الإهمال يضرب أقدم المدن المصرية.. «شيدت المدينة الزائلة»

تحت أكوام القمامة والحشائش تناثرت أطلال أهم المدن المصرية على الإطلاق. “شيدت” المدينة المعروفة باسم أرسينوي أو كيمان فارس أصل محافظة الفيوم. ذكرتها نصوص الأهرام منذ حوالي 4300 عام، وشهدت عصور وحضارات متتالية انتهت تحت قلاع المباني الخرسانية. ما يقارب 122 فدانا مساحة المدينة الأثرية التي تعج بالآثار الفرعونية والرومانية واليونانية والقبطية اختفت والباقي مهدد أيضا.. «باب مصر» يستعرض القصة.

مدينة شيدت

يقول الدكتور ناجح عمر علي، أستاذ الآثار والحضارة المصرية القديمة بجامعة الفيوم: “على أنقاض مدينة “شيدت” القديمة تم بناء منطقة كيمان فارس بالفيوم. ولم يتبق من المدينة سوى عشرات الأفدنة تم تشييد الجامعة والمباني المحيطة بها عليها. ولا يوجد من المدينة سوى بعض المواقع المتناثرة والمهملة مثل الموقع الذي يقع بجوار مستشفى الجامعة. وهو عبارة عن بقايا معبد يرجع لعصر البطالمة وبقايا أرضية حمام يعود لنفس الحقبة الزمنية”.

وتابع: يعود تاريخ مدينة “شيدت” إلى العصر الحجري الحديث. حيث عرف المصري القديم الزراعة وارتبط بالأرض، وأصبحت هويته مصرية وذلك على حواف بحيرة قارون التي كانت تشغل كل محافظة الفيوم وكانت مركزها في ذلك الوقت، في الألف السادسة قبل الميلاد.

واستطرد علي حديثه: مدينة “شيدت” تأسست في عصر الملك نعرمر، أول ملوك الأسرة الأولى، ومعناها الأرض المستخلصة أي المستصلحة من مستنقعات بحيرة قارون التي لم يتبق منها سوى 55 ألف فدانا حاليا.

وتؤكد الوثائق الأثرية على عراقة وقدم “شيدت”. ففي عهد الملك “خع سخموي” في الأسرة الثانية، ورد اسمها على ختم يرجع لهذا الملك، عثر عليه في أبسدوس بسوهاج وأطلق عليها اسم “حور شيدت” أي المنتمية لحورس المعبود الرسمي لمصر.

وفي الأسرة الثالثة أطلق على إقليم الفيوم اسم “أش رسيت” بمعنى البحيرة الجنوبية. وأطلق عليها في عهد “ني أوسر رع” اسم “نعرتت حنتت”، والذي يعني الشجرة السفلية، وفي نصوص الأهرام في عصر الأسرة الخامسة ذكرت شيدت مرتين.

الدولة الحديثة

أما في عصر الدولة الحديثة عصر الأسرات (18- 20) ذكرتها النصوص باسم “با يم”، بمعنى اليم أو البحيرة. وفي العصر المتأخر وردت في النصوص باسم ” واج ور”، بمعنى الأخضر العظيم إشارة إلى بحيرة قارون.

وذكر أستاذ الآثار، أنه ازدهرت مدينة “شيدت” في العصرين البطلمي والروماني. وأطلق عليها اسم كروكوديلوس بمعنى مدينة التمساح، وتغير الاسم في عهد بطليموس الثاني وأطلق عليها إقليم “أرسينوي” وهو الاسم الأشهر لها  تكريما لأخت بطليموس الثاني.

وتابع: أطلق عليها اسم “موريس” نسبة لبحيرة موريس المشتق من الاسم المصري “مر ور”. وعرفت في القبطية باسم بيوم وجاءت مشتقة من اسم “با يم” المصري القديم، حيث كانت مقرا للأساقفة الأقباط.

ومع دخول الإسلام، تم هجر “شيدت” المدينة العريقة. حيث تم بناء المساجد على ضفاف بحر يوسف في الجانب الآخر من المدينة والتي تبعد عن شيدت. وقلبت “الباء” فاء في العربية، فأطلق عليها فيوم. ثم دخلت عليها “ال” التعريف فأصبحت تسمى الفيوم. وتم هجر المدينة حتى صارت مجرد أكوام من الحطام، واندثرت الآن ولم يعد لها أي أثر.

يشار إلى أن الدكتور ناجح، قام بعمل حفائر خاصة بكلية الآثار، جامعة الفيوم في عام 2016 وحتى 2017 بمعاونة طلبة الكلية.

ويقول عن موقع الحفائر: “الموقع المجاور للجامعة هو جزء باقي من مدينة شيدت، وتحديدا في العصر البطلمي. حيث يوجد بقايا جدار حجري عليه نقش خرطوش يعود للملك بطليموس. وعثرنا أثناء البحث في رديم وحفائر المدينة التي قامت به منطقة الآثار، على بعض اللقي الأثرية من عملات وتماثيل تراكوتا عليه وجوه من عهد البطالمة. بالإضافة لبعض الأواني الفخارية، ولا يزال الموقع قابل للعمل الأثري والبحث مرات أخرى، لاستخراج المزيد”.

ويختتم حديثه بقوله: “لو كان هناك أدني اهتمام ما كان بُني قالب طوب أحمر في شيدت ولأصبحت مدينة سياحية عالمية، لكن للأسف هذا هو حالنا”.

سلسلة تعديات

بعد هجر مدينة “شيدت” إبان العصر الإسلامي، أصبحت المدينة عبارة عن تلال عالية متسعة. وبحسب ما ذكر علي باشا مبارك في أحد كتبه التي اهتمت بالتاريخ التي يقول فيها: “شيدت بلغت مساحتها نحو ألف فدان من التلال العالية، ويعرفها الأهالي باسم “كيمان فارس”، نسبة لتلك التلال”.

وظلت شيدت أو أرسينوى الجميلة، عبارة عن أطلال وأكواما من الحجارة، تحكي تاريخ طويل تم تدميره حتى مطلع القرن العشرين الميلادي. حيث تم تحويل أجزاء كبيرة من المدينة المهجورة إلى أرض زراعية. وتم تقسيمها إلى حوضين (كيمان فارس الغربي، وكيمان فارس القبلي). وكل حوض ضم مجموعة من الأفدنة.

وفي عام 1970 استلمت الأملاك الأميرية منطقة كيمان فارس. وانتقلت المدينة بعد ذلك للمحافظة عام 1980، مع الاحتفاظ بخمسة مواقع من المدينة القديمة “شيدت” تحتوي على بعض الآثار التي مازالت قائمة، وهم (معبد بطليموس، الحمام الكبير، الحمام الصغير، المعبد الشمالي معبد أمنمحات الثالث، الحمام الجديد).

وبدأ البناء على أرض مدينة شيدت والتوسع العمراني. حيث استحوذت مباني جامعة الفيوم على مائة فدان، ونشطت حركة المباني والعمران من مساكن شعبية ومصالح حكومية، وحديقة وغيرها.

معبد سوبك

كان معبد “سوبك” أو المعبد الشمالي الذي بناه الملك أمنمحات الثالث منذ حوالي 3800 عام لعبادة الإله “سوبك” التمساح معبود الفيوم، سيئ للغاية. فقد ظلت أعمدة المعبد الكبير بمدينة “شيدت” باقية حتى العصرين الروماني واليوناني. وتم تفكيك المعبد وتكسير أعمدته التي بنيت من حجر الجرانيت الأسواني، وإعادة استخدامها في بناء المعابد الرومانية.

وبالرغم من فناء المدينة بالكامل، إلا أن بعضًا من أطلالها مازال باقيا إلى الآن في الأراضي الزراعية، تحاوطه الوحدات السكنية بكيمان فارس. وتم نقل العديد من العمدان والتماثيل في مطلع الثمانينات إلى منطقة كوم أوشيم بمدينة كرانيس القديمة.

وحول عملية النقل وتفاصيل حفر المنطقة، يقول أحمد عبدالعال، مدير عام آثار الفيوم الأسبق لـ”باب مصر”: “تم تعييني بمنطقة آثار الفيوم في مطلع الثمانينات بعد تخرجي في كلية الآثار جامعة القاهرة. لكن قبلها عملت بشكل مؤقت كمراقب تابع للآثار بمنطقة كيمان فارس.

حيث بدأ وقتها العمل بها بقصد تحويلها إلى مناطق سكنية ومصالح حكومية. وكانت شركات خاصة هي المسؤولة عن الحفر، تحت إشراف من وزارة الآثار. وكان عمل المراقب يتلخص في مراقبة ما قد يتم العثور عليه من آثار أثناء الحفر، ويقوم بتبليغ الآثار والتحفظ عليها”.

أرض المدينة

وتابع عبدالعال: قبل أن تتسلم الأملاك الأميرية أرض “شيدت” في مطلع السبعينات، كان لابد من عمل حفائر لضمان أن الأرض لا يوجد بها أي آثار، لكن عملية التنقيب لم تتم بطريقة علمية صحيحة. فمن قام بالتنقيب هم طلبة المدارس الثانوية العسكرية وكان يطلق عليهم “الفتوة”، استعانت المحافظة ومنطقة الآثار بهم لعمل الحفائر. فهل يعقل أن طلبة المدارس الثانوية يقومون بالحفائر على مساحة أكثر من 500 فدان وهم لا يعلمون عن طريقة التنقيب والحفائر شيء!

يكمل، بعد انتهاء الطلبة من عمل الحفائر، خرجت النتائج بخلو المنطقة من الآثار. ومن ثم تم تسليم المدينة عام 1970 بموجب محضر تسليم رسمي، وهو نفس المحضر الذي استلمت به المحافظة الأرض عام 1980 لعمل توسع عمراني مع الاحتفاظ بخمسة مواقع في حيازة الآثار.

وأوضح: نعلم جيدًا أن المنطقة لازالت تحتفظ بآثار لم تكتشف بعد. وأن ما نُفذ بها من حفائر لم يُنفذ بطريقة علمية. لذا وقفنا دائما في الآثار ضد تعديات كثيرة. وكان بيننا وبين المحافظة العديد من القضايا، لكن البناء كان مستمرًا دون توقف في جامعة الفيوم.

يقول عبدالعال: “أوقفت عمل المحافظة حفريات في أماكن كثيرة، وهو ما نتج عنه العثور على العديد من الأواني الفخارية، والعملات، والمسارج، وتماثيل التراكوتا، وبعض التماثيل الحجرية الكبيرة التي تم نقلها. ووصل الأمر أنني أوقفت بناء إحدى العمارات السكنية وبعد التنقيب اكتشفنا وجود بقايا لحمام روماني كامل، يوجد الآن بين المساكن”.

ويعتقد أن منطقة المعبد الشمالي، والتي استخرجت منها تماثيل للملك رمسيس. وهو المعبد الذي بناه أمنمحات الثالث هي أهم المناطق، وأنها منطقة واعدة لا تزال تخبئ الكثير الذي يحتاج إلى الكشف عنه.

إنقاذ المدينة

ويردف عبدالعال: حاربنا كثيرًا لإنقاذ البقية الباقية من المواقع الأثرية الخمس الباقية، وقمت بعمل العديد من البلاغات أثناء إدارتي لمنطقة آثار الفيوم. منها بلاغات تعدٍ وبلاغات خاصة بالمياه الجوفية ومياه الصرف الصحي التي تغرق تلك المناطق وأدت إلى دمارها، وسرقة الأسوار الحديدية. وتدخلت النيابة الإدارية والرقابة الإدارية والعديد من الجهات.

ويختتم حديثه بقوله: “منطقة كيمان فارس هي بؤرة ونقطة سوداء في ملف آثار الفيوم، ويجب تكاتف الجميع للحفاظ على ما تبقى من شيدت”.

 الكتل السكنية

المواقع الأثرية الخمسة الباقية من مدينة “شيدت” تقع الآن داخل الكتل السكنية. لكن المتابع لتلك الأماكن، يرى ما بها من إهمال. فقد أصبح البعض منها مكبا للقمامة، وآخر تنمو به الحشائش.

يقول الدكتور علي البطل، مدير عام آثار الفيوم: “استلمت العمل منذ قرابة ثلاثة شهور، ونعرف أن الأماكن الأثرية الموجودة بمدينة الفيوم تعاني من الإهمال لكن ذلك بسبب تداخلها وقربها من المباني السكنية. مما يجعلها عرضة لتعدٍ الأهالي وإلقاء القمامة والحيوانات النافقة”.

وتابع: أما بالنسبة للمواقع الخمسة الباقية من مدينة “شيدت” -كيمان فارس حاليًا- فقد قامت الوزارة بترميم موقع الحمام الروماني الجديد آخر مساكن التعاونيات. وقامت لجنة من بعض الأثريين والمرممين ولمدة شهرين بعملية الترميم، وتنظيف المكان وإزالة الحشائش.

وبالنسبة لموقع معبد رمسيس، فقد قام فريق الترميم وفريق الأثريين بمنطقة آثار الفيوم، بتنظيف المعبد، ومعالجة الكتل الجرانيتية وما بها من نقوش. وأوصت اللجنة المشكلة من الفريقين بضرورة نقل كتلة ضخمة من الجرانيت إلى المتحف المفتوح بكوم أوشيم، نظرًا لتضررها بسبب وجود المياه تحت السطحية. وتمت مخاطبة المحافظة والوزارة بذلك، وفور الموافقة سيتم النقل.

ويكمل البطل، بالنسبة لموقع معبد بطليموس، جاري تكليف فريق عمل، ليقوم بإزالة الحشائش ونظافة المعبد. حيث إنه كلما نقوم بإزالة الحشائش تنمو مرة أخرى.

وعن آخر المواقع وهو موقع الحمام الكبير الذي يمتلئ بأكوام القمامة ووجود الحيوانات. يقول البطل: “تقدمت محافظة الفيوم وجامعة الفيوم بطلبات لإنشاء مستشفى للأورام تابعة للجامعة على هذه المنطقة. وقامت المحافظة ببناء سور حولها لحمايتها من تعدٍ الأهالي، وجارى الآن الحصول على موافقة المجلس الأعلى للآثار”.

واختتم مدير الآثار حديثه بقوله: “لإيماننا بأهمية المواقع الأثرية والحفاظ عليها. قامت الإدارة الحالية بإنشاء إدارة جديدة تسمى (إدارة الوعي الأثري). وتهدف لتنمية الوعي الأثري لدى المواطنين وطلبة المدارس. وتم عمل بروتوكولات تعاون مع كل من التربية والتعليم ومديرية الصحة. وذلك لإذكاء روح حب الآثار وتعميق الانتماء إلى تاريخ وحضارة الأجداد”.

المدينة الزائلة

كانت آخر التعديات على ما تبقى من “شيدت” منذ أعوام قلائل، بردم أحد المواقع الخمسة، وهو عبارة عن بقايا حمام روماني قديم يقع داخل حرم الجامعة، بالقرب من كلية السياحة. لكن فضلت الجامعة ووزارة الآثار ردمه وعمل حديقة أعلاه بدلا من إحاطته بسور لتعريف الطلاب به وبتاريخ المكان، الذي بنيت عليه مباني الجامعة، كي تُخفي آثار الجريمة للأبد.

” المدينة الزائلة”.. كتبت تلك الجملة على إحدى اللوحات بجوار ما تبقي من أعمدة وتماثيل بمعبد أمنمحات الثالث، بمنطقة كوم أوشيم. وبالفعل أصبحت “شيدت” مدينة زائلة. سواء عن عمد أو إهمال. والسؤال هنا هل ستصمد باقي المواقع الباقية أمام تلك التعديات، أم ستختفي مع الأيام؟

اقرأ أيضا

حوار| الدكتور باسم جهاد: العثور على مقبرة حجرية وبورتريهات للفيوم في منطقة فيلادلفيا

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر