محمد الغيطاني يكتب: وردة كل يوم

طالما تخوفت دوما من التفكير في اليوم الذي اكتب فيه تلك الكلمات، متشككا في قدرة أي كلمات على وصف رحلتنا مع عماد حياتنا أمي -رحمها الله- لا أرغب في الكتابة بالشكل المعتاد الذي حمل نبرة الرثاء عن رحيل الأم، بحكم التكوين والوراثة. يصعب علينا أبناء الجنوب إخراج مشاعر ضعفنا على الملأ. إلا أن جمال الرحلة ونقائها وصدقها دفعني لتسجيل بعض لمحاتها، فالسيرة دوما أطول من العمر.

ربما كان استرجاع بعض لقطات الحياة هو الأنسب لمشاركة القارئ بجوانب حياتية من رحلة سيدة القلم الصحفي ماجدة الجندي. أرجع بذاكرتي لأولى لحظات الإدراك فلا أجد إلا صورة أمي تصطحبني طفلا وأنا ابن الثلاثة أو الأربعة أعوام. لتبدأ أولى عادات الطفولة “وردة كل يوم” إذ اعتدت وأنا على مشارف الوعي إعطائها وردة صبيحة كل يوم. الغريب في رحلتنا أن العلاقة لم تأخذ يوما شكلا معتاد لرابطة الأم بالأبناء. إذ كانت أقرب لصداقة وعشرة في مواجهة موج الحياة الحلو والمر.

إذا كان هناك ما يميز حضور أمي في حياتي دوما، فهو الأمل الذي كانت تتقن استحضاره. مهما كان عتمة الظرف أو صعوبته تستطيع ماجدة الجندي بتكوينها الفلسفي وإرادتها الحديدية وحسن تدبيرها للأمر أن تعيد تشكيل أي أزمة لتصبح نقطة انطلاق. بالنسبة لنا صرنا نسحب من ذلك الرصيد الإنساني بلا حساب. جرينا عليها كبارا بمشاكلنا بنفس اللهفة عندما كانت أعمارنا لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. ربما كانت طبيعة تلك العلاقة هي الدافع المستمر لي ولشقيقتي في العمل والاجتهاد في الحياة.

**

بلاشك أن دراستها للفلسفة التي اجتمعت مع ثقافة فرنسية عميقة وتمسك أصيل بعروبتها اللغوية الرفيعة. قد منحها مزيجا سحريا من أناقة الذوق وقوة المنطق وعمق الأصل، انعكس على ممارستها للحياة. بالنسبة لها بدايتها المهنية في صباح الخير وهي في أوائل العشرينات تركت بصمات حياتية لازمتها. فظلت دوما البنت الشقية حادة الذكاء.. محبة عبدالحليم.. وبراءة حلم يوليو الستينيات. هي تركيبة مصرية مزيج بين الأناقة والأصالة والفكر، مكنها من تسجيل إبداعي لرموز الفكر المصري في القرن العشرين عبر فن الحوار الذي تسيدته في ندية فكرية لمن كانت تحاورهم.

فرسمت لوحة إنسانية فكرية سجلت بها معالم مصر الثقافية. لويس عوض، حسن فؤاد، شكري عياد، نجيب محفوظ، توفيق الحكيم. بل وكانت أول من لفت الانتباه لنبوغ مصري ينبئ بنوبل في الكيمياء لأحمد زويل. وكان اقترابها من عالم عمار الشريعي غواص النغم، وارتبطاها العاطفي بما مثله عبدالحليم حافظ لجيلها هذه الملامح التي استلهم منها الأستاذ رؤوف توفيق، مشهد ميرفت أمين، وهي تنصت لعبدالحليم في زوجة رجل مهم.

طالما كنت معجبا بسرعة بديهتها وقدرتها المرعبة على الاستناد للمنطق في الدفاع عن الحق. الحق وقيمة العدل والصدق كانوا لها بوصلة في الحياة. أي شيء يمكن التعامل معه ومعالجته شريطة الصدق. فتعلمنا منها تلك الصفة التي وإن كلفت الإنسان أحيانا إلا أنها أكسبته الاحترام.

**

أحببت دوما تأمل سعادتها وهي تنصت لعبدالحليم في رحلاتنا ونحن صغار معها.. فما إن تدير السيارة وتبدأ أنغام كمال الطويل والموجي. عبدالحليم البدايات فترى روح البنت الشقية البريئة وقد عادت. توزيعات عمار الشريعي لتراثنا الموسيقي. ربما لا يعلم الكثيرون بجمال صوتها، وإتقانها للغناء، لها صوتا إذاعيا يجمع بين الحضور وخفة الظل. طالما كنا نلح عليها في الخروج بصوتها للإذاعة فهو حتما كان سيصل لقلوب الناس، مرة واحدة فقط خاضت تجربة الإذاعة مع الأستاذ عمر بطيشة في برنامج قصير، وظهر صوتها في البرنامج في مقدمة فيلم «مشوار عمر» لمحمد خان.

ندين بقدر ما تعلمناه في حياتنا شقيقتي وأنا من حب البساطة والذوق بعيدا عن التكلف لأمي، سيدة اللون الأزرق والأناقة بلا افتعال، غريب ارتباط الأشخاص بذاكرة بالألوان. فأمي تستدعي دوما في ذاكرتي زرقة السماء والبحر.. استقرار دفين في اللاوعي بالبراح والراحة والحرية والأمل الذي كانت تستدعيه لحياتنا، فالمستحيل طالما سقط أمامها.. الغريب أن الجميع كان يعول عليها الأمر فهي ظهر أبي وعماد منزلنا الذي دوما كان لها أولوية.

كثيرا ما كنت أتعجب من حجم موهبتها، وحدة ذكائها، ربما كوني لا أحسب نفسي على جانب الموهوبين قدر انتمائي لمدرسة الدأب، فهي سيدة إدارة كل شيء في ذات الوقت، بالنسبة لي هو المستحيل بعينه، فبعد انتهائها من مشاغل وأعباء الحياة اليومية، تبدأ في الكتابة الليلية. حيز من الوقت لا يكفي لأي شيء فما بالك بصياغة رؤية أوعرض لإبداع. فإذا بها سيدة اللحظة الأخيرة ملكة الإبداع، رحلتها الصحفية فريدة ربما ظلمت نفسها كونها لم تعترف بموهبتها الإبداعية مفضلة التركيز في الصحافة. إلا أنه ما من شك أن تراثها الصحفي قد دشن منهجا ومدرسة صحفية مثل شخصيتها وطنية رشيقة صادقة أقرب للشعر منها للخبر.

**

افتقد حديثنا بعد نهاية كل يوم في أمور الحياة، لم أفقد أبدا مهما كانت المسافة استفتاح اليوم بصحبة أمي وفي نهايته، على كثر ما مررنا به معا من تحديات اعتقدت دوما قدرتنا على تجاوز أي شيء، امتلكت قدرة مرعبة على احتواء أي شيء وتخفيفه كي لا يهتز مشروع عمرها… أسرتها، عندما أصيبت بالسرطان أول مرة في 2009، كانت المشكلة كيف يتم نقل الخبر لي ولشقيقتي… أكثر من قلقها على نفسها. حولت محنة المرض إلي منحة إلهية ووقت صحبة، كنا نخطط لكل خطوة في الحياة، حتى مع محنة مرض ورحيل رفيق دربها أبي… كانت صداقتنا هي الوسيلة لعبور أي ألم.

لا أريد أن اكتب مرثية. فهي معي… حية أشعر بالعجز عن وصف جلال حضورها في الحياة.. قليلون هم من كان لديهم العطاء متدفق بلا قيود ولا حدود. أرفض الحزن فهي كانت تكرهه وتسعي دوما لاستخراج الأمل وأنا أرغب في استمرار عادتنا… لكني لا أستطيع تجاوز شعور مزمن بمرارة الحياة بدونها… وحدة مزمنة لا يخفف منها إلا استنادي أنا وشقيقتي على بعض في مواجهة حياة لم نعتادها اختفت منها الألوان برحيل… ماجدة الكبيرة… الأميرة… البنت الشقية… اللي بتحب عبدالحليم وصلاح جاهين ومحمد خان ومصر البريئة الحالمة.. بنت يوليو الرومانسية. رحلت جسدا وستظل بنورها الروحي وأناقتها وعقلها وعدلها وصدقها موجودة إلى أن نلتقي.

اقرأ أيضا

ماجدة الجندي: سيدة السرد الصحفي الجميل

علاء خالد يكتب: كانت تمتلك نسخة حديثة من النوستالجيا

د.محمد أبوالغار يكتب: ذكريات مع ماجدة الجندي              

عماد أنور يكتب: وش الخير وصاحبة البشرى

ماجدة الغيطاني تكتب: «أن تُحِبُكَ ماجدة»

ماجدة الجندي: من سيرة البدايات في «صباح الخير»

أحمد اللباد يكتب: في شرفة مكتب «الأستاذة»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر