التطرف والكومباوند وتهريب الآثار: الواقع وفقا لـ دراما رمضان!

مهما قلنا عن الفارق بين الفن والواقع، وأن الفن ليس مرآة، ولكنه الوجه الآخر، المخفي، للواقع، وأنه ليس انعكاسا للواقع بقدر ما هو “واقع الانعكاس”، كما يقول المخرج جان لوك جودار.

لكن المرء، أمام هذا الاعصار المسمى بدراما رمضان، لا يملك سوى ملاحظة هذه العلاقة الجذرية بين موضوعات وقصص وأفكار معظم هذه الأعمال بما يعتمل في واقعنا من ظواهر وصراعات ومشاكل وسلوكيات. وفي كثير من الحالات، بتتبع ردود الفعل التي تثيرها هذه الأعمال على مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن أيضا أن ندرك بوضوح كيف تؤثر الدراما في الواقع وحياة الناس. وأقصد هنا التأثير المسطح، المباشر، وليس التأثير الفني، العقلي والروحي، الفردي والاجتماعي والانساني الذي تحدثه الأعمال العظيمة.

ويبقى أن أحاول تفسير الكلام السابق بأمثلة وتفصيل أكثر.

هناك تأثير يمكن أن يحدثه عمل واحد، ويمكن تطبيق هذا على مسلسل “الاختيار” بأجزاءه الثلاثة، أو على الجزء الأخير فقط. يتناول هذا العمل وقائع وشخصيات حقيقية غالبا، مطعمة بقليل من الخطوط والشخصيات الخيالية لزوم الصنعة الدرامية. ورغم هذا الوجه “الواقعي” البحت للعمل، لكن ذلك لم يحل دون نشوب اختلافات وخلافات حادة في الرأي حول مدى واقعية الواقع الذي يقدمه المسلسل.  وبقدر ما ساهم تصديق الأحداث والشخصيات في مضاعفة تأثير العمل لدى كثير من المشاهدين، بقدر ما ساهم تكذيبها وانكارها في نفور وغضب، بل وجنون، مشاهدين آخرين.

**

ينطبق ذلك على مسلسل “بطلوع الروح” أيضا. كلما كان الموضوع الذي يتناوله العمل خلافيا واستقطابيا في الواقع، كلما كان العمل الدرامي الذي يتناوله مثيرا للخلاف والاستقطاب في الآراء بين المشاهدين. ويمكن مقارنة الأمر هنا بما يحدث بين مشجعي فريقي كرة القدم في الملعب: كل مجموعة لا ترى سوى فريقها فقط (جزء ووجه واحد من واقع الملعب) ولا يهمها إذا ما كان فريقها يستحق الانتصار أم الهزيمة، أو كان يلعب جيدا أم لا. باختصار، ليس هناك واقع “واحد”، وأي عمل هو”واقعي” لمن يصدق هذا الواقع، و”غير واقعي” لمن ينكره.. يعني لن نتفق كلنا، أبدا، إذا ما كان عمل ما “واقعي” بالفعل، أم لا.

هناك واقع آخر يمكن استخلاصه ليس من عمل واحد فقط، ولكن من مجمل عدة أعمال تتناول موضوعا واحدا، وتنتج خلال زمن ومكان واحد.

خذ عندك مثلا تأثير وسائل الاتصال الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي على حياة المصريين، كما تظهر في دراما رمضان، وسوف يمكنك استخلاص بعض التحليلات والقراءات الجيدة لواقعهم.

خذ عندك أيضا مواقع التصوير: هذه العمارة الغريبة والفضاء الغرائبي وثقافة الكومباوند المغلق، الذي تدور فيه معظم الأعمال. هل السبب هو صعوبة التصوير في الأماكن الواقعية أم الكسل أم أن مؤلفي وصناع هذه الأعمال يعيشون في واقع افتراضي لا يختلف كثيرا عن الهاتف المحمول الذي يعيشون في عالمه ليلا نهارا؟

هل تعكس مسلسلات الكومباوند، وبعضها ساهمت بعض شركات المقاولات من ملاك “الكومباوندز” في تمويلها وانتاجها، هذا الواقع الجديد الزاحف علينا تدريجيا، والذي يمكن أن يمحو قريبا معالم ألف عام من تاريخ القاهرة، ومئتي عام من تاريخ الأسكندرية الحديثة؟ واقع يتسلل ليلا وينبت في وجوهنا كل صباح دون أن نراه، لكنه يتجسد حيا في الانحسار التدريجي للمدينة القديمة والطبقات المتوسطة والشعبية وفي صعود المعالم العمرانية الجديدة، الرشيقة مثل عارضات “الفتارين” البلاستيكية، الأنيقة كصور مجلات الديكور.. واقع ينبئ بمزيد من الطبقية والانقسام والعنف، كما يظهر من قراءة وتحليل هذه الأعمال.

**

خذ عندك، مثلا، مسلسل “المشوار”، وهو أحد الأعمال القليلة جدا التي صورت مشاهدها في شوارع القاهرة والأسكندرية، إن لم يكن الوحيد. الاستثناء هنا يؤكد القاعدة، والمطاردة الدائمة التي تتعرض لها أسرة ماهر (محمد رمضان) في المدينتين تدفع بهم باستمرار نحو الحافة، نحو الهروب إلى الكومباوند والصحراء، خارج المدينة. وحلم ماهر، ابن حي “دار السلام” القادم من الريف، هو أن ينضم وأسرته إلى مجتمع الكومباوند، حيث الفيلا المحاطة بالأسوار وحمام السباحة الخاص، لكنه، حتى بعد أن يصل إلى هذا المكان، كما يشير المشهد الأخير، لن يشعر بالأمان وسيظل مطاردا.

واقع آخر يمكن استخلاصه من بعض “الثيمات” المتكررة في عدد من المسلسلات، مثل جريمة تهريب الآثار.

نظرة عابرة إلى مسلسلات الأعوام السابقة تبين انتشار “تهريب الأثار” في الدراما، ويمكن الإشارة إلى أسماء مسلسلات مثل “طايع”، “نسر الصعيد”، “المماليك”، وهذا العام إلى مسلسلات “المشوار”، “العائدون” و”أمل فاتن حربي” و”مكتوب عليا” وربما في أعمال أخرى. يبدو أن تهريب الآثار أصبح الجريمة المفضلة لكثير من كتاب الدراما الآن، وربما الجريمة المفضلة لكثير من المصريين بكل عام.

يحتاج هذا الزعم إلى تأكيد أو نفي من “مباحث الآثار” وإدارة الكسب غير المشروع. ولكن المؤكد أن هناك هيستريا جماعية تسري في أوصال كثير من المصريين، خاصة في الريف والأحياء القديمة، اسمها التنقيب عن الآثار. وهي ظاهرة تحتاج إلى رصد وبحث. لكن بالنسبة لعملنا الذي يقتصر على تحليل الدراما، فإن تهريب الآثار، كما يظهر في المسلسلات، يبين أولا انتشار الظاهرة بين كل الفئات والطبقات، كما يبين التباين في موقف الناس منها. في “المشوار” مثلا لا أحد يشكو أو يرفض الفرصة عندما تسنح له، ولا أحد يعتبرها “حرام” أو جريمة، ويبدو أن الجميع مستعدون للمشاركة في الجريمة باستثناء ضابط الآثار. ودعك من حبكة الحلقة الأخيرة المصاغة على طريقة أفلام المخدرات في الثمانينات، التي كانت تجمل تعاطي وتهريب المخدرات باستثناء مشهد هجوم البوليس في الدقيقة الأخيرة!

**

في أعمال أخرى مثل “العائدون” ينتمي تهريب الآثار إلى الجرائم الوطنية الكبرى التي تقارن بالخيانة والاضرار بمصالح البلد. هل يعني ذلك أن لا أحد يتعامل مع تهريب الآثار كجريمة سوى نصوص القانون والجهات المسئولة عن مكافحتها؟ هل يحتاج الأمر إلى مزيد من التوعية في وسائل الإعلام والتعمق في كتابة الدراما لتبيان مدى خطورة هذه الجريمة وآثارها الوخيمة، مثل غسيل الأموال، على الاقتصاد، أو مدى قبحها وتأثيرها المدمر للهوية والشعور بالانتماء والحس الأخلاقي بشكل عام؟

الواقع والفن وجهان لعملة واحدة، لكن كل منهما يقول الشئ بطريقة مختلفة ويقرأ بطريقة مختلفة.

اقرأ أيضا:

شعرة «المشوار» وتكرار مشاهد «راجعين يا هوى» أبرزها: أخطاء وكوارث في دراما رمضان

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر