أسامة أنور عكاشة على الوثائقية: مادة ثرية.. تنقصها الحيوية!

بعد وحيد حامد، هاهي قناة الوثائقية تبدأ في عرض فيلمها الوثائقي “أسامة أنور عكاشة” الذي يتناول سيرة وأعمال كاتب المسلسلات الأشهر، الذي لقب بـ”نجيب محفوظ التليفزيون” و”أديب الدراما التليفزيونية”. وصاحب الأعمال الأكثر شعبية مثل “ليالي الحلمية” و”الشهد والدموع” و”أرابيسك” وغيرها.

من كل بستان زهرة

من أفضل الأشياء التي حدثت في ميدان الإعلام الفضائي والتليفزيوني خلال السنوات الأخيرة أنه أصبح لدينا قناة وثائقية. مهمتها عرض وإنتاج البرامج والأفلام الوثائقية، بما تحمله هذه النوعية من قيمة تاريخية وثقافية وعلمية.

ورغم أن القناة تهتم بالحيوانات كثيرا. إذ يبدو أنها اشترت عددا كبيرا من المواد التي تدور عن عالم الحيوان، إلا أنها تتحفنا من حين لآخر ببرنامج علمي جيد. مثل “صناعة المستقبل” الذي يدور عن علاقة الإنسان بالآلة، أو فيلم تاريخي طريف، مثل “أنفاق هتلر السرية”، أو فيلم فني غير متوقع مثل “أفلام بيرجمان المفضلة”.

عالم الوثائقيات شديد التنوع والثراء بالطبع، وهناك محطات عالمية متخصصة في حياة الحيوان أو الطبيعة أو التاريخ أو العلوم أو الشعوب. ومن المؤكد أن قناة “الوثائقية” لا يمكنها أن تغطي كل هذه العوالم، ولكن بما أنها الوثائقية الوحيدة، وبما أنها قناة عامة، فمن الطبيعي أن تحاول تغطية كل المجالات. أو بمعنى آخر أن تصبح باقة تضم من كل بستان زهرة. ويبقى بعد ذلك مشكلة تنسيق هذه الزهور بشكل منظم وجميل ومريح.

اختيارات متميزة

لا تقتصر القناة بالطبع على المواد الأجنبية. وقد قدمت بعض الأعمال التاريخية مثل فيلم “ثورة 1919” وأعمالا عن أعلام الفن والأدب المصريين. مثل نجيب الريحاني وراقية إبراهيم ويوسف إدريس، وكذلك أعمالا عن الأكلات المصرية والفرق بين الطرب والكفتة!

وفي مجال كتابة السيناريو اختارت القناة اسمين من أعلام الكتابة السينمائية والتليفزيونية وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة. فأحسنت الاختيار، ومن يمكن أن يضاهي هذين الاسمين شهرة وتأثيرا؟

يتكون فيلم “أسامة أنور عكاشة” من جزئين مدة كل منهما 45 دقيقة. يبدأ الجزء الأول بطفولته وموت أمه مبكرا، وينتهي بأيامه ولحظاته الأخيرة، متتبعا حياته المهنية، منذ أن كان ينوي أن يصبح أديبا. إلى أن جذبه عالم التليفزيون بالصدفة، فوجد نفسه فيه وأصبحت عبارته المفضلة تعليقا على هذا الأمر: “كل ميسر لما خلق له”.

بحث وضيوف وتمثيل!

بالفيلم بحث وإعداد جيدين، وضيوف متنوعين ما بين نقاد وكاتب سيناريو وفنانين شاركوا في بطولة أعماله، ومخرجين لاثنين من هذه الأعمال. وابنته التي تروي تفاصيل شخصية عن عكاشة الأب والزوج، وراو يعلق على ما نراه. فيذكر شيئا عن حياته مرة، أو يلقي بجملة عن أهميته مرة. وبالطبع مواد كثيرة من أعماله التليفزيونية، وإن كان الفيلم يتجاهل أعماله السينمائية لسبب غير مفهوم. ربما يتعلق بالحصول على حقوق استغلال هذه المواد!

وبالإضافة لما سبق يحتوي الفيلم على مشاهد تمثيلية لولد يشبه أسامة أنور عكاشة صغيرا، ورجل يشبهه كبيرا. وهي حيلة تلجأ إليها الأعمال الوثائقية أحيانا لتعويض نقص المادة الأرشيفية (علما بأن هذا النقص ليس موجودا في حالتنا. إذ ما أكثر المواد الحية التي كان يمكن الاعتماد عليها) وأحيانا لجذب المشاهدين المعتادين على الأفلام الروائية. وربما يكون هذا هو السبب هنا، وإن كنت شخصيا، كمشاهد، لا أستسيغ هذه الحيلة بالمرة. إلا في بعض الأعمال التاريخية القديمة التي لا تتوفر مادتها.

خصوصية عكاشة

الفيلم بشكل عام تحية تستحق التحية لاسم مبدع كبير، كان، بجانب أعماله، مفكرا وكاتب مقال وصاحب رأي ومناضل في سبيل التنوير والتقدم، ووطنيا صادقا، ومؤمنا صلدا بحقوق الغلابة والديمقراطية وحرية التعبير. ومن حسنات الفيلم أنه ينتبه للخصوصية التي ميزت أعمال عكاشة. خاصة أعماله المبكرة، وهي مستوى أفكارها وحوارها الأدبي، وكأنها بالفعل أدبا تليفزيونيا. وهي خاصية نادرة، ربما لا نجدها سوى عند القليلين مثل عبدالرحيم كمال.

ولعل الخاصية الثانية الأكثر تميزا في أعمال عكاشة هي إحساسه الجبار بالإيقاع الدرامي، في تدفق الأحداث والحوار، قبل زمن الفيديو كليب والديجيتال والإيقاع المصطنع بكثرة الكاميرات وكثرة التقطيع. وبأقل الإمكانيات كان مخرجون من أمثال إسماعيل عبدالحافظ وجمال عبدالحميد يحولون هذا الإيقاع المكتوب إلى معادله البصري المناسب.

والفيلم لم يكن يحتاج فقط للإشارة إلى حيوية الإيقاع في أعمال عكاشة. ولكنه كان يحتاج أيضا إلى أن يستلهم هذه الحيوية في بناءه ومونتاجه.

بناء تقليدي وإيقاع بطيء

المادة التي يعتمد عليها فيلم “أسامة أنور عكاشة” ثرية ويمكنها أن تصنع عملا متكاملا، ولكن مشكلته هي قالبه التقليدي، وإيقاعه البطيء. واعتقد أن صناع الأفلام الوثائقية في قناة “الوثائقية”، وفي مصر عموما، يحتاجون إلى دورات مكثفة في البناء والإيقاع والمونتاج. فأعظم المواد تتحول على أيدي معظمهم إلى أعمال متوسطة أو متواضعة، بسبب ترهل البناء وبطء الإيقاع. فهل يعقل مثلا أن يتحدث ثلاثة أو أربعة ضيوف بالتوالي عن نقطة ما، مثل المرأة في أعمال عكاشة. فيبدأ كل منهم جملته بذكر اسم “أسامة أنور عكاشة” ويكرر نفس الرأي الذي ذكره من قبله؟ ما يحدث عادة هنا هو أن بناءي الفيلم (السيناريست والمخرج، وهما واحد في حالتنا هذه) مع المونتير يقومون بتكوين فقرة واحدة متكاملة من كلام المتحدثين. كأنها لشخص واحد، بحيث يكمل كل منهم كلام الآخر.

اللقطات في فيلم عكاشة طويلة بشكل زائد، وكأن المواد المصورة لا تكفي لصنع تسعين دقيقة بإيقاع سريع. واعتقد أن المادة المصورة لم يكن بها مشكلة، فالمتحدثين كثيرين. ومن المؤكد أن فريق العمل قاموا بتسجيل عدد كبير من الساعات، ولكنها مشكلة البناء والإيقاع التقليديين، ويمتد هذا الإيقاع البطيء إلى عناصر الفيلم الأخرى من موسيقى تصويرية حزينة وإضاءة بنية وزرقاء معتمة. ولست أفهم سبب الحزن الذي يخيم على العالم فجأة كلما صنعنا فيلما أو برنامجا عن عظيم راحل؟!

مشكلة أخرى تتعلق ببناء الفيلم أن بعض عبارات المتحدثين وتعليقات الراوي لا تنضبط مع التقسيم الذي وضعه المخرج للمادة. فمثلا النقطة التي أشرت إليها حول المرأة في أعمال عكاشة، يوجد جمل تتحدث عن الموضوع نفسه بعيدا عن الفقرة المخصصة للموضوع.

التحية واجبة، مرة ثانية، للقناة الوثائقية على إنتاج مثل هذه الأعمال، والملاحظات يمكن التماس العذر لها بحداثة القناة، طالما أن هناك استعداد لتداركها، ورغبة في التحسين والتطوير.

اقرأ أيضا:

تراجيديا لكن هزلية

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر