بورتريهات متخيلة (3): عادل إمام.. لأن مقلوب الجبل هاوية

عادل إمام، شجرة سامقة معوجة، خلطت جذور مواهبها بجذور الوضع الفاسد، بعض من فاكهتها طازج شهي، بعضها سام، بعضها شهي وسام. تلك الشجرة فتنتي منذ صغرى.

لأن مقلوب الجبل هاوية، كان عليه أن يهبطها ببطء قاس وطويل، يتكسر فيه حجرا تلو حجر، حتى يتفتت إلى رماد من ملايين الذرات، أن يغرق في جانبه المعتم، الذي طالما دارى سوأته في جانبه المضيء فبلغ قمة كل شيء حتى صار هو الجبل عينه.

مهربه الأخير، هو الهبوط في ظلمة بلا قرار، كي ينبعث من رماده، فلا يتبقى منه في الذاكرة سوى أفضل ما قدمه وأسوأ ما ارتكبه، حسنات وخطايا عظيمة بقدره، تستبعد منه كلا ما انحط في وحل التفاهة والادعاء.

بائع الفانتازيا

لذا دعني أتحدث عنه.. مرة أخيرة وإلى الأبد، فعلى تلك الفتنة التي أكنها له منذ صغرى أن تزفر بعيدا. رغم علمي أن القربان الوحيد المقبول لتحطيم الآلهة هو أن نتحطم نحن.

لا أجترح جديدا حين أقول إن مصدر جماهيريته في عقدي الثمانينيات والتسعينيات أنه باع للناس فانتازيا عن أنفسهم، أنا أحد المشترين، أعرف وأدرك وأتعامى ككل محبيه عما يلتقطه كارهوه من افتعال ينفلت منه من حين إلى آخر، ويبلغ ذروته في مسرحيته التي عرضت قريبا “بودي جارد”.

طفل كبير

طفل، قدر له أن يجسد على الشاشة كل خيالاته عن نفسه، لكن بدلا من أن يفعلها في غرفته مؤتنسا فقط بخياله، أعطاه القدر أدوات تحقيقها. أن يجسد ما أحب أن يكونه، لا حقيقته وأن يخترع لها أجسادا وأسماء وشخصيات، وأن يجد حكاية توثقها كاميرا، وعشرات اللاعبين اللذين لا هدف لوجودهم سوى أن يساعدوه على استكمال الفانتازيا. الآن أدرك سبب افتتاني به.

بائع الفانتازيا يعيشها في الأساس بكل جوارحه، تصير بضاعة سخيفة عندما يفشل في تصديقها، لكنها تصير شيئا لا يطاق عندما يتماهى معها بالكامل.. خيط رفيع بين الجاذبية والافتعال.

خلف قناع المقاومة

خارج الفانتازيا يصير عادل إمام ممثلا كبيرا، بالغ الإمتاع لا يملك أعتى الممثلين موهبة أو ثقافة أن يناطحه، الشرط الوحيد أن يستخرج حقيقته، فهو لا يستطيع التقمص وكل دور لا جذر له بداخله يقوم بتنميطه. يحقق ذروة أداء استثنائي يلامس القلب، عندما يلامس حقيقته أولا، كرجل هش، يكتنز عاطفة حقيقية للحب، رقيق مع الأطفال، يرى نفسه ندا لكل من في طبقته، ويشعر بالغرابة والارتباك تجاه من هم أدنى منهم، ومقاومة ممزوجة باحتقار لكل من هم من أعلى عنه مردها الغرابة أيضا، فهو ليس مناضلا على أي مستوى، صراعه مع السلطة عبر السخرية منها غير أصيل، فخلف قناع المقاومة يبحث عن نقطة انسجام، اعتراف من منطقة قوة.

كأغلبنا سيصالح الأب الذي يخفي حبه خلف الصرامة وبلادة القسوة. ربما من هنا تنبع في عقله، النكتة، ويرى في التناقض مهزلة لا مأساة. لكن عينيه لا يخطئان الحزن أبدا، يشع منهما بنبل، بدفء، ويتحول وجهه إلى تمثال رقيق للكرامة. لا يحب الصراخ، فهو يحول كل حزن إلى نكتة، خطيئة لن يرتكبها كوميديان بالفطرة. كل ما يسعى إليه بإثارة الضحك، سبب بسيط وهش: الحصول على الحب. تلك حقيقته التي يهرسها التماهي مع أشباح الصورة التي صنعها لنفسه.

اقرأ أيضا:

بورتريهات متخيلة (1).. عفاف راضي.. كغيمة أبدية دون مطر

بورتريهات متخيلة (2): ماجدة الخطيب.. مُقَامَرة الآن أو الأبد

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر