في ذكرى ميلاد سيد درويش.. هذا ما تبقى من ميراث "فنان الشعب"
مكان له تاريخ شهد ميلاد فنان صنع تاريخ، هو كوم الدكة، أحد أقدم أحياء مدينة الإسكندرية، ويتفرع من أقدم شوارع الإسكندرية شارع فؤاد، في 17 مارس عام 1892.
درويش هو سيد وشيخ المجددين في الموسيقي المصرية خاصة، والعربية بشكل عام، فقد ترك أكثر من 250 لحنًا، تنوع بين الموشحات والأدوار، بالإضافة إلى الأغاني الوطنية، ونحو 20 أوبيريت.
موهبة الشيخ سيد بدأت تظهر بعد أن تعلم قراءة القرآن وأصبح مؤذنا لمسجد الشوربجي في حي التراث “كوم الدكة”، فكان يلقي قصائد الشعر ويرتل القرآن نظير مقابل مادي رمزي، بحسب ما ورد في كتاب إدوارد لويس “سيد درويش والموسيقى العربية الحديثة”.
في السادسة عشرة من عمره تزوج الشيخ سيد، ليصبح مسؤولًا عن أسرة كاملة ويوفر متطلبات الحياة له ولغيره ممن يتحمّل مسؤوليتهم، فعمل فترة قصيرة مع الفرق الموسيقية وجوقات الأفراح، لكن لم يحالفه الحظ فاضطر إلى تكسُّب رزقه كعامل بناء، ليترك عمله مرة أخرى ويعود إلى الموسيقى.
يتعرف الشيخ سيد على الأخوين أمين وسليم عطا لله، صاحبي إحدى الفرق المسرحية الشهيرة فى الشام، ومن خلال رحلاته إلى بلاد الشام تعرف و تتلمذ على الموسيقى العراقى الشيخ عثمان الموصلى الذي لقب بشيخ الموسيقيين العرب، وعلى أيدى عدد من فنانى وأساتذة الموسيقى فى الشام
تسجيلات نادرة للشيخ عثمان الموصلي
ثورة في الموسيقى
بعد عودته إلى مصر أحدث نقلة في الألحان و الأغاني، فكانت كثير منها وطنية لمقاومة الاحتلال البريطاني، وبدأ الشخ سيد يثور على قوالب وأنماط الموسيقى السائد في ذلك الوقت، معبرًا عن طبقات الشعب الكادح، في ألحان بسيطة يمكن أن يتغنى بها العامة، منها “أنا هويت وانتهيت ، “اهو ده اللي صار”، “زوروني كل سنة مرة”، “الصهبجية”، “محسوبكوا انداس”، و العديد من الأغاني والتوشيحات والأوبريتات.
لقب سيد درويش “بمجدد الموسيقى العربية ” بسبب طابع ألحانه المميز فقد كتب للصحافة مقالات موسيقية موقعة بـ“خادم الموسيقى سيد درويش“، لتوعية الجمهور والتثقيف الموسيقى العام.
وعندما بلغ الثلاثين كان يهم بتنفيذ مشروع له بالاشتراك مع إميل عريان مخترع البيانو الشرقي، إذ فكر في تأسيس شركة تحت عنوان “أغاني الشعب” لطباعة هذه الأغاني وتوزيعها.
على رغم ما قدمه سيد درويش من ألحان لعدد كبير من المطربين والمطربات، وسجّل معظم الألحان التي أبدعها بصوته، إلا أن معظم هذه التسجيلات ضاعت واندثرت، إلا ما أُعيد تأديته، أو ما عثر عليه لدى ورثته.
وكما يحكي محمد قابيل في كتابه“الأغاني الحلوة و الأغاني المرة و أساليب التلحين العربي” عن سيد درويش أنه استخدم في أعماله المسرحية والغنائية ما يعرف بالأسلوب التعبيري في التلحين، كما لحن أغنيات يشارك فيها أصوات عديدة مثل “ياحلالك يابلالك بيها يا حلالها يا بلالها بيك”، فقد كان مسرحه- كما يذكر المؤلف- تعبيرا عن المعاني بالنغم العربي.
سيد درويش و المسرح الغنائي
لا يوجد مرجع يتناول تاريخ المسرح المصري في الربع الأول من القرن الماضي، إلا ويذكر اسم سيد درويش ضمن أحد رواد المسرح الغنائي، بعد الشيخ سلامة حجازي، الذي يعد الرائد الأول في هذا القالب الفني في مصر.
وقد كان لثورة 1919، التي شاركت فيها جميع طوائف الشعب، دور في التأثير على الحركة المسرحية، فلم يكن أمام الفرق المسرحية إلا أن تسير مع الثورة، بعد أن وجدت الثورة وقودها من الأغاني التي يمكن أن تخلق مسرحًا غنائيًا يواكب هذه الثورة، وكان صاحب الفضل في نهضة المسرح الغنائي هو الشيخ سيد درويش، بحسب ما ورد في كتاب”المسرح و التغيير الاجتماعي في مصر، من تأليف الكتور كمال حسين.
وجد سيد درويش نفسه في الثورة المصرية، بعد أن كاد يقتله الركود في فرقة جورج أبيض، وفرقة سليم عطا الله، وانضم إليه نجيب الريحاني وبديع خيري، بعد أن جرفهم تيار الثورة أيضًا.
قدمت فرقة الريحاني اعمالا استعراضية تشعل الثورة و تغذي الوعي مثل استعراض “قولوله” و”كشكش بيه”، ولا ننسى ذكر دور أغاني وموسيقى سيد درويش في هذه المسرحيات، ومن اشهرهم استعراض في مسرحية “إش”، وفي نفس المسرحية عرضت أغنية “قوم يا مصري”.
كما لحن لفرقة علي كسار” راحت عليك ولسه” “وأم أربعة وأربعين “والبربري في الجيش” والهلال، وجزء من “أوبريت الانتخابات”، ولحن لفرقة منيرة المهدية كلها يومين والفصل الأول من أوبريت كليوباترا وأنطونيو، ولحن لأولاد عكاشة الدرة اليتيمة.
كان لتعاون بديع خيري في كتابة الأوبريتات مع سيد درويش ونجيب الريحاني أثره على إثراء هذا الفن المسرحي في تلك الفترة، ومن أبرز الأوبريتات التي قدمها بديع خيري: العشرة الطيبة- الفلوس- البرنسيس- مجلس الأنس.
في الحي
إذا تجولنا الآن بين دروب وأزقة الحي، الذي نشأ فيه درويش سنجد قهوة تحمل اسمه، تعلوها صورته تخليدا له، على حد قول مالك القهوة، وفد تجد أحاديث جانبية للرواد القهوة عن الزيارات اليومية من مختلف الجنسيات لهذا الحي، لما يحمله من بعد تاريخي و ثقافي.
و عندما تتجاذب معهم أطراف الحديث- خاصة كبار السن منهم- تجد علامات السعادة و الفخر وهم يتحدثون عن ذكرياتهم عن هذا الفنان و عائلته، ومنهم من يؤكد أنه كان يجلس على هذا المقهى و آخرون ينفون مؤكدين أنها تحمل اسمه تخليدا لذكراه فقط.
مرتديا قبعة تشبه قبعة ” الخواجات” يبدأ شعبان حمزة حديثه مفجرًا مفاجأة عن أسماء المقاهي داخل الحي، التي تحمل اسم فنان الشعب، يقول إن أغلبها أنشئت بعد وفاته، وتحديدا بعد ثورة 1952، كما أن المقاهي القديمة التي كان يجلس عليها بالفعل سيد درويش أسفل الحي، هما “مقهى حافظ” ومقهى دكة الدرويش، وأغلب روادهما الآن من الصعيد و النوبة.
أين منزل “سيد درويش”
كل ما مضى يدفعنا إلى أن نبحث بشغف عن منزل هذا الفنان الذي تشم رائحة فنه في كل ركن من أركان هذا الحي.
“لا وجود لمنزل سيد درويش الآن” هكذا يقول أحد أطفال، بالفعل بعد البحث عرفنا أنه منذ أكثر من عشر سنوات هدم منزل سيد درويش وملأته القمامة، و كل ماتبقى منه لافته بالقرب من المنزل المهدم كتب عليها “شارع سيد درويش- كوم الدكة سابقا”
أما عن منزل أولاده وأحفاده، الذي يقع في نفس الحي بشارع “الوردي” كان يسكن فيه محمد البحر درويش، والد الفنان إيمان البحر درويش، لكن بعد وفاة محمد البحر وزوجته، أغلق المنزل منذ تسع سنوات على حد قول سكان العمارة، التي كان يسكن فيها عائلة البحر، ومؤخرا هدم منزل العائلة ضمن سلسلة هدم المباني التي تشهدها الإسكندرية لكن هذه المرة كانت بالتراضي بين سكان العقار والملاك.
ريتاج طفلة تسكن أمام منزل فنان الشعب، أطلت برأسها من الشرفة المطلة على المنزل المهدم بجوار والدتها تتأمل القمامة التي أصبحت هي الساكن الوحيد لحطام هذا المنزل، وكأن لسان حالها يقول: ماذا تبقى ينتظر جيلي من تراث فنان حفر اسمه في تاريخ مصر بإبداعه؟
وتقول والدة ريتاج إن المنزل هدم منذ فترة طويلة، فقد كان يسكنه أسرة لا تنتمي بصلة قرابة للفنان الشعب، والمنزل هو ملك ورثة عائلة الشيتوي من سكان منطقة كوم الدكة و ملاك قهوة الشيتوي.
وفي نفس السياق يقص عبدالسلام محمد، صاحب ورشة، أحد سكان حي كوم الدكة، المراحل التي سبقت هدم المنزل، أن المنزل في البداية كان يسكنه رجل مسن يدعى “عم عبد الله” مع نجله، ثم بدأ جدار المنزل يتشقق، وبعد ذلك سكن المنزل ساكن آخر يدعى فوزي، ومكث فترة يعاني من المرض بعد تشقق السقف أكثر، فقرر ملاك العقار إخراج سكان المنزل وحدث هذا بعد نزاع انتهى باستخراج مالك العقار قرار بالهدم.
و عن فكرة تحويل منزل سيد درويش لمتحف، الذي تداولتها وسائل الإعلام قبل الهدم بعدة سنوات، يضيف عبد السلام أن هذا لم ينفذ، رغم حفلات إحياء تراث فنان التي كانت تقام هناك، وكان من الحضور حفيده الفنان إيمان البحر درويش، الذي كان يريد أن يتحويل منزل جده إلى متحف يحمل مقتنياته.
ويقول حسن البحر درويش، أستاذ بكلية هندسة جامعة الإسكندرية، الحارس القضائي مع ابن عمه الفنان إيمان البحر درويش على تراث جدهما، إن لديه أسطوانات و مقتنيات نادرة لجده، وكان يحلم أن يتحول منزله إلى متحف يحوي هذه المقتنيات وبالفعل حاولوا التفاوض مع مالك العقار ، ورثة السيد الشيتوي، أحد سكان الحي، لكنه أصر على الهدم.
على الجانب الآخر يقول محمد الشيتوي إنه لم يأت أحد من أسرة البحر للتفاوض معه بشأن منزل سيد درويش، وأنه أراد الهدم للاستفادة من الأرض في بناء عقار سكني، وقد استخرج أوراق قانونية للهدم من الحي.
وعن القمامة التي أصبحت تملأ الأرض أضاف الشيتوي أنه حاول أكثر من مرة رفعها وأنشأ سورًا يحيط بالأرض لمنع إلقاء القمامة بها لكن لم تفلح جهوده.
وتقول داليا عزت، مفتش آثار، مسؤولة الوعي الأثري غربي الإسكندرية، إن التراث في القانون يجب أن يمر عليه أكثر من 100 عام حتى يدخل في المباني الأثرية، لذلك قد يكون مالك العقار استخرج قرار الهدم قبل مرور 100 عام على وفاة الفنان.
سيد درويش وماتبقى
على الرغم من أنك عندما تسير في منطقة محطة الرمل وشارع فؤاد وحتى داخل كلية الفنون الجميلة ستجد تمثال أو مدرسة حتى الأوبرا و جدارية تحمل صورة واسم سيد درويش، إلا أن كثير من سكان الإسكندرية لا يعلم أين منزل سيد درويش أو ماذا حدث له، رغم إرتباط اسمه بحي كوم الدكة.
لكن ما زالت كل الأعمار تتجرع من تراث هذا الفنان الذي سبق جيله و أحدث ثورة في عالم التلحين و الموسيقى و يكفي أن نشيدنا الوطني “بلادي بلادي ” من الحانه و كما أعطى و أثرى الفن الموسيقي في وقت قصير فقد رحل صغيرا في العقد الثالث من عمره عام 1923 تاركا كل هذا الميراث الفني الخالد.