الأزهر والثأر: كيف يمكن تجفيف منابع العنف؟

لا يمكن لظاهرة بدائية أن تستمر وهي تواجه مقاومة، لا يمكن أن ينشط القتل الثأري إلا بوجود فراغ ما، ودور المؤسسات الدينية أكبر من إعلان رفض الثأر، أو المشاركة في المصالحات الثأرية، وهي مشاركة سطحية في الغالب، أو إعلامية لأن قاعدة المصالحات تقوم على الأعراف الشعبية ورجالها من الأجاويد وقضاة الدم، أما حضور رموز المؤسسات المختلفة لحفل المصالحة فهو مطلوب، لكنه شرفي في المقام الأول.

دور المؤسسات الدينية يجب أن يستهدف الفراغ الذي يخلق المجال الحيوي للظاهرة، دورها الفعلي في مقاومة العنف على مستوى الجذور قبل الفروع، في وجودها أثناء الصمت الثأري لا في مناسباته واحتفالاته.

خطبة الجمعة

ذهبتُ إلى أكثر من قرية من القرى المشهورة بالثأر، وأخذت أتحرى عن دور رجال الأوقاف، ووجدت العجب العجاب، فيما يتعلق بمكانة إمام الجامع على المستوى الثقافي والمادي وقناعته بالرسالة التي يؤديها في المجتمع.

خطبة الجمعة على سبيل المثال، لا علاقة لها بالمشكلة، وهي نفس الخطبة التي يلقيها إمام آخر في الدقي أو مصر الجديدة.

موضوعات الخطبة محددة سلفا، ومن يقوم بوضعها يختار موضوعات عامة جدا، لا علاقة لها بالمشكلات الخاصة بالمكان. وهذا يحصِّن مشكلةً مثل مشكلة الثأر، ويُبعد عنها شيوخ الجوامع، ويجمدها، ويجعل دور المؤسسات الدينية سطحيا جدا أو إعلاميا.

خطبة الجمعة لا تقترب من مشاكل الثقافة التقليدية بشكل عام، لا تقترب من الثقافة القبلية وقضاياها المختلفة، لا تقترب مثلا من العائلات التي تحرِّم زواج بناتها من عائلات أخرى مهما كانت قيمة الزوج وإمكانيته الأخلاقية أو العلمية أو المادية، رغم تعارض ذلك مع الدين، لا تقترب من التعصب القبلي الذي يتسبب في الكثير من أحداث العنف، و  يغذي  الثأر، ويمنحه القدرة على التواجد والاستمرار، ولو قطعنا عنه ذلك الحبل السري القبلي  لتمكنا على الأقل من تحجيمه بدرجة كبيرة جدا.

قطرة وحيدة تمنع موتا

الحديث عن خطبة الجمعة كدورٍ وحيد  لوزارة الأوقاف مؤسف جدا، وهو في حد ذاته جريمة، خاصة في المناطق الريفية، لأن السلْم العام في القرية لا يقاس بوقائع القتل الثأري وحدها، بل بمشاكل كثيرة، تحتاج لوجود علماء الدين بين الناس، ولتفعيل المخزون الهائل والمُعطَّل من ثقافة التسامح، وتضييق نطاق العنف، ووقفه في مهده.

عندما تمنح الظمآن قطرة واحدة وتجري مسرعا بقربة الماء، دون أن يخطر في بالك فشل القطرة الوحيدة في منع الموت عن الظمآن، فهذا جرم كبير. في منع الماء قتلٌ وفي منع الوعي قتل.

نحلم بإمام مقيم في القرى الملتهبة على وجه الخصوص، إمامٍ تلقى دورةً علمية في ثقافة القرية وقضاياها، إمامٍ يملك خطة مدروسة لتجفيف منابع العنف، إمامٍ لا تقوم وظيفته على الصلاة بالناس فقط، بل تحقيق رسالة مضادة للثأر والمظاهر القبلية التي تتعارض مع الدين، ولكل مظاهر العنف، بداية من عنف الملامح والكلمات.

يجب أن تكون رسالة المؤسسات الدينية في حالة حواره دائم مع الناس،  في خطبة الجمعة، أو سرادقات العزاء، أو الأفراح، أو في جلسات خاصة يقيمها في المسجد، أو دواوين العائلات.

مواعظ

من أجل هذا الإمام الواعي المقيم المتحرك وفق خطة مدروسة، لا بد من وجود حوافز حقيقية، تجعل الأئمة يتسابقون على هذا الدور، وبدون ذلك، بدون علم وعمل ورسالة، سيلعب رجال الأوقاف دورا في دعم الثأر، وسوف يلطخ ملابسهم جزءٌ من دم الأبرياء الذي يسيل في تلك الخصومات.

لقد التقيت بعدد كبير من المشايخ وخرجتُ بانطباع ثابت في كل مرة، وهو اعتقادهم الخاطئ في كونهم يفهمون موضوع الثأر جيدا، وأن لديهم من المواعظ ما يجعلهم يتصدرون أي حديث عن الثأر، ومن أول جملتين، كنت أكتشف  فهمهم السطحي للموضوع، وهذا يعني أن خطابهم بالضرورة سيكون سطحيا وفاشلا، والغريب في الأمر اقرارهم بعدم قراءة  كتاب أو بحث علمي عن الثأر، وكذلك اقرار بعضهم  بعدم حاجتهم للقراءة عن الموضوع.

لدينا مشكلة في عدم استيعاب المشايخ لظاهرة الثأر بشكل عميق. ضعفُ الوعي بالمشكلة ـ وأبعادها النفسية والاجتماعية والقانونية والثقافية ـ يلعب دورا في انتشار الثأر بشكل غير مباشر، لأنهم لو تسلحوا بالوعي العلمي لقاموا بدور خلاق وما تركوا ذلك الفراغ الهائل يطعم العنف ويأويه.

فهم المشكلة

هذا يأخذنا للحديث عن الأزهر كمؤسسة علمية متداخلة مع الأوقاف، تبْني رجالها، وتؤسسهم ثقافيا.

هنا نجد التقصير الكبير في تقديم دراسات علمية حول الظاهرة، ولا شك أن جامعة الأزهر تمتلك ترسانة من الأساتذة الذين يستوعبون المناهج العلمية القادرة على فهم المشكلة بشكل عميق، ومن مختلف جوانبها، ونحن نرحب بحضور الأزهر في  المصالحات الثأرية ومباركتها، ودعمها فهذا مفيد، لكننا نريد من جامعات الأزهر  دراسات علمية عن الثأر، نريد خططا وبرامج يسهر على وضعها الأساتذة،  نريد  مؤتمرات لمناقشة القضية من جوانبها كافة، و تحفيز طلاب الدراسات العليا لعمل رسائل  جادة ومحترمة عن الثأر والثقافة القبلية والعنف في قرى الصعيد، نريد العلمَ من أجل فهم أعمق، وإبداع برامج مضادة قادرة على تحقيق نتائج إيجابية.

المؤسف هو لجوء المحافظين في الصعيد إلى مديريات الأوقاف كلما وقع حادث ثأري صارخ باعتبارها تملك الحل السحري، ودونا أن يطالبوها ببرامج وخططٍ فعالة، ودون أن ينتبهوا إلى أن تقصيرها جزء من الأزمة.

لا خطط ..لا برامج

قد لا أكون على صوابٍ، وأنا أعتبر رجال الأوقاف  سببا من أسباب انتشار الثأر، وأنا على استعداد للاعتذار والتراجع، متى قدم لي أحد الأفاضل  قائمةً بالدراسات والمؤتمرات العلمية التي  تدور حول ظاهرة الثأر وسبب استمرار الظاهرة حتى الآن، ومتى قدَّمتْ مديريات الأوقاف رؤية  وبرامج و خططا  قصيرة أو طويلة المدى للمساهمة في القضاء على ظاهرة القتل الثأري.

لا توجد دراسات علمية، لا توجد خطط وبرامج، لقد تعبنا من التعامل مع القتل الثأري كحدث عابر، ومن علاجه بالتصريحات كلما ظهرت مناسبة دامية.

اقرأ أيضا

مواجهة الثأر.. آذان وزارة الثقافة الصماء

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر