«أرشيف بيكيا»: «مازوفشا».. فرقة شعبية بولندية لإحياء ليالي رمضان في «دمنهور»

عندما تحررت شعوب العالم الثالث من سطوة الاستعمار الأوروبي، ظهرت خريطة جديدة للعلاقات الدولية، وتجدد مفهوم الدبلوماسية الثقافية. أي استخدام المنتجات الثقافية لإنشاء قنوات مؤسسية رسمية للتواصل بين الدول. ازدادت زيارات فرق الغناء والرقص والمسرح في المناسبات الرسمية آنذاك، كما تزايدت معارض الكتب ومهرجانات السينما الدولية. كان الغرض الأساسي من تلك الفعاليات الثقافية هو توطيد العلاقات بين المثقفين والسياسيين والدبلوماسيين المدعوين بعضهم البعض، وتقديم زبدة الإنتاج الثقافي الخاص بكل دولة. بينما كانت تصنع شعوب العالم الثالث ثقافة دولية مشتركة حول مبادئ مثل معاداة الاستعمار وتطوير الصناعة. كانت الأجهزة الثقافية الخاصة بكل دولة ترسخ تصورا قوميا متزمتا عن طبيعة ثقافتها الاستثنائية في الحقل الدولي.

تتجسد تلك المفارقة في مفهوم “الفلكلور”، فهو مفهوم ظهر مع الاهتمام النامي بتاريخ الإنسانية العميق في القرن التاسع عشر. ولكنه انتشر مع صعود الحركات السياسية القومية التي تخلد الوطن باسم وجوده الأزلي في بدايات القرن العشرين – وهو أمر واضح في فكرة “شخصية مصر الخالدة” مثلا. أصبح الفلكلور القومي أداة سياسية بامتياز. ويعد استخدامه كأداة للدبلوماسية الثقافية تحديدا من ملامح فترة الحرب الباردة والتحرر القومي. عندما انتشرت زيارات الفرق الفلكلورية عالميا. شاركت مصر في إرسال فلكلورها المحلي إلى العالم واستقبال الفلكلور العالمي محليا.

***

فمثلا في يوم 30 ديسمبر 1967، قدمت فرقة بولندا للرقص والغناء الشعبي المعروفة باسم “مازوفشا” (Mazowsze) عرضا مجانيا على مسرح قاعة المدينة بدمنهور. جاء العرض في إطار ليالي رمضان الثقافية، وهي مجموعة من الفعاليات أعدتها قصور الثقافة «لإعادة تعبئة الروح القومية بعد النكسة بمناسبة شهر رمضان الكريم في ديسمبر 1967 ويناير 1968». حسب التقرير الذي أعده المشرف المسرحي في قصر ثقافة البحيرة، والذي أرسله مدير القصر إلى الإدارة المركزية للثقافة الجماهيرية.

حضر العرض 1700 مشاهد من أهالي دمنهور في مسرح لم يحو أكثر من 700 كرسي. مما يدل على النجاح الجماهيري الساحق لعرض مسرحي أجنبي في إحدى المدن الريفية الصغيرة. لم يحمل التقرير ملاحظات أخرى عن العرض، واكتفى بالإشارة إلى تقرير اليوم السابق عن نفس الفرقة. حيث صرح المشرف المسرحي بالملاحظتين الآتيتين: “عرض خلاب ممتع” و”سار كل شيء على ما يرام”. يسمح لنا اقتضاب التقرير بإطلاق خيالنا حول لحظة استقبال الجماهير الحافلة في دمنهور للفنون الشعبية البولندية على مسرح مدينتهم. فلم يحظ واقع هذا الاستقبال على اهتمام كافي إلى الآن.

صورة التقرير
صورة التقرير
***

يستوقفني في هذه الوثيقة لفظ إداري عابر، ولكنه محمّل بدلالات أعمق في إطار البيروقراطية المصرية، وهي كلمة “يُعتَمَد”. يضع مدير الثقافة بالبحيرة تلك الكلمة بجانب إمضائه أسفل التقرير، والذي يقع بجانب إمضاء اللجنة المسرحية وختم النسر. أي الرمز المؤسسي الأول لاعتماد الورق في دولة يوليو.

لقد تحدثت في مقال سابق عن “الاعتماد” المالي الذي تعتمد عليه إدارات الدولة للصرف على مشاريعها، ولكن التقارير “تُعتَمَد” بمنطق آخر. ليس الاعتماد منبعا للأموال الحكومية في هذه الحالة. ولكنه تعبيرا عن ثقة الموظف في سلامة الأوراق الموقع عليها. كلما ارتفعت مرتبة الموظف، كلما كان اعتماده أقوى في سائر الإدارات الحكومية. فليس للورقة التي تعتمدها اللجنة المسرحية بقصر ثقافة البحيرة مثلا نفس وزن الورقة التي يعتمدها مدير القصر مع وضع ختم النسر. حيث تؤكد كل هذه التصديقات المتسلسلة قوة الورق المتداول في الإدارة.

إذن عندما يضع مدير الثقافة بالبحيرة لفظ “يُعتَمَد” على الورقة، لا يكتفي بالموافقة على المحتوى الذي ورد في التقرير فقط، بل يؤكد أنه تقرير سليم تم الاعتراف به رسميا. ولكن ماذا يعني الاعتماد في سياق هذا التقرير تحديدا؟ ولماذا لا يرسل المشرف المسرحي تقريره عن زيارة فرقة “مازوفشا” إلى الإدارة المركزية للثقافة الجماهيرية دون المرور بكل هذه الإمضاءات والأختام؟ هناك إجابتين مبدئيتين: أولا، لابد من الروتين البيروقراطي حتى يتم التصديق على المعلومات التي أتت في التقرير. فبدون إشراف التراتبية الوظيفية، ليس للمعلومات عن عدد المشاهدين وعدد المقاعد في المسرح وزنا في إطار الحسابات الحكومية. وثانيا، يستدعي الحدث الاستثنائي الذي أتى بالفرقة البولندية إلى الريف المصري عملا إداريا صارما – بقوة ختم النسر نفسه – حتى يثبت نجاح الإدارات المحلية في إعداد وتقديم مادة ثقافية رفيعة لرواد قصر الثقافة. إذن يؤكد اعتماد التقرير تفاصيل الحدث وأهميته القصوى بالنسبة للموظفين المنوطين بتنفيذه.

صورة التقرير بحفلة أخرى دون ملاحظات
صورة التقرير بحفلة أخرى دون ملاحظات
***

يدعي البعض أن دولة يوليو لم تتغير منذ نشأتها، من تناوبوا على الحكم يحكمون بنفس المنطق الاستبدادي مهما كانت خلفياتهم. وفي المقابل، توضح وثيقة اليوم الفرق بين الحكام العسكريين بعضهم البعض، فيستحيل أن تنفق الدولة التي بناها مبارك مثلا من جيوبها على تقديم عروض فرقة شعبية بولندية في دمنهور لضمان السلام والإخاء بين الشعوب. بينما يعد الأمر من المسلمات الأيديولوجية في إطار النظام الاشتراكي العربي الذي سعى عبدالناصر لبنائه بعد 1961.

ربما يرى البعض أن هذا التوجه الأيديولوجي يهدر الأموال العامة، وربما يرى البعض الآخر أنها خدمة ثقافية تعطي لمصر موقعا هاما على الخريطة الدولية، ولكن يبقى حس التفاؤل والتضامن بين الشعوب من المعالم الخاصة بالنظام الناصري دونا عن النظم اللاحقة. اختفى هذا الحس من دوائر الدولة العليا، وتحولت الدبلوماسية الثقافية إلى مجموعة من الاستعراضات الباهظة. تكشف وثيقة اليوم مسارات أخرى لعل اتخذتها العلاقات الدولية المصرية، مسارات تذهب من العالم إلى الأقاليم، ولكنها مسارات قد بددها الزمن.

اقرأ أيضا:

«أرشيف بيكيا»: «قافلة الثقافة».. سلم واستلم

للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي:

Babmsr Newsletter

النشرة الإخبارية الشهرية
مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر