ملف| هكذا كان العالم.. عندما بدأ هيكل الكتابة!

بحلول عام 1943 كانت الحرب العالمية الثانية لاتزال على أشدها. فقد توقف تقدم دول المحور عام 1942 عندما خسرت اليابان في معركة ميدواي بالقرب من ولاية هاواي الأمريكية، وكذلك خسرت ألمانيا في معركة العلمين الثانية شمال أفريقيا، كما تلقى الألمان هزيمة ساحقة من الاتحاد السوفيتي في معركة ستالينغراد، وفي تلك الأجواء كان القارئ المصري على موعد يوم الأحد الرابع من يوليو 1943 مع العدد رقم (457) من مجلة “آخر ساعة”، وبمواكبة الأحداث كان غلاف هذا العدد هو حوار بين ملك إيطاليا وموسوليني، والملك يخاطب موسوليني: فين القاهرة اللي أنت قلت إنها في جيبك؟، فيرد عليه موسوليني: القاهرة كانت في جيب البنطلون والبنطلون نسيته في العلمين، وفي داخل العدد حوار مع توفيق الحكيم، ومقال لفكري أباظة، وحديث لفؤاد باشا سراج الدين عن مكرم عبيد.

وفي الصفحتين 19 و20 من هذا العدد عنوانا عريضا يقول السراب.. قصة للأديب محمد حسنين هيكل، وكان هذا العنوان هو أول ظهور لاسم محمد حسنين هيكل في الصحافة العربية على الإطلاق. ومن المفارقات أن هيكل وقتها لم يكن قد انضم بعد إلى أسرة آخر ساعة فقد كان في بدايات خطواته مع روزاليوسف وبطبيعة الحال لم يكن أديبا وربما كان يفكر وقتها في طرق باب الأدب فأرسل تلك القصة القصيرة لتنشر في آخر ساعة لتعرفه المجلة بالأديب، وبنظرة سريعة على الظهور الأول لهيكل في الصحافة العربية – بعد تركه الإيجيبشيان جازيت- نلاحظ أن التعريف الأول في تاريخه المهني – الأديب محمد حسنين هيكل- قد ألقى بظلاله على مشواره الآتي كله فقد استمر محتفظا بأسلوبه الأدبي الذي يشعر القارئ أنه أمام كاتب سياسي ضل طريق الأدب أو أديب يكتب سياسة، وبطبيعة الحال لم يكن يعرف قارئ آخر ساعة أن هذا الأديب المجهول بالنسبة للقراء سيصبح كاتبا صحافيا لامعا بعد سنوات قليلة وسيعود لآخر ساعة مرة ثانية ولكن ليس كأديب هذه المرة بل كصحفي ثم كرئيس تحرير.

مقال هيكل الأول

في 16 أغسطس 1943 دعا الملك فاروق أوائل الخريجين والخريجات من الكليات والمعاهد العلمية لتناول الشاي معه في قصر عابدين تكريما لهم، وكان ذلك حدثا تاريخيا يحدث لأول مرة، ووقتها كان هيكل قد بدأ عمله الجديد في مجلة روزاليوسف، وحضر هيكل الحفل مع أنطون الجميل، ومحمود أبوالفتح، وكريم ثابت، ومصطفى أمين، ومحمد عبدالقادر حمزة وغيرهم من كبار الصحفيين وكان هيكل أصغرهم وأحدثهم عمرا في الصحافة حتى أن تغطية الحدث في الصحف لم تأت بذكره وسط هذا الكم الكبير من أرباب المهنة. وفي العدد رقم (792) من روزاليوسف الصادر يوم 18 أغسطس 1943 ظهر كاريكاتير في المجلة بمناسبة دعوة الملك فاروق للأوائل وفي الكاريكاتير رجلان، الأول يقول للآخر: والله يا أخي أنا زعلان إني نجحت وكان نفسي أعيد علشان أطلع من الخمسة الأوائل وفي نفس الصفحة – الصفحة التاسعة- كان موعد القراء مع المقال الأول لهيكل، وهو بعنوان كنت أتمنى أن أكون معهم، والمقال يدور حول تلك الدعوة الملكية لأوائل الخريجين، وكأن هيكل يجسد بنفسه أحد الرجلين في هذا الكاريكاتير المجاور لمقاله الذي وقعه باسم حسنين هيكل. وهو توقيع قلما استخدمه فيما بعد، فقد كان يوقع إما باسمه الثلاثي أو بـ”هيكل” أو بحرف “هــ” أو يكتب مقالات بدون توقيع ولكن «حسنين هيكل» فقط ربما تفرد بها هذا المقال الأول في تاريخ هيكل الصحفي، وبطبيعة الحال كان الصحفي الناشئ لم يستقر بعد على توقيع ثابت لمقالاته.

ومن المفارقات أيضا أن هذا المقال حمل كما هائلا من مديح الملك ومحاولات لاستشراف المستقبل المشرق بالنسبة للملك والبلاد. ولكن بعد عشر سنوات فقط أصبح هيكل أحد أهم منظري الثورة التي أطاحت بهذا الملك، وهو الذي بدأ تعريفه بالأديب وبدأ أولى مقالاته السياسية بمديح الملك ترك الأدب ليصبح أهم صديق ورفيق لقائد الثورة التي أطاحت بالملك وبعرشه.

 روزاليوسف

في روزاليوسف وفي رحلته القصيرة هناك طرق هيكل نوعا من الكتابة ومجالا لم يطرقه بعد ذلك. ففي يوم 29 يونيو 1944 تعلن إدارة روزاليوسف عن فتح باب في المجلة بعنوان لن أنسى أبدا تقدم له المجلة هكذا: هذا باب جديد أنشأته هذه المجلة والمقصود منه هو إشراك القراء وحدهم في تحريره.. فلكل قارئ ولا شك قصة أو حكاية أو حدوتة وقعت له أما في طفولته أو في فتوته أو في شبابه فليقصها كما حدثت مبتدئا بعبارة لن أنسى أبدا.. وليختصر فيها ما أمكن وليترك لنا نحن الباقي. ولقد رأينا أن نبدأ بأنفسنا في هذا الأسبوع.. نحن محرري هذه المجلة.

وبدأ هيكل يتحدث في باب لن أنسى أبدا عن غرامه الأول ببنت الجيران التي خفق قلبه لها لأول مرة، والتي علمته أشياء وأشياء وفتحت عيونه على أشياء وأشياء، ويقول لن أنسى يوم سمعتها تغني لأول مرة فقد كنت أتبعها إلى كل مكان تذهب إليه، ولن أنسى أول مرة قبّلتها فيها لأني ظللت اليوم كله أحس بدوران لذيذ كأنني احتسيت مائة زجاجة من الشمبانيا، ولن أنسى أبدا كيف كنت أسهر الليالي أكتب لها الخطابات الغرامية الملتهبة بكل ما كان يحمله قلبي الطفل من سذاجة وحماسة وحرارة، ويختتم ذكرياته بيوم قابلها بعد سنوات، فإذا هي أصبحت زوجة وأم ومن ساعتها قرر أن ينساها، ولكنه لم يستطع ذلك. ويوقع مقاله بــ”هيكل”. ربما لم تكن رحلة هيكل القصيرة في روزاليوسف ذات أهمية كبيرة في تاريخه الصحفي، فلم يكتب فيها شيئا يستحق الخلود كما فعل بعد ذلك ولكنه طرق أبوابا لم يعود إليها ثانية ومنها مقالات مديح الملك والتي استولت على معظم كتاباته في روزاليوسف وهو ما لم يفعله في آخر ساعة، وتفسير ذلك أن هيكل الصحفي الشاب كان في مقتبل حياته ولم يتجاوز العشرين عاما، فلم يكن حينها قد حدد طريقه وأسلوبه وفكره بعد ولكن ما أن بدأت رحلته في آخر ساعة منذ أن أقنعه الأستاذ التابعي بالذهاب معه حتى كانت مرحلة جديدة في حياته وهي المرحلة التي بدأت عام 1944، قبل أن يكتب هيكل أي مقالات باسمه في مجلة آخر ساعة تحدث أكثر من مرة عن ذكريات البدايات الأولى له في الصحافة وخاصة في جريدة “الإيجيبشيان جازيت”. ففي العدد رقم (546) الصادر يوم 25 مارس 1945 كان قراء آخر ساعة على موعد مع تحقيق صحفي بعنوان مواقف حرجة في حياة محرري آخر ساعة الغراء. وبدأ التحقيق بمقدمة كتب فيها سكرتير التحرير في حياة كل واحد من محرري هذه المجلة مواقف استطاع أن يتغلب عليها بطريقة ما.. وهم يتحدثون فيما يلي عن بعض هذه المواقف وقد حاولت إقناعهم بأن يمضي كل منهم ما كتب فقالوا جميعا إنهم يفضلون أن يكونوا جنودا مجهولين عسى أن يقيم أستاذنا التابعي لكل منهم تمثالا في يوم من الأيام.

