فؤاد حجاج: صرخة الصباح والمساء

الصرخة هي البوابة التي عبر منها فؤاد حجاج إلى عالم الشعر، وقد حدث الأمر بمعناه الحرفي، فقد بدأ الكتابة عندما تلاقت صرخة الموت مع صرخة الميلاد.

في عام 1967 كانت أمه في زيارة أسرة صديقة وعادت إليه بخبر عن نجل هذه الأسرة الذي كان جنديا في الجيش واستشهد في الحرب، وفي اليوم نفسه كانت زوجة ذلك الجندي تضع أول مولود لها.

وعندما حكت الأم تلك الحكاية تلبَّسه شوق غريب للبوح، وهكذا صرخ بلسان هذا الرضيع الذي أتي للدنيا وكتب عليه ألا يرى والده، فكانت أول قصيدة له، وقد حملت اسم “صرخة جنين” ونشرها في ديوانه الأول “وادي الخوف” وكان يعتبرها الميلاد الحقيقي له في عالم الشعر.

لقد كانت صرخة الجنين الذي مات والده في الحرب، هي البوابة التي عبر منها فؤاد حجاج إلى عالم الشعر، والصرخة كما هو معروف، واحدة من بوابات الشعر القديمة والخالدة، وهي ترتبط بالشعر ارتباطا مباشرا من خلال الرثاء، أحد أبرز الأغراض الشعرية العربية، والذي يظهر امتداده العميق في حياتنا الشعبية من خلال “العدودة”.

حكاية الصرخة

مفهوم الصرخة أوسع وأعمق كثيرا من الرثاء بمعناه الشائع، كما أن الصرخة تحمل البصمة الخاصة بكل شاعر، البصمة التي تجسد مدى وعيه بالشعر، ومدى انشغالاته الحياتية، ومدى إحساسه بوجوده الداخلي والخارجي.

إن صرخة المولود التي ترجع إلى عام 1967 لم تكن صرخة عابرة، بل كانت علامة بارزة في كيانه الشعري، وقد تجلت في مظاهر كثيرة، ونجدها على سبيل المثال تظهر بقوة سنة 2001، في واحد من أشهر أعماله، وهو أغنية مسلسل “حديث الصباح والمساء “الذي أعده محسن زايد عن قصة لنجيب محفوظ، والتي كانت من تلحين عمار الشريعي، وغناء أنغام.

الأغنية رغم بساطتها تعبر عن تجربة الشاعر بشكل كامل، ومنها هذا الجانب الذي يربطه بنجيب محفوظ ويتجلى في أكثر من عمل فني آخر، وتقول كلماتها:

مين فينا جاي مرساها

مين رايح؟

لحظة ميلاد الفرح

كان فيه حبيب رايح

يابو الروايح يا نرجس

..

ما تجس وتر القدر

تلقى حكايات البشر

فيها عديد العبر

فيها عبير العبر صابح

..

زى النهار الطفل لما ينفلت

من بين أيادي الضلمة ويشقشق

أنا شفت روح الحق لما أتسللت

صرخت في وش الخرس انطق

آدي البشر أوراق

فيها عديد العبر صابح

..

بان في عيون العصر لما زغللت

الليل يجيها يحنى ضهر الزين

أنا شفت روح الخطوة لما أتبرجلت

عكازها ماشى بالخطى على فين

آدي البشر أوراق

فيها عبير العبر.. صابح

تداخل الأزمنة

تقوم الأغنية هنا على التداخل بين زمنين أو صوتين، أو رمزين، ودائما ما نجد ذلك التداخل في أعمال الشاعر المختلفة.

إن لحظة ميلاد الفرح هنا، هي ذاتها لحظة ذهاب الحبيب، لقد اجتمع الحضور مع الغياب، كما يتداخل الطفل مع الفجر عبر الصورة الشعرية، ليتحول إلى رمز كوني يعبر عن الصراع الدائم بين النور والظلام، كما تظهر الصرخة رمزا لـ”روح الحق” التي يمثلها الشاعر نفسه، فالشعر هو المولود الذي خرج إلى الدنيا في أيام النكسة المظلمة، والشهيد هو الأوجاع المصرية بتجلياتها كافة، تلك الأوجاع التي تحضر بشكل دائم في تجربة فؤاد حجاج بطولها وعرضها، الأوجاع التي يتمسك بها الشاعر حتى النهاية، كما هو الحال في عمله الشعري الشهير، “حبة عشم في المحروسة”، الذي قدمه عام 2007، والذي يعتمد على صوتين صوت المطرب، وصوت الشاعر، والذي قام بإلقائه في أكثر من مائة مكان مختلف، بالاشتراك مع الفنان “فايد عبدالعزيز”.

إن ارتباط الصرخة بأوجاع المصريين، لعب دورا قويا في تحديد التوجهات الفنية للشاعر، كما لعب دورا في تحديد مفهومه للشعر، والذي ارتكز على فكرة الجمهور العادي، وتحفُظِه على التجريب الشعري المكتوب بالعامية المصرية، باعتباره يشكل عائقا يمنع الشعر من الوصول إلى الناس، وكل ذلك ظهر في لغة الشاعر، وصوره الشعرية.

لقد انشغل شاعرنا بالأوجاع المصرية طوال حياته، وقد أثر ذلك في كتابته، لكن تجربته احتفت أيضا بالإنساني، وانشغلت بتلك السنن التي يخضع لها البشر جميعا، ولم تكن صرخته الطويلة خالية من الطابع التأملي، وهذا ما نجده أيضا في كلمات تتر النهاية لمسلسل حديث الصباح والمساء، يقول الشاعر:

الصبح طفل برئ

ومساه يبان تجاعيد

وفوق طريق الأيام

تجرى الحياة مشاوير

ونشوف ملامح الزمن

متعاده في المواليد

وإحنا البشر كلنا

أعمار ورق بيطير

دايرة تدور بالبشر

وياّ الزمان بتفوت

دمعه على اللي مضى

و دمعة فرح بالجاي

يا حىّ طول مانت حي

مسيره ييجي الدور

دي حكاية متكرّرة

من يوم ولادة الضىّ

..

ياللىّ أنت عايش حياة

بص لها

تلقاها سبحة هنا

وتنفرط بالعمر مانشوفهاش

ولا شيء يعطّر حياتنا

يمد في مداها

غير سيرة عاشت هن

أكتر صاحبها ما عاش

صراع دائم

إن الصراع بين الصرخة (رمز الميلاد) والخرس (رمز الموت) لا يتوقف عند حدوده التاريخية التي تربطه بأحداث معينة، بل يعبر في نفس الوقت عن صراع كوني يتكرر كل يوم، إنه سمة من سمات الحياة، وكل فرد يُعتبر ساحة لذلك الصراع، واللحظة التي يرحل فيها كل إنسان عن عالمنا يولد من جسده طفل جديد، إنه سيرته فوق الأرض، وهي كائن آخر له حياته المستقلة، و التي قد تكون أفضل من حياة صاحبها من حيث قدرتها على تحدي الزمن.

لقد رحل فؤاد حجاج لكنه ترك حكاية جميلة في حب مصر، كما ترك سيرة إنسانية رائعة، وحفر بصمة ساحرة في وجدان كل من تعاملوا معه، وكان نموذجا لتطابق الشاعر مع قصيدته.

اقرأ أيضا

صدمة مذبحة أبي حزام: علاج الثأر – 4

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر