن واحد، لا يعرف عنه الأهالي المعاصرون سوى أنه «كومة من الأحجار». بينما هو في حقيقة الأمر سجل حجري يوثق لحظات ضعف الإنسان وقوته، وبحثه الأزلي عن الخلاص. هنا ترسم الشمس العمودية ظلالاً حادة على الجدران المتهالكة. أحاول استنطاق الحجر، مستعينة بنخبة من خبراء الآثار الذين أفنوا أعمارهم في دراسة هذا اللغز.

مجمع صخري لا معبد

أوضح محمد إبراهيم، مدير عام الآثار بالوادي الجديد، في حديثه لـ«باب مصر»، أن الطبيعة المعمارية المعقدة لهذا الأثر، الواقع على مسافة 250 مترا إلى الشمال الغربي من المبنى الرئيسي لمنطقة «اللبخة». ويرجع تاريخه إلى الفترة بين عامي 140 و335 ميلادية، ليست مجرد وصف هندسي. بل تمثل تشريحا لتطور تاريخي للإنسان عبر القرون الماضية.

فما نراه ليس معبدا صُمم، بل «مجمع شبه صخري» فريد من نوعه، يجمع مزيجا نادرا وغير مألوف من أعمال البناء التي تمت في حقب زمنية متعددة.

كيف تطور المكان؟ من حفر بسيط إلى عمارة روحية

شرح «إبراهيم» كيف توسع المكان تدريجيا استجابة لحاجات دينية واجتماعية متغيرة، بدءا من ممر للخروج وبعض الغرف الجنائزية الصامتة. ثم إضافة “صومعة” صغيرة ربما كانت للخلوة والتعبد خارج المبنى الرئيسي، مرورا بحفر غرف جديدة في الصخر الصلب تقود إلى ممرات جنائزية أشد عمقا. وكأن البنائين القدامى أرادوا الاقتراب أكثر من باطن الأرض حيث يخفون سرهم الكبير.

مخطط تفصيلي لمعبد بيريس قبل أن تبتلعه الرمال بمحافظة الوادي الجديد.. الصورة من دليل واحات الوادي الجديد
مخطط تفصيلي لمعبد بيريس قبل أن تبتلعه الرمال بمحافظة الوادي الجديد.. الصورة من دليل واحات الوادي الجديد
من قبر لرجل صالح إلى مزار مقدس

أشار إبراهيم محمد، مدير عام هيئة تنشيط السياحة سابقا، إلى الجانب الإنساني الذي حول هذا البناء من مجرد قبر إلى مزار مقدس. واستدل بالأقمشة الفاخرة التي عثر عليها داخل الموقع، والتي لا تخص عامة الشعب. بل تشير إلى رجل ذي مكانة خاصة وتمتع بتقوى جعلت الناس ينظرون إليه نظرة إجلال.

وبحسب شرحه، بدأت عادة تقديس الموتى حول هذا الرجل الصالح في التصاعد تدريجيا. ومع الوقت، تحول المكان إلى ملاذ للمهمومين. ثم أصبح مقصدا لقوافل الحجاج التي كانت تقطع آلاف الأميال للوصول إليه. وقد بلغت هذه الظاهرة ذروتها بين عامي 140 و325 ميلادية، خلال فترة التحولات العقائدية في مصر الرومانية.

فلسفة اللون والظل 

قال منصور عثمان، المفتش العام لقسم الآثار الإسلامية سابقا، إن هذا المكان لم يكن بناءً وظيفيا فحسب، بل لوحة فنية تعكس ذوقاً رفيعاً. فالغرفة الخارجية المبنية من الطوب اللبن والقش تعد «جوهرة» مزينة بلوحات ملونة غاية في الروعة. وتشير الرسوم المستديرة ذات الأبعاد المختلفة، المحاطة بحواش خضراء على خلفية حمراء، إلى رموز واضحة: الأخضر للحياة والبعث، والأحمر للقوة والدم.

كما أضاف أن الباب المؤدي إلى الغرفة المحفورة في الصخر أحيط بحاشية بيضاء ناصعة داخل إطار من الجص، الأبيض، مما يبرز تناغماً و«هارمونية» مدهشة في الأبعاد. هذا البياض وسط الألوان النارية كان بمثابة نقطة ضوء وبوابة أمل للزائرين القادمين من عتمة الممرات. مما يؤكد أن مهندسي “بيريس” كانوا يدركون جيدا كيف يتلاعبون بمشاعر الزوار عبر الهندسة والألوان.

نهاية المزار.. سقوط بيريس وعودة الصمت إلى الصحراء

تابع بهجت أحمد إبراهيم، مدير عام الآثار سابقا بالوادي الجديد، ساردا الفصل الأخير والدرامي من حكاية هذا المزار. حيث ربط بين سقوط المكان والتحولات الدينية الكبرى في العالم القديم. وأكد أن دوام الحال من المحال، وأن شعلة «بيريس» بدأت تخبو مع بزوغ فجر الديانة المسيحية. وشرح كيف أسهمت مبادرات المسيحيين الأوائل وتوجهات الكنيسة الرسمية في ذلك الوقت في محاربة هذه العادة الوثنية المتمثلة في تقديس الموتى وزيارة أضرحتهم طلبا للشفاعة. وكان هذا التحول العقائدي بمثابة حكم بالإعدام المعنوي على المكان.

فتوقفت القوافل وخفتت الأصوات، وهُجر المعبد تدريجيا. واستطرد “بهجت” بنبرة أسى على ما آل إليه الحال، موضحاً أن الطبيعة لم ترحم ضعف المكان بعد هجرانه. فقد تكالبت الرياح المحملة بالرمال لتغطي ما تم الكشف عنه، وكأن الصحراء تأبى إلا أن تسترد أسرارها. فهذه الرمال أعاقت الدخول إلى الممرات الداخلية. وطمست معالم الغرف الجنائزية التي كانت يوما ما تعج بالحياة وتحوي بقايا المومياوات، ليعود «بيريس» إلى صمته الطويل تحت كثبان الرمال.

 الجبانة المجاورة.. عالم الأموات الصامت

أعرب بهجت عن سعادته لمشاركته في كشف هذا المعبد الأثري الذي لا يقل إثارة عن أي معلم مهم. وإلى جواره تقع منطقة تعرف باسم “الجبانة”، حيث يمتد عالم الأموات الصامت. وهي جبانة فريدة قبورها حجرية، إما منحوتة في الصخر أو مشيدة بالأحجار الجيرية. أما المثير فيها فهو طريقة الدفن: مداخل القبور تأتي عبر «آبار رأسية» عميقة تقود إلى غرفة أو غرفتين جنائزيتين، تصميم يبعث الرهبة في النفس ويحفظ حرمة الموتى.

وفي مفاجآت اكتشافات البعثة، برزت الكنوز المنقولة التي خرجت من رحم الأرض؛ ومنها توابيت خشبية قاومت التآكل، وقطع خزفية كانت تستخدم في الطقوس الجنائزية.

“الدرة” النادرة.. قناع يحدق في التاريخ

تبقى «الدرة» الثمينة في هذا الكشف هي العثور على قناع  وصفته المصادر التاريخية والأثرية بأنه «غاية في الروعة والدقة». وهذا القناع، الذي يستقر اليوم خلف فاترينة زجاجية في متحف مدينة الخارجة، هو الناجي الوحيد الذي يملك ملامح بشرية. يحدق في وجوه الزوار بعيون واسعة، وكأنه يحاول أن يروي لهم قصة المدينة التي كانت، وقصة القديس الذي مات مرتين: “مرة حين توقف قلبه، ومرة حين نسيه أحفاده”.

قطع متحف الخارجة.. شهادات من معبد بيريس

قال طارق القلعي، مدير عام متحف آثار الخارجة، إن المتحف يضم بعض القطع الأثرية التي تم العثور عليها في معبد بيريس، مثل تمثال وقناع يعودان للمعبود حورس الصقر. إضافة إلى أوانٍ فخارية ومسارج ومباخر وقطع معدنية، وجميعها محفوظة في متحف آثار الوادي الجديد بمدينة الخارجة.

ويضيف «القلعي» أن صالح بيريس يعد أحد النبلاء المحليين في المنطقة، وأن النصوص والمخطوطات تشير إلى أنه تم تأليهه، وترجع هذه المقبرة إلى القرن الثاني الميلادي. وقد تطورت في شكلها وطرازها المعماري من مقصورة بسيطة إلى مقصورة ذات غرف عديدة تتفرع من المحور. وقد أجريت حفائر في تلك المقبرة عام 1991، وأسفرت عن عناصر معمارية رائعة من قباب وحوائط مزخرفة ومطلية بالجبس تحاكي الرخام.

اقرأ أيضا:

السينما في «الواحات».. حين تتحول الصحراء إلى استديوهات مفتوحة

الواحات تحافظ على تراثها.. «فخار القصر» رمز الحرف اليدوية المستدامة

البريد في الواحات.. رسائل عبرت الصحراء على ظهور الجمال

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.