وكان نصيب هيكل في هذا التحقيق مقالا بعنوان في مكان ما وملحق بالمقال رسم كاريكاتيري لشاب يحاور مجموعة من النساء الساقطات، وكانت تلك هي أول مرة يتحدث فيها هيكل عن تحقيقه مع النساء الساقطات عام 1942 وهي القصة التي باتت الآن محفوظة لكل قراء الأستاذ. وفي الشهر التالي وتحديدا في 29 إبريل 1945 يعاود هيكل ذكرياته مرة ثانية على صفحات آخر ساعة، وذلك في تحقيق بعنوان الخبر الأول ويكتب المحرر قائلا ذكرى الخبر الأول في حياة الصحفي لا يعدلها إلا ذكرى الفتاة الأولى في حياته.. ذكرى فيها حلاوة وفرح.. فرح بوليده أو خبره الأول الذي كبر وكان من ذريته عشرات ومئات الأبناء. وفيما يلي يتحدث بعض محرري آخر ساعة عن خبرهم الأول وعن ظروف ولادته وفي الخبر الأول يتحدث هيكل عن المشاكل التي جناها حين أعمل الفكر والخيال في صياغة خبره الأول وكان من شأنها أن أستدعى لقسم البوليس وكاد يترك الصحافة كلها، وفي آخر ساعة تلقى هيكل أول قرصة أذن من أستاذه التابعي وكان ذلك في عام 1944 حينما كان يعد عددا خاصا من آخر ساعة عن السينما، وأخطأ أحد المترجمين في موضوع عن نجمة السينما الأمريكية جيل باتريك واعتبرها رجلا، وفي يوم صدور العدد ذهب هيكل إلى مكتبه في آخر ساعة وهو سعيد ليجد خطابا على المكتب فظن أنه خطاب شكر من الأستاذ التابعي بمناسبة صدور هذا العدد الممتاز فإذا بالخطاب يقول:

عزيزي هيكل

هذه أول مرة – فيما أعلم – تتحول فيها امرأة إلى رجل بسن قلم وكنت أظنها تحتاج إلى سن جراح!

محمد التابعي

ودخل هيكل ليتفاهم مع التابعي ولكنه رفض أن يعطيه فرصة للرد فقد كان يعتقد أنه أبدى رأيه في الموضوع وانتهى الأمر.

اقرأ أيضا

برنامج كشكش بيه: عندما قابل هيكل نجيب الريحاني

ثورة على الجو المسموم: دموع «وصيفة القصر» في سيارة هيكل

مشاركة

‫4 تعليقات

  1. تنبيه: buy benelli shotguns
  2. تنبيه: Yankees
  3. تنبيه: buy Cialis online

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر