"يحل عليك بأبوشربي".. "تُربي" دشنا يروي تفاصيل مهنة "الأسرار"
تميزه نظرة عينيه الواثقة الغامضة، قناوي عبد النعيم، الشهير بأبو شربي، الفخور مهنته “التُربي” التي توارثها عن أجداده، وبدأ في ممارستها وهو في سن العاشرة، حين كان يصحبه والده معه في حالات الدفن ليعتاد على الأمر ولا يهاب الاقتراب من الموت، يبتسم قناوي متباهيا: بعد أكثر من 35 عامًا في هذه المهنة يمكنني أن أنام نوما هنيئا داخل القبور ووسط الموتى.
يحّل عليك بأبو شربي
قناوي لا يرى غضاضة من تسميته بالتربي أو الحفار، لكنه يفضل مناداته “أبو شربي”، وهو لقب عائلته منذ نحو 150 عامًا، مشيرا إلى أن أول من مارس مهنة التربي في عائلته كان جده الأكبر أبو شربي، وانتقلت المهنة عبر أجداده إلى أن وصلت إليه.
يضحك قناوي قائلا: في معظم بلاد الصعيد تسمى العائلة التي تمارس مهنة دفن الموتى بالحفار أما عائلتي فقد اشتهرت أكثر بلقب الجد، والسبب في ذلك أن الأهالي اعتادوا منذ زمن إطلاق مقولة “روح الهي يحل عليك بأبو شربي”، وهى نوع من التندر بالدعاء على شخص ما بالموت باستخدام اسم جدي التربي.
قناوي لا يغضب من هذه المقولة بل يتعامل معها بطرافة إذا سمعها ويقول: وأنا مستعد، مؤكدا أن الموت لا يجلبه إنسان بل هو من عند الله .
من القبر إلى الفسقية
يشرح قناوي كيف تطورت مهنة التربي عبر الزمن، كما أن نظام الدفن في أيام جده كان بالشق في الأرض الصلبة، وهو ما يعرف بالدفن الشرعي، ملمحا أن عملية الحفر كانت شاقة وكانت تستغرق وقتا طويلا قد يصل إلى نصف يوم، وفي أيامها كانت هناك جبانة وحيدة بدشنا وهي الجبانة القديمة بمنطقة الشيخ جلال.
يتابع قناوي: مع دخول فترة الأربعينيات والخمسينيات أقام الأهالي الجبانة القبلية بصعايدة دشنا وعمدوا إلى بناء الفساقي تحت الأرض، وهي عبارة عن غرف مقببة تحتوي عددا من الفتحات تؤدي كل فتحة إلى قبر، ويقوم التربي بفتح الفتحة ووضع المتوفى ثم إغلاقها بالطوب، لتختصر عملية الدفن إلى حوالي ساعة فقط .
من شال عزى
وحول طقوس الجنائز يروي قناوي أنه في الماضي كانت هناك طقوس تمارسها النساء وأخرى للرجال، موضحا أن النساء كانت تشرع في الصراخ والعويل وشق الصدور، والتحبل وهو طقس تقوم فيه أرملة المتوفى بربط جسدها بالحبال في إشارة إلى حزنها الشديد على فقد زوجها.
أما الرجال فكانوا يقومون بطقس “التسبيل”، وهو أن يقف مجموعة من أقارب الميت أمام المنزل ويمشون جيئة وذهابا مرددين “الدوام لله يا” لإعلام المارة والأهالي بالجنازة، وبعد الدفن كانت النساء تتجمع في منزل المتوفى للعديد، وهو الغناء الجنائزي، وكانت تقود العملية نساء متخصصات في ذلك الفن ويحفظن الكثير من أشعار العدودة، التي تثير شجون الحاضرين من النساء لينخرطن في البكاء والعويل.
أما بالنسبة للرجال فكان يقام واجب العزاء في المندرة أو الديوان، بتلاوة القرآن لمدة أسبوع، ثم تقلصت المدة إلى 5 أيام، وأخيرًا إلى 3 أيام، وفي الماضي كان أهل المتوفى يبقون في المندرة أو ديوان العائلة لمدة 15 يوما، وفي آخرها تقامة “ختمة قرآن”، ويخرجون نساءً ورجالًا إلى المقابر لزيارة المتوفى.
وبعد مرور 40 يومًا، وهي ذكرى الأربعين، يعاودون الكرة، ويستمر الحزن لمدة عام وكان من العادات الغريبة أن يحرم على أهل الدار أكل اللحوم إلا بعد مرور عام على ذكرى المتوفى.
ويشير قناوي إلى أن معظم تلك الطقوس اختفت مع الوقت، ولم يبق منها إلا واجب العزاء لمدة ثلاثة أيام وفي العشر سنوات الأخيرة، اتجه معظم الناس إلى عدم إقامة واجب العزاء والاكتفاء بتلقي العزاء في الجبانة، حيث يعلن أحد أقرباء المتوفى بعد إنهاء الدفن بذلك قائلا “من شال عزى”.
متاعب
لكل مهنة متاعبها، هكذا يعلق أبو شربي على أن مهنته ليس لها وقت محدد وفي أي لحظة يمكن أن يستدعى لحالة دفن، لافتا إلى أنه في حالات الموت الطبيعية يتم دفن الميت ويقوم الأهالي باستخراج تصريح الدفن في اليوم التالي، أما في الحالات التي يكون فيها شبهه جنائية أو حالات الحوادث فيرفض الدفن وينتظر استخراج التصريح وأحيانا تصريح النيابة.
ويوضح أن عقوبة دفن ميت دون تصريح تصل إلى السجن لثلاث سنوات، ومن الحالات الشاقة عليه أنه أحيانا وبعد التصريح بالدفن تأمر النيابة باستخراج الجثة مرة أخرى للمعاينة أو إعادة التشريح “أصعب حاجة لما افتح القبر مرة تانية لأنه إنتهاك لحرمة الميت “.
النعوش الطائرة
يلفت أبو شربي أنه على مدار السنوات التي قضاها في المهنة كان لكل ميت ساعة محددة يدفن فيها، كما أن له مكان أعده الله له، ولا يتدخل التربي أو أقرباء الميت في تحديد مكان أو ساعة الدفن.
ويسرح أبو شربي بذاكرته إلى عام 93 حين توفى الشيخ كحول، وكان من المقرر دفنه بالجبانة القبلية جوار والدته وأخته، يقول قناوي بالفعل حفرت له أنا وإخوتى بالجبانة القبلية، وجاء النعش المحمول ودخل إلى الجبانة القبلية، لكنه لم يتوقف، وخرج مسرعا في اتجاه جبانة العزازية ليتوقف في مكانه الحالي المدفون فيه الشيخ كحول في أول الجبانة.
حدثت نفس القصة مع الشيخ إسماعيل السمطي، الذي كان من أهل الجذب وعاش حياته كلها بدشنا، وعندما مات تطوع بعض أهالي العزازية بدفنه في مقابرهم وأعدت له المقبرة وحين حضر أقرباؤه وحاولوا أخذ الجثة اهتز النعش ودفعهم إلى الخلف وتوقف في مكانه المختار ليدفن الشيخ إسماعيل السمطي في مقابر العزازية .
مواقف
على خلفية الأعمال الكوميدية التي تناولت شخصية التربي بأنه سفير الموت يقول أبو شربي: إنه يتعرض لبعض هذه المواقف مع بعض الأشخاص، الذين يعتقدون أن مجرد مصافحته ينذر بموتهم.
ومن المواقف الطريفة التي يرويها أبو شربي ما حدث مع قرشي السابح الشهير بـ”هلاكو دشنا”، قول أبو شربي : ذهبت لتجهيز أحد المتوفين في الشارع الذي يسكن فيه قرشي، واكتشفت أنه اختبأ خلف أحد الجدران حتى لا يراني أو يسلم علي، فلما عرفت حاولت معانقته ليجري من أمامي مسرعا وسط ضحك مشيعي الجنازة.
ويعتقد قناوي أن السينما والأعمال الدرامية لم تنصف مهنة التربي وتعاملت معها إما بشكل هزلي أو تصوير التربي على أنه نذير شؤم وأن مهنته تقوم على مبدأ مصائب قوم عند قوم فوائد، موضحًا أن مهنة التربي هي مهنة الأسرار ويتاح للتربي معرفة الكثير عن المتوفى منذ لحظة غسله إلى وضعه في مرقده الأخير.
ويشير إلى أن إفشاء أسرار الموتى كفيل بأن يُعرّض التربي إلى عقاب الله، وأن والده حذره وأخبره عن قصة التربي الذي أفشى سر أحد المتوفين فكان جزاؤه أن كف بصره .