أرشيف بيكيا: كيف نكتب تاريخنا المعاصر بعيدا عن الأرشيف الرسمي؟

من أين تأتي معرفتنا التاريخية؟

تعددت المصادر عبر الأجيال، بدءا من السير والتراجم والطبقات التي كتبها مؤرخو العصور العباسية والفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية، والتي تشكل شهادة حيّة عن الماضي الغابر. كما تقدم نموذجا معرفيا مختلفا للكتابة التاريخية بناءً على شهود العيان والإسناد الشفاهي ومراجعة الآثار المكتوبة. مع تطور مدارس التأريخ الحديثة في القرن التاسع عشر والعشرين، انتشرت الدراسة الوضعية للوثائق والمستندات كمصدر للمعرفة التاريخية المحترفة. وأصبحت الأرشيفات الرسمية مثل الدفتر خانة الخديوية وأرشيف عابدين التاريخي ودار الوثائق القومية من أهم المصادر للكتابة الخطية الدقيقة للتاريخ القومي. وعلى شرفة القرن الحادي والعشرين، تعددت المناهج والمواضيع البحثية. وانتبه المؤرخون المحترفون إلى مصادر أخرى مثل الدوريات والمطبوعات والتسجيلات الصوتية والأفلام والمعمار والتاريخ الشفاهي وإلخ لاستكمال ومساءلة المعرفة الكتابية التي أنتجها أسلافنا.

ورغم تعدد المصادر والمواضيع، وتراكم الكتابات التاريخية الهائل عبر العصور. فهناك فجوات فادحة في معرفتنا عن تاريخ مصر، وتحديداً تاريخ الدولة المصرية الحديثة. رغم اهتمام الباحثين الشديد بتأريخ التطورات السياسية التي مرّت بها البلاد. إلا أن معرفتنا عن آليات وسبل تدبير الإدارة الحكومية اليومية في دولة يوليو لم تحظ على القدر الكافي من الاهتمام. بينما تنتج أجهزة الدولة سرديات قوية وموّحدة ومهيمنة عن طبيعتها التاريخية. لا يصحب هذا الخطاب إلا القليل من الدراسات المرموقة المستندة إلى البحث الجاد في المصادر المتناثرة التي تركتها الدولة الناصرية والساداتية والمباركية.

***

يبدأ «أرشيف بيكيا» من هذه النقطة، حيث تتعثر دراسة دولة يوليو بسبب عدم إتاحة أو غياب المصادر الرسمية في دار الوثائق القومية أو غيرها من أرشيفات الدولة. يهدف هذا الباب أولا إلى توسيع رقعة الاهتمام بالوثائق الإدارية المتاحة في أسواق الكتب والأوراق القديمة في القاهرة والمحافظات. أو في الأوراق الشخصية للموظفين والمسؤولين الحكوميين. في الظرف الحالي، تعد تلك الأسواق والأوراق من أهم المصادر المتاحة لدراسة دولة يوليو. ويسعى هذا الباب للتعريف بأهميتهما وتشجيع جميع المهتمين بالشأن التاريخي على إعادة النظر في تاريخ مصر عبر قراءة جديدة ومُجدِّدة لهذه المصادر.

سيهتم الباب بالتاريخ الثقافي المصري الرسمي نموذجا، أي تاريخ المؤسسات الثقافية التي أنتجتها أو طورتها دولة يوليو. وسيشرح كيف تساهم وثائق الأسواق والأوراق في إعادة تشكيل السرديات الرسمية حول دور الثقافة في حياتنا. ولا يقتصر الغرض على تعريف القراء بالسياسات الثقافية وتأثيرها على المجتمع المصري فحسب. بل يتسع الغرض أيضا إلى مشاركتهم في مطبخ الصَنعة التاريخية. ودعوتهم إلى التساؤل والتحليل والتأويل والبحث بناءً على المصادر المتاحة خارج الأرشيفات الرسمية.

***

وأخيرا، سيعتني «أرشيف بيكيا» بتحليل اللغة البيروقراطية المصرية. وهي لغة خاصة وشديدة التعقيد، تعود ملامحها الحديثة إلى الإدارة العثمانية. ثم المكاتبات الفرنسية في العهد الخديوي، ثم المكاتبات الإنجليزية في زمن الاستعمار البريطاني، ثم المكاتبات العربية السائدة بعد تعريب الإدارات في بدايات القرن العشرين. أسفر هذا التعدد اللغوي عن عدة مصطلحات وتعبيرات ومفاهيم بيروقراطية جعلت للدولة المصرية كيان مستقل. ولذلك تتركز كل حلقة من هذا الباب حول وثيقة إدارية بعينها، وكلمة إدارية بعينها. وتحلل الوثيقة والكلمة معا حتى تقترب من سردية مغايرة عن طبيعة الدولة المصرية. إذن فكل حلقة عبارة عن كلمة ووثيقة، ولكنها أيضاً كلمة وثيقة، أي كلمة ربما يوثق فيها.

كما يقول وائل عبدالفتاح «الوثيقة لا تُثبت ولا تنفي». في وجودها المجرَّد من السياق والعمل التحليلي، لا يمكن للوثيقة أن تحمل القدر الكافي من الثقل المعرفي حتى تؤكد وجهة نظر بعينها أو تستبعدها. وقد اعتاد الصحافيون استخدام الوثيقة سلاحاً في معركة الدفاع عن الحقيقة، وهم يظنون أن دور الوثائق الوحيد هو إثبات أو نفي بعض المعلومات الساخنة بخصوص مخابئ الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في المقابل، يقدم «أرشيف بيكيا» قراءة أخرى للوثيقة الإدارية، وهي ربما تبتعد عن القراءات المباشرة التي تقدمها الصحف والتاريخ الوضعي. ولكنها تدعو القراء لإعادة النظر في السياق العام الذي تعبر عنه الوثيقة وتشكل جزءًا منه. فلا يأتي الوثوق في الوثائق من قدرتها الذاتية فقط، بل يأتي من اشتباكها مع عالم سياسي واقتصادي واجتماعي أوسع.

وختاما، إليكم وثيقة العدد القادم!

من ثروت عكاشة إلى المشير عامر ..وثيقة الحلقة القادمة
من ثروت عكاشة إلى المشير عامر ..وثيقة الحلقة القادمة
اقرا أيضا:

أوراق جدودنا: من أجل تاريخ جديد

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر