هنا عاش أيقونة البوب الفرنسي كلود فرانسوا.. الغريب الذي صار «ابن الإسماعيلية»

لم ينتبه عروسان وقفا لالتقاط صور ليلة العرس في منطقة الفيلات الفرنسية بمدينة الإسماعيلية، إلى لافتة صغيرة خلفهما على مدخل إحدى الفيلات تشير إلى تاريخ شخصيات عاشت هناك، من بينهم أسطورة غناء فرنسية ولدت وعاشت طفولتها في هذا المكان قبل أن تنطلق إلى الشهرة في فرنسا.

وُلد المطرب الفرنسي «كلود فرانسوا» في الأول من فبراير عام 1939 بمدينة الإسماعيلية.، خلال فترة عمل والده، لوك فرانسوا، كمراقب للملاحة في شركة قناة السويس العالمية. وأصبح شهر ميلاده، فبراير، مناسبة سنوية لزيارة جمعية محبيه للمدينة والفيلا التي نشأ بها. في تقليد توقف منذ سنوات دون إعلان سبب واضح، رغم استمرار زيارات جمعيات فرنسية مهتمة بقناة السويس إلى المدينة، ودعمها لمتحف القناة بمقتنيات خاصة.

مذكرات كلود فرانسوا

اختص فرانسوا (1939-1978)، المعروف أيضا بلقب “كلو كلو”، مدينة الإسماعيلية في مذكراته. التي نشرت منها مخطوطات بخط يده علي موقع نوستالجيا فرنسية. يقول فيها: “كنت أستيقظ على صوت المؤذن من بعيد، وافتح النافذة لأشاهد ضوء الشمس يرقص على صفحة القناة. كانت الإسماعيلية عالمًا خاصًا لا يشبه شيئًا مما عرفته لاحقًا في باريس. كل شيء فيها كان ينبض بالحياة: العطر، والماء، والأصوات”.

ويتابع في موضع آخر: “كنا نسكن في منزل كبير تحيط به أشجار المانجو والبرتقال. كانت الأرضية مغطاة ببلاط مغربي الطراز، والسقف مرتفع تزينه مراوح بطيئة الدوران. لا زلت أذكر الموسيقى العربية التي كانت تتسلل إلى غرفتي عبر الراديو العتيق. كان لها تأثير غامض، كأنها تسحر الهواء نفسه”.

شهادة ميلاد المغني الفرنسي المشهور كلود فرانسوا في محافظة الإسماعيلية
شهادة ميلاد المغني الفرنسي المشهور كلود فرانسوا في محافظة الإسماعيلية
طراز مباني “باريس الصغرى”

إذا زرت يوما إحدى المدن المطلة على قناة السويس وتجولت في شوارعها القديمة، فلن تستطيع إلا أن تنبهر بروعة تصاميمها المعمارية وتفردها. ومن ضمنها المنزل الذي ولد فيه كلود فرانسوا. ما يميز الحي كله هو كثرة استخدام الأخشاب، ويعود تاريخ بنائه إلى فترة حفر قناة السويس وتأسيس مدينة الإسماعيلية، بحسب وصف المهندسة المعمارية، كلودين بياتون، المتخصصة في التراث المعماري وذات اهتمام خاص بالعمارة الأوروبية في دول حوض البحر الأبيض المتوسط.

عملت بياتون منذ عام 2004 على مشروع بحثي حول عمارة مدن قناة السويس. نتج عنه ثلاثة كتب بعنوان: “عمارة القرن التاسع عشر والقرن العشرين في مدن الإسماعيلية، وبورسعيد، والسويس”، صدرت تباعا عن المركز الفرنسي بالقاهرة.

نشأة مدن قناة السويس

تميز كلودين الطراز المعماري في فترة نشأة مدن قناة السويس بوجود صالات استقبال واسعة وشرفات خشبية طويلة. وتتفرد مدن القناة بهذا الطراز دون غيرها من المدن المصرية. في مزيج نادر لا يتكرر في أي مدينة أخرى. بحسب وصفها في مؤلفاتها. وقد أشار فرانسوا بدوره في مذكراته إلى حنينه لطفولته بالإسماعيلية. حيث كتب: “كنت صغيرا، وكنت أسبح عدة مرات يوميا من قارة إلى أخرى، عابرا قناة السويس التي تفصل إفريقيا عن آسيا”.

وتضيف بياتون إلى أن الإسماعيلية شكلت نقطة البداية في مستقبله الفني، عندما انضم إلى صفوف كورال الأطفال التابع للكنيسة الكاثوليكية. تكريما له، أطلق اسمه على أحد شوارع حي الفيلات في شرق المدينة في يناير 2005. قبل أن يعاد تسميته لاحقا إلى “شارع النخيل”.

مذكرات بخط يد كلود فرانسوا نشرت علي موقعه الإلكتروني
مذكرات بخط يد كلود فرانسوا نشرت علي موقعه الإلكتروني
المنزل الذي عاش فيه كلو كلو  

عاش كلود فرانسوا في بيت يقع في حي “الإفرنج” بالإسماعيلية. وهو الحي الذي كان مخصصا لسكنى الأجانب العاملين في شركة قناة السويس. وبفضل وظيفة والده، حصل على منزل في حي الموظفين الفرنسيين، يتميز بمبانيه ذات الطراز الأوروبي، والتي تجمع بين الخشب والقرميد للحفاظ علي حرارة الجو اللطيفة في الأجواء الحارة. التي لم يعتاد عليها الأوروبيون، بحسب المهندسة المعمارية المصرية ياسمين مختار، المتخصصة في العمارة الكولونيالية بمدن القناة.

وتشير دراسة مختار، بالإضافة إلى مصادر تاريخية وشهادات محلية، إلى أن المنزل شُيّد من الحجر الجيري الأبيض. ويحتوي على شرفة خشبية واسعة تطل على حديقة صغيرة. النوافذ ذات مصاريع خشبية مطلية بالأخضر الداكن، تعكس الطراز الفرنسي الذي جلبه الفرنسيون إلى مصر.

بيوت النخبة الأجنبية

تصف ياسمين مختار منزل فرانسوا بأنه نموذج لما يعرف بـ”بيوت النخبة الأجنبية”. حيث مراعاة التهوية الطبيعية، والفراغات المفتوحة، والممرات الداخلية الطويلة. بُنيت هذه المنازل لتكون مريحة في المناخ الحار، مع توفير خصوصية وعزلة، وانفتاح على الحدائق الداخلية.

وقد أدرج بعض المهتمين بالتاريخ المعماري للمنطقة هذا البيت ضمن الجولات السياحية التراثية، ضمن مسار السير المفتوح بين الفيلات الفرنسية. حيث يتم شرح الطراز المعماري وتاريخ نشأة المدينة، ويحتل منزل “كلو كلو” مكانة مميزة في هذه الجولات لما يمثله من قيمة إنسانية وتاريخية.

حنين إلى جنة الطفولة

يتحدث كلود في مذكراته عن هذه المرحلة بكثير من الحنين، ويصف الإسماعيلية بأنها “جنة على الأرض” بالنسبة لطفل. كانت أيامًا مليئة بالبراءة، واللعب تحت أشعة الشمس الدافئة، واستكشاف أرجاء المدينة من شوارعها الهادئة إلى ضفاف البحيرة المجاورة. كان منزله يقع في منطقة راقية، محاطًا بحديقة غناء، وهي تفاصيل تتكرر في أحاديثه ومذكراته، كشاهد على بيئة مريحة ومترفة نسبيًا.

واجهة المنزل الذي ولد فيه كلود فرانسوا بمدينة الإسماعيلية
واجهة المنزل الذي ولد فيه كلود فرانسوا بمدينة الإسماعيلية
الإسماعيلية مدينة متعددة الثقافات

في تلك الفترة، كانت الإسماعيلية مدينة متعددة الثقافات، تمثل بوتقة انصهرت فيها جاليات مختلفة: الفرنسية والإنجليزية واليونانية والإيطالية والمصرية بالطبع. هذا التنوع الثقافي أثرى حياة الطفل كلود، وغرس فيه روح الانفتاح والتسامح، وربما ساهم في تشكيل حسه الفني الذي تأثر لاحقا بموسيقى متنوعة.

وتلقى “كلود” تعليمه الابتدائي في الإسماعيلية، وتعلم الموسيقي ضمن كورال الكنيسة الكاثوليكية هناك. وكانت والدته، لوسيت فرانسوا، سيدة مثقفة وعاشقة للموسيقى، تلعب دورًا محوريًا في تنمية مواهبه. هي من اكتشفت شغفه بالموسيقى مبكرًا، وشجعته على تعلم العزف على البيانو والطبول. وشهدت هذه الفترة في الإسماعيلية على خطواته الأولى في عالم الموسيقى. حيث بدأت موهبته تتفتح، وبدأ يدرك أن الموسيقى ليست مجرد هواية، بل شغف عميق يأسره.

ويذكر كلود في مذكراته كيف كانت والدته تشجعه على الاستماع إلى أنواع مختلفة من الموسيقى. من الكلاسيكية إلى موسيقى الجاز، التي كانت رائجة في ذلك الوقت. لم تكن دروس البيانو له واجبًا ثقيلا، بل متعة حقيقية. وكان يقضي ساعات طويلة في العزف والتدريب. تلك الأساسات التي أرستها والدته في الإسماعيلية، شكلت حجر الزاوية في مسيرته الفنية اللاحقة.

الرحيل عن “جنة الأرض”

في عام 1956، وبعد قرار تأميم قناة السويس، اضطر فرانسوا إلى الرحيل عن الإسماعيلية مع والده، في لحظة شكلت نقطة تحول جذرية في حياته. وكان عمره آنذاك 17 عامًا. كانت تجربة الرحيل صادمة له. ففي غضون أيام، تحول عالمه المستقر الهادئ في الإسماعيلية إلى حالة من الفوضى وعدم اليقين.

كانت مغادرته لمصر قاسية، فقد كان يعتبر الإسماعيلية وطنه الأول، والمكان الذي احتضن أحلامه الأولى. يصف كلود هذه اللحظات في مذكراته بمرارة، ويكتب: “كان الرحيل عن الإسماعيلية كقطع جزء مني. لقد تركت هناك طفولتي، ذكرياتي، جزءًا من روحي. لم يكن مجرد مغادرة مدينة، بل كان مغادرة عالم بأكمله”. ذلك الشعور بالفقد ظل يلاحقه لسنوات، لكنه في الوقت نفسه كان دافعًا له لتحقيق النجاح.

المطرب الفرنسي كلود فرانسوا
المطرب الفرنسي كلود فرانسوا
الإرث الخالد وتأثير الإسماعيلية

رغم أن كلود فرانسوا غادر الإسماعيلية في سن مبكرة نسبيًا، إلا أن تأثير هذه المدينة ظل حاضرا طوال حياته ومسيرته الفنية. فهي المكان الذي بدأت فيه أحلامه. حيث اكتشف شغفه بالموسيقى، وتشكلت شخصيته في سنوات الطفولة الحافلة.

ربما كانت مرونة شخصيته، وقدرته على التكيف مع التغيرات، مستمدة جزئيًا من تجربته المبكرة في الانتقال من مصر إلى فرنسا. وقد واصل بعد ذلك تحقيق النجاحات المتتالية، ليصبح أيقونة في عالم الموسيقى الفرنسية. ويشتهر بأغانيه التي تخاطب الوجدان وتدعو إلى الفرح والحياة.

من أبرز أعماله التي لا تزال تُسمع حتى اليوم: أغنية “My Way” أو “Comme d’habitude” بنسختها الفرنسية الأصلية، التي أصبحت واحدة من أشهر الأغاني في تاريخ الموسيقى العالمية. و”Alexandrie, Alexandra”، التي حملت في طياتها لمسة من الشرق. وربما كانت تذكيرًا بمسقط رأسه في الإسماعيلية.

الإسماعيلية في قلب الوداع

في عام 1978، توفي كلود فرانسوا إثر حادث كهربائي بشقته بباريس، عن عمر 39 عاما. ورغم قصر حياته، فإن إرثه الفني ظل حيا بقوة. المدهش أن بعض المقربين منه ذكروا أنه في أيامه الأخيرة كان كثير الحديث عن مصر، وعن الإسماعيلية على وجه الخصوص.

وقد صرحت شقيقته جوزيت، في مقابلة تليفزيونية نادرة قائلة: “كان كلود يقول إن الإسماعيلية ليست مجرد مدينة. بل هي الجنة التي بدأ منها كل شيء. كان يحلم بأن يعود يومًا ويزورها متخفيًا، فقط ليمشي في الشوارع التي عرفها صغيرًا”.

الغريب الذي صار ابن البلد

قصة كلود فرانسوا في الإسماعيلية ليست مجرد حكاية طفولة، بل فصل غير مكتوب في التاريخ الثقافي المشترك بين مصر وفرنسا. إنها شهادة على التداخل العاطفي والثقافي الذي يُمكن أن تنسجه الحياة، بعيدًا عن السياسة

واليوم، بينما تقف أمام بيته القديم في شارع يحمل اسمه. يمكنك أن تتخيله صبيًا صغيرًا يركض في الحديقة، أو يصغي إلى أغنية تنبعث من راديو قديم. أو يتجهز لرحلة سباحة في قناة السويس. حينها تدرك أن بعض الحنين لا يموت، بل يتجسد في الموسيقى، وفي الذكريات، وفي اسم كلود فرانسوا.

اقرأ أيضا:

«كما دخلوها أول مرة».. كيف قاوم فدائيو قناة السويس الاحتلال البريطاني؟

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.