لماذا اختفت احتفالات المولد الشعبية بالفيوم؟

هذا العام يأتي المولد النبوي بلا احتفالات شعبية في الفيوم، كما كان يحدث في الماضي. كما اختفت أيضا كل الاحتفالات بالموالد بطقوسها وعاداتها المتوارثة لسنين طويلة. ما ينطبق على الفيوم ينطبق على محافظات أخري، وتتعدد أسباب ذلك الاختفاء بين محافظة وأخرى.. «باب مصر» يبحث وراء تلك الظاهرة.

احتفالات المولد قديما بالفيوم

يقول الدكتور نبيل حنظل، الخبير السياحي، ومسؤول العلاقات العامة والسياحة في محافظة الفيوم، كانت مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي في الفيوم تنقسم إلى شقين ” رسمي، وشعبي”، حيث كان يتم الاحتفال رسميًا باستعراض كبير يشهده  محافظ الفيوم ومديرها، وممثلي الأزهر والاوقاف بالمحافظة، إضافة إلى كبار المسؤولين، الذين كان يطلون من شرفه في أحد المساجد الكبرى، وهى شرفه مسجد عبد الله بك المطلة على بحر يوسف، بينما تحتشد الجماهير على جانبى البحر يوسف وفي شرفات المنازل المحيطة لترى العرض، الذى كان يتجمع فى ميدان قارون ” السواقي حاليًا”، ويبدا من أمام مسجد عبد الله بك، يتقدمه قائد العرض ممتطيًا حصانه رافعا سيفه ليقدم التمام بجاهزيه العرض  وياخذ الأذن بالبدء.

يتابع حنظل: كان العرض يتكون من عدة مجموعات تمثل الجهات المشتركة فيه وهى: ( العرض العسكرى والشرطى، ويتكون من قوات رمزية من الجيش ومعداته، وقوات رمزية أخرى من عناصر الشرطة وفرق الأطفاء، وفرق موسيقى الشرطة النحاسية وراكبي الخيول، وعرض العربات والحملات الميكانيكية  التي تخدم الإقليم، مثل عربات النظافه فى الوحدات المحليه، بالإضافة إلى عرض لعربات الزهور .

الدكتور نبيل حنظل
الدكتور نبيل حنظل

يكمل حنظل: وتستعرض المؤسسات  الحكومية أنشطتها وتقديم تهانيها بالمناسبة من خلال، عربة تحمل ماكيت مزخرف يحمل شعارها، بينما يتم إذاعة بيان خدمات القطاع وإنجازاته من خلال ميكرفون مركب على عربة الزهور أو من خلال المطبوعات  التى توزع على الجماهير، كما تقدم الطرق الصوفية عرضًا يتقدمه حملة أعلامها، ثم يلي ذلك موسيقات  وطبول الطرق الصوفيه الراجلة أو الراكبة حيث كان بعض رجال الطرق الصوفية يركبون جمالاً يقرعون على طبول كبيره مزينة.

ثم يأتي عرض الحرفيين، وكان يقدم طابور الحرفيين عرضا لنشاط كل حرفه  على عربة مزينة تحمل اسم الحرفي وعنوانه، وتستعرض مهارته من خلال ميكرفون السيارة،  والإعلانات التي توزع على الجماهيىرـ وغالبا ما يجتهد كل حرفي فى تزيين سيارته، وتقديم إعلانه بشكل فكاهي.

المساجد تحتفل

بجانب العرض الرسمي، كان يقام احتفال آخر  داخل المسجد بحضور كبار المسؤلين  والجماهير، وتوزع الحلوى على الحاضرين إلى أن تقام  الصلاة، لتبدأ بعدها حلقات الذكر حتى مطلع الفجر، أما خارج المسجد فكانت تنتشر أنشطة تجاربة مثل بيع حلوى المولد النبوي الشهيرة.

يوضح حنظل:  وفي الجانب الثقافي كانت الصالونات الثقافية والمؤسسات والمدارس والنوادي الثقافية تحتفل بهذه المناسبة، ومن أبرز الشعراء الذين ألقوا قصائد في هذه المناسبة شعراء ندوة الأدب ومنهم  محمد كامل أمين ابن حنظل، مصطفى ابوهوله، عمر كيشار، محمد البسيوني  كمال عليوه، ومن أشهر الخطباء محمود مصطفى، أنور عبد التواب، محمود عبد الهادي  الشيخ عبد الله جبيلي، محمد ثابت، شمس الدين خفاجي المحامي.

الدكتور أيمن عبد العظيم
الدكتور أيمن عبد العظيم
مشايخ الفيوم

تضم الفيوم العديد من المشايخ، والذي كان الاحتفال بهم كل عام أشبه بكرنفالات شعبية، بجانب الاحتفال بالمولد النبوي، وبمرور الوقت اختفت تلك الاحتفالات، ومن أهم مشايخ الفيوم الذين كانت تقام لهم الاحتفالات بشكل سنوي، ويأتي إليها الأهالى من جميع قرى الفيوم هم: ( الشيخ الروبي، الشيخة مريم،  أبو الحارث، الشيخ الصوفي، وغيرهم الكثير)

وعن أسباب اختفاء الاحتفالات بمولد هؤلاء المشايخ يقول الدكتور أيمن عبد العظيم، الباحث والمتخص في التراث، والذي صدرت له عدة كتب عن تراث الفيوم:

أعتقد أن السبب الرئيسي في اختفاء تلك الاحتفالات يعود إلى التوسع العمراني وتطوره داخل الفيوم، حيث أن أغلب مقامات المشايخ في الفيوم تقع داخل الكتلة السكنية، في حين أن أغلب المحافظات تم التوسع العمراني في الظهير الصحراوى بها، لذا تختفي هذه الاحتفالات بها، عكس الفيوم التي كان اتساعها يتم حول البؤرة الأصلية القديمة، وكما هو معروف فإن تغير العمران دليل على التغيير الثقافي.

اختفاء الداعمين

يتابع عبد العظيم، هناك سبب آخر لأختفاء الموالد، وهو اختفاء الداعمين والذين كانوا ينفقون على الموالد من تحضير الأطعمة، استقبال مشايخ الطرق الصوفية، واذكر أن احتفالًا بالمولد النبوي كان يقام في” قرية غيضان” إحدى قرى الفيوم، وكان الأهالي يطلقون عليه ” مولد غيضان”، بسبب أن من كان ينفق كامل تكاليف إقامته بشكل سنوي هو ” الشيخ منصور غيضان” الرجل الأكثر ثراء في القرية، وهو الحال الذي كان له ما يشابهه في قرى كثيرة كان بها الكثير من الموسرين الذين بوفاتهم لم يوجد من يخلفهم.

أحد الأسباب الهامة لاختفاء الموالد بالفيوم وبحسب عبد العظيم، كان ظهور الجماعات الدينية التي رأت أن هذه الممارسات ” بدعة وحرام”، ومع انتشارأفكار تلك الجماعات تآكلت ثقافتنا الشعبية مع الوقت ولا يخفي على أحد أن الفيوم عانت من الجماعات الإرهابية منذ الثمانينات وهو ما ساعد في اختفاء ظاهرة الاحتفال بالموالد الشعبية بها، أما لأسباب أمنية أو لأسباب تتعلق بتغيير ثقافة الكثير الذين تبنز فكر تلك الجماعات بالفيوم أو الخوف منهم.

ضاع المولد

” اختفى المولد … كما اختفت معه كل المعالم التي تجاوزها الزمان، ودهسها المكان، وبقيت حلاوة ذكرياته مددًا لطعم ما  لم يعد حلوًا”، تلك الكلمات للدكتور نبيل الشاهد، أحد الكبار المتخصصين في دراسة سوسيولوجيا الظاهرة الدينية، وهو من أبناء قرية فيديمن، أحد أهم القرى التي كان يقام فيها أشهر موالد الفيوم مولد ” أبو الحارث” والذي كان يزوره الآلاف من أبناء الفيوم، والذي اختفى مثل غيره من الموالد الشعبية في الفيوم ، وحول ذكرياته مع المولد وأسباب اختفاءه يقول الشاهد:

مولد (أبو الحارت) هكذا كان يقول الأهالي في قريتي فيديمين حيث يبدلون حرف الثاء بحرف التاء، تلك القرية التي عرفت وسط قرى مركز سنورس عن طريق هذا الشيخ الذي دفن في مقام تعلوه قبة، تميزه عن باقي المدافن التي اطلق عليها الجبل تمييزًا لها عن سائر المناطق في قريتنا، التي امتازت عن غيرها من القرى المحيطة بزراعة أشجار الفاكهة المشمش والزيتون، والعنب، والمنجة (هكذا أيضًا ننطقها، والتي جعلت كثافتها من قريتنا حديقة كبيرة، إن نظرت إليها من عل وجدت نفسك في جنة أرضية.

خاصة وأن بحر سنهور (هكذا أيضًا نسمي كل الترع المتفرعة عن بحر يوسف) يشقها نصفين، جهة بحرية تطل على الطريق الواصل بين فيديمن وسنهور، وسكنتها عائلات أشهرها: الأخن، أبو زيد، الحداد، كليب، الكبير، في حين سكنت باقي عائلات القرية في الجهة الغربية، ومن عائلاتها: الشاهد، البطن، أبو سلام، الشيمي، سويدان، أبو هند، برغوت، النشار، سوادة، الربعاوى، خضير، وغيرها من العائلات.

مقام الشيخ أبو الحارت

كان مقام الشيخ أبو الحارت مسيجًا أعلى الأرض بقضبان من المعادن الفضية والزجاج اللامع، وأقمشة من الحرير الأخضر تحيط بأركان المقام الذي يتوافد عليه أصحاب الحاجات، طلبًا لقضائها، وخاصة من النساء اللاتي ينذرن نذورًا خاصة: للحبل وتسهيل الولادة ونجاة الأطفال من الموت والشفاء من الأمراض والحصول على العمل والسفر والزواج وغيرها من طلبات الأحياء الذين يعتقدون أن شفاعة الشيخ أبو الحارت الذي يزخر التراث الشفاهي الشعبي في الفيوم بما فعل من كرامات لكل من توسل به، يمكنها أن تحقق طلبهم.

ويتابع الشاهد، لا توجد مراجع تاريخية أوكتب أدبية تقدم لنا أي ترجمة عن هذا الشيخ، ولا أحد يعلم لمن ينتسب، ولأي جهة يعرف، هو فقط الشيخ أبو الحارت الذي يقام الاحتفال بمولده في الخميس التالي لشم النسيم، المحدد بيوم الأثنين في بداية شهر مايو، تزامنًا مع عيد الفصح المسيحي، وبداية فصل الربيع، ليتضافر احتفال المسيحيين في الكنيستين البحرية والغربية في نفس قريتنا، مع احتفال المسلمين بمولد الشيخ، ولتصبح القرية في هذا الأسبوع مزرًا سياحيًا ومسرحًا فنيًا وسوقًا شعبيًا على طول شهر كامل استعدادًا للاحتفال بقدومهما، واستقبالًا للزائرين والبائعين والأقارب والأصحاب من القرى المجاورة.

دكتور نبيل الشاهد
دكتور نبيل الشاهد
مسرح مفتوح

ويتابع الشاهد، كان المولد علامة زمنية في حياة كل أهل فيديمين الذين يقرنون أحداث حياتهم بالمولد، (فالزواج كان قبل المولد اللى فات، أو بعد المولد بجمعتين، أو في الشتا اللي قبل المولد) وهكذا يكون التأريخ بالمولد علامة زمنية ثابتة في حياة الناس الذين يحرص من غادر منهم القرية على التواجد في جمعة المولد لرؤية من غاب أو عاد أو منعته الأحداث عن الالتقاء به طول العام.

في المولد تفتح البيوت، وتجهز المضيفة، ويكنس التختبوش(مساحة مسقوفة مستطيلة أو مربعة الشكل تقع بين فناء البيت و حديقته الخلفية)، وتقام الولائم، وتذبح الذبائح، ويعود المسافرون، وتقام الأفراح، وتقرأ فواتح العرس، وترسل العشيان (هكذا ننطقها) وتشمل الأطعمة والخضروات والفواكه للبنات في بيوت أزواجهن، كما يشتري الخاطب علبة حلاوة كبيرة ليقدمها لخطيبته مع العروسة الحلاوة يوم الخميس وهو يهديها ويتناول الغدا، مواعداً لها على اصطحابها للزيارة والفرجة صباح اليوم التالي..

وما يذبحه الجزارون في فيديمين في أسبوع المولد يضاهي ما يذبوحنه طوال العام، وعلى الجميع أن يأكل من الذبائح ويشتري، غريبًا كان أم زائرًا، لأنها أطيب من أي لحوم تقدم طول العام، لأنها ببساطة “لحمة الشيخ”، وفيها “حلاوة وطعامة مش في أي لحم”، بتعبير من سمعتهم من الرجال والنساء، لأنها باختصار لحمة مبروكة.

***

وعن الألعاب في المولد يقول الشاهد، في المولد كل ألوان اللعب والترفيه والضحك والبهجة والمسرة، وقل ما شئت من ألفاظ الفرح والسرور التي يعبر بها الناس عن سعادتهم بالمولد، وخاصة من الأطفال والشباب والبنات الصغار اللاتي يذهبن، للجبل للمشاهدة والشراء، حيث تباع فيه أيضًا كل أنواع الحلوى وكل أنواع المشروبات، كما كان فيه العديد من الألعاب الجسدية والعقلية والمهارية ابتداء من:

ضرب المدفع، لركوب المراجيح الكبيرة والصغيرة والزقزيقة الدوارة، والنشان “التصوويب ببنادق الرش على البمب المعقود بالأسلاك،  وإلقاء العملات المعدنية على علب السجائر، وبنك الملاليم، أو بنك الحظ، والذي كان عبارة عن مقامرة بالأموال بين صاحب البنك والزائر، أو لعب “التلت ورقات”، انتهاء بـ”الترك” الذي هو”السيرك” والذي كان عبارة عن مجموعة من الخيام الكبيرة التي تقدم فيها ألعاب: المهرج، والساحر، والغناء، واللعب بالنار، والتصويب بالسكاكين حول جسد فتاة، وفقرات الراقصات حيث كان الرقص الفرجة الأهم التي يحرص أغلب زوار المولد على مشاهدته بشكل متكرر، لقد كان ليل القرية التي تضاء شوارعها بنور الكلوبات  أشبه بمسرحًا مفتوحًا.

الأن ذهب المولد وتوارت ذكرياته مع ضياع مكانه، بوصول الكهرباء للبيوت والشوارع، وحضور وسائل التكنولوجيا الحديثة، ومدن الملاهي والمناطق السياحية، وزيادة نسبة التعليم بين الناس، وانتشار ثقافة دينية دخيلة حرمت الاحتفال بالموالد، وكفرت من يزور الأولياء ويتقرب لهم، ومنذ سنوات تم بناء معهدًا دينيًا في ساحة الجبل الفسيحة لتكون نهاية المولد مع نهاية الساحة. واختفى المولد واختفت معه كل المعالم التي تجاوزها الزمان، ودهسها المكان، وبقيت حلاوة ذكرياته مددًا لطعم ما لم يعد حلوًا.

اقرا أيضا:

«عصيدة العسل الأسود ولحم الماعز».. أهم الأطباق في المولد النبوي بمطروح

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر