“درب الأربعين”.. طريق قوافل الحجاج قديمًا بالصعيد وشريان التجارة

“درب الأربعين” طريق عُرف منذ القدم بالجبل الغربي، إذ كانت القوافل تقطع المسافة من السودان جنوبا إلى وادي النيل مرورا بأسيوط في حوالي أربعين ليلة وكان هذا الدرب يمثل شريانًا حيويًا للتجارة البرية بين البلاد المصرية من جانب، وبين بلاد السودان وشمال بلاد المغرب العربي من جانب آخر، فضلًا عن مرور قوافل الحج عليه، مما جعل أسيوط تكتسب بذلك موقعًا استراتيجيًا هامًا وأصبحت العاصمة التجارية للصعيد.

طرق الصحراء الغربية- إحدي القوافل بالصحراء- ويكيبيديا
طرق الصحراء الغربية- إحدي القوافل بالصحراء- ويكيبيديا

طريق تاريخي 

ذكر كتاب “مصر الفرعونية أسيوط- المنيا”، أن جبل أسيوط الغربي “الهضبة الغربية” يضم خلاله أهم طرق القوافل القديمة التي تربط مصر بالسودان “دارفور وكردفان” عن طريق درب الأربعين وكان لهذا الطريق أثرًا كبيرًا في تاريخ أسيوط وأهميتها من الناحية التجارية والصناعية، وفي العصر الفرعوني والعصريين اليوناني والروماني نظرًا لارتباطها بهذا الطريق.

واكتسب الطريق أهميته في مصر القديمة لما له من موقع متوسط بين أقاليم مصر الفرعونية ولكونه مركزًا رئيسيًا للقوافل التجارية المتجهة إلي الواحات بالصحراء الغربية، وكانت البداية من درب الأربعين الذي يصل دارفور بالسودان حيث تقع علي رأس القوافل الذي يربط وادي النيل بالواحة الخارجة وبدارفور غربي السودان والذي يعتبر طريق التجارة بين شطري وادي النيل وبقارة إفريقيا.

الطريق الجنوبي

تناول بحث بعنوان “الدور التاريخي لجبانة البجوات علي طريق درب الأربعين” للدكتور محمد عبدالحميد الحناوي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب بجامعة أسيوط، قوافل المغرب من التجار وحجاج بيت الله الحرام التي تفد إلى مصر عبر طريقين من بينهم الطريق الجنوبي أو الصحراوي عبر درب الأربعين في أغلب أجزائه.

بالإضافة إلى طرق ودروب الحج الفرعية الأخرى من بلاد السودان والمغرب العربي، وهي في الغالب تتجمع عند جبل العوينات وتتخذ الجزء الشمالي من درب الأربعين طريقا لها حتى واحة الخارجة عند مرتفع البجوات أو حافة جبل الطير وأغلب رواده من بلاد المغرب الأقصي والوسط لقصر المسافة بين تلك المناطق وجنوب مصر، وكان التجار والحجاج يعبرون النيل عند أسيوط أو قنا متجهين إلى ميناء القصير علي البحر الأحمر للإبحار منه إلي بلاد الحجاز.

وأثبتت الوثائق المتعلقة بدور المغاربة التجاري في مصر خلال العصر العثماني، وجود وكلاء لبعض التجار منهم في بعض المواني العربية في غرب بلاد الحجاز وخاصة بنجر جدة، واستقر في مصر كثير من الأسر المغربية التي أصبحت تمتلك الوكالات وتقوم بدور التصدير والاستيراد بين مواني مصر على البحر الأحمر ومينائي جدة ومخا، وخاصة أن تجارة البن كانت من التجارات الرابحة في ذلك العصر.

مسار الطريق

يشمل الطريق في جزء كبير منه داخل الحدود المصرية حاليا المسافة بين أسيوط ومدينة الخارجة، ومنها يتجه جنوبا مرورا ببلدة باريس وجبل شرشر حتي بئر كريم وتبلغ هذه المسافة نحو 380 كيلو مترا، ويقع علي هذا الطريق عدد كبير من آبار المياه الصالحة للشرب أشهرها بئر مر وأبوالحصين وبئر كسيبة.

درب الحاج المصري

ازدادت أهمية هذا الطريق خلال العصر الإسلامي، لأنه كان يمثل طريق درب الحاج المصري زمن العباسيين وبعدهم، حيث كان الحجاج المسلمين يرتادونه في طريقهم إلى الأراضي الحجازية مرورا بأسيوط، وازدادت أهميته في عصر سلاطين المماليك (648-923 هـ/1250-1571م) لأهميته التجارية والدينية.

كما كانت القوافل القادمة من دارفور وكردفان وبلاد التكرور والمغرب ترتاد هذا الطريق سواء في رحلاتها التجارية أو في رحلة الحج السنوية، تحط رحالها خلال سفرها عدة مرات بجوار مصادر المياه لتأخذ قسطا من الراحة، وكانت أهم محطاتها في هذه الرحلة الشاقة قرية الخارجة وبالتحديد علي مرتفع جبل الطير “البجوات” وبعد أن تكون القوافل التجارية منها قد سددت الرسوم المقدرة عليها لكشاف الواحات في قرية باريس، إذا لم يكن يسمح للقافلة بمواصلة سيرها شمالا في اتجاه القاهرة إلا بعد أن تكون قد سددت رسومها بالكامل.

إحدي القوافل بالصحراء- ويكيبيديا
إحدي القوافل بالصحراء- ويكيبيديا

واحة الخارجة

أما واحة الخارجة فكانت أهم نقطة علي درب الأربعين بين أسيوط والفاشر، وترتبط بوادي النيل بعدة طرق مختلفة كما مثل هذا الدرب حلقة اتصال ما بين بلاد المغرب وواحات الكفرة في جنوب شرق ليبيا، والفرافرة، والداخلة في مصر من ناحية، ثم صعيد مصر وشاطئ البحر الأحمر إلي بلاد الحجاز حيث رحلة الحج السنوية من ناحية أخرى، ولهذا تفرد منخفض الواحات بمركز جغرافي هام طوال العصور المختلفة مما خلق له دور تاريخي مجيد.

وعلي الرغم من الدور التاريخي الهام الذي لعبته الواحات خلال القرون الأولي لدخول المسيحية مصر، واستمرار هذا الدور حتي دخول الإسلام للبلاد المصرية، إلا أن هذا الدور تقلص سياسيا واقتصاديا لعدة قرون تالية علي الفتح العربي، كما أن عزلة الواحات وانفصالها عن وادي النيل لم يدم طويلا، إذ أخذت أهميتها تظهر مرة أخرى بإعتبارها محطات صالحة للقوافل وعلي الأخص قوافل الحج القادمة من بلاد المغرب العربي مارة بالخارجة إلي شواطئ البحر الأحمر، ثم قوافل السودان المارة بها كذلك إلي أسيوط.

الحجاج المغاربة

كان طريق الحج عبر درب الأربعين مارا بالخارجة أهم الطرق الآمنة لقوافل الحجاج المغاربة، يعمل به جماعة من الأعراب المشتغلين بالوساطة التجارية ونقل الحجاج، وهكذا بدأت الخارجة وهي واقعة درب الأربعين وبعض طرق الحج وأطرافه تتخذ شكلا جديدا يشابه ما يعرفه العرب في واحاتهم العربية، فعاد إليها العرب بعد الفتح العربي يعمرونها متخذين منها محط ترحال لقوافلهم بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، وساعد علي ازدهار طريق درب الأربعين وطرق الحج الأخرى توافر مصادر المياه الجوفية من آبار في منطقة جنوب الصحراء الغربية وشرق العوينات، ولاتزال حتي اليوم كثير من الشواهد الميدانية تدل علي ذلك بوجود بقايا آبار المياه الضحلة مثل آبار مر وأبوحسين وكسيبة وكريم ونخلاي.

3 قوافل سنويًا

كانت تصل إلي مصر كل عام قافلة تجارية من بلاد المغرب إلي جانب قافلتي بلاد السودان، قافلة “سنار” التي كانت تصل إلي أعالي الصعيد عن طريق وادي حلفا وأسوان وقافلة دارفور التي تصل إلي الصعيد الأوسط بطريق درب الأربعين حتي الخارجة ومنها لأسيوط، وقد تتبع “اسكافراك” أحد الرحالة الفرنسيين تجارية هذا الطريق الحيوي من وإلي مصر في منتصف القرن التاسع عشر، علي أن هذه التجارة أصابها الاضمحلال بعد سنوات الاحتلال البريطاني لمصر مباشرة ومحاولات إنجلترا التدخل في شؤون السودان وإبعاده تجاريا وسياسيا عن مصر، وإحكام السيطرة علي الحدود المصرية بهدف عزل الدراويش “المهديين” في بلاد السودان والقضاء علي الثورة المهدية.

الهوامش

  • كتاب “مصر الفرعونية أسيوط- المنيا”.
  • بحث “الدور التاريخي لجبانة البجوات علي طريق درب الأربعين” للدكتور محمد عبدالحميد الحناوي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب، جامعة أسيوط، والمنشور في عام 2000 في مجلة كلية الآداب.

اقرأ أيضا

 

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